في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
يتصدر النقاش حول مستقبل الحكم في قطاع غزة أروقة السياسة الدولية والإقليمية، وسط تساؤلات عن قدرة المجتمع الدولي على إيجاد صيغة انتقالية تتجاوز إخفاقات التجارب الدولية السابقة.
وفي حين أكدت الفصائل الفلسطينية خلال اجتماعها في القاهرة توافقها على تسليم قطاع غزة إلى لجنة فلسطينية مؤقتة من أبناء القطاع تتشكل من المستقلين "التكنوقراط"، تسعى جهات دولية لفرض إدارة أجنبية انتقالية على القطاع، وفق أحد السيناريوهات التالية المقترحة:
على الصعيد الفلسطيني، أكد رئيس حركة حماس في غزة خليل الحيّة لقناة الجزيرة -يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي- أن الحركة ستُسلم مقاليد الإدارة -بما فيها الأمن- للجنة وطنية توافقية، مع الحفاظ على وحدة القرار الوطني.
كما أكد الحية أنه "ليس لدى الحركة أي تحفظ على أي شخصية وطنية مقيمة في غزة لإدارة القطاع، وستسلم كل مقاليد الإدارة بما فيها الأمن".
وتبرز الحاجة إلى تحليل ومقارنة السيناريوهات المطروحة في ضوء تجارب الإدارات الدولية السابقة، مثل كوسوفو، وتيمور الشرقية، والعراق، والبوسنة والهرسك، بجانب نموذج السلطة الفلسطينية ، لتقييم مدى قابليتها للتطبيق في غزة بعد انتهاء الحرب.
عقب حرب استقلال كوسوفو عن صربيا عام 1999، تولت الأمم المتحدة عبر بعثة "الأمم المتحدة للإدارة المؤقتة في كوسوفو" (UNMIK) إدارة الإقليم، ووصف الأمين العام آنذاك، كوفي عنان، التجربة بأنها "نموذج لبناء السلام من الصفر".
لكن التجربة أظهرت أن فرض السلام من الخارج جعل الدولة رهينة للجهات المانحة، ولم تتمكن كوسوفو من بناء جيش أو مؤسسات مستقلة فعليا.
وهو ما أراده الصرب، ورغم تعهد الرئيس الصربي الأسبق بوريس تاديتش بعدم اللجوء للقوة لمنع هذا الاستقلال، فإنه قال: "لا يمكن اعتبار كوسوفو دولة ذات سيادة ونرفض الاعتراف باستقلالها".
ولا تزال كوسوفو في صراع مفتوح، ولا تزال صربيا تعتبر كوسوفو رسميا جزءا من أراضيها.
في عام 1999، خضعت تيمور الشرقية لإدارة الأمم المتحدة بعد انفصالها عن إندونيسيا، وأصبحت دولة مستقلة رسميا.
لكن المتنفذين في تيمور الشرقية أسسوا علاقات اقتصادية وإدارية غير مؤسسية مع الجهات الدولية، فطغى على البلد عدم الاستقرار السياسي وغياب الإصلاحات.
وقد وصف الزعيم الثوري السابق خوسيه راموس هورتا، الحاصل على جائزة نوبل للسلام، تجربة بلده بأنها "خلّفت نخبة مرتبطة بالمانحين وانقطع المجتمع عن جذوره".
بعد غزو العراق عام 2003، تولّت السلطة الائتلافية المؤقتة التي خضعت لقيادة الإدارة الأميركية إدارة شؤون البلاد.
وتحت إشراف وزارة الدفاع الأميركية، تم تشكيل سلطة الائتلاف المؤقتة، وهي الوكالة المدنية المكلفة بإعادة إعمار العراق بعد الحرب، برئاسة بول بريمر ، الذي كان المهندس للمحاصصة الطائفية وواضع أسس الفساد وإشاعة الفوضى وتحطيم مؤسسات الدولة.
وفي 23 مايو/أيار 2003، أصدرت السلطة الأمر رقم 2 "حل الكيانات"، الذي قضى بحل كل من وزارة الدفاع العراقية، والجيش، والقوات الجوية، والبحرية، وغيرها من المؤسسات الأمنية والعسكرية.
هذا القرار ترك مئات الآلاف من الجنود والموظفين الحكوميين بلا عمل أو راتب، مما خلق فجوة اقتصادية واجتماعية وأمنية، وأسهم في تصاعد الهجمات المسلحة ضد قوات الاحتلال.
كما أشار تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش لعام 2006 إلى أن تفكيك المؤسسات الأمنية ترك آلاف العراقيين بلا دخل، مما فاقم حالة الفوضى.
وتوضح الوثائق الرسمية والتقارير الدولية أن هذه السياسات لم تكن مجرد أخطاء إدارية، بل خطوات مدروسة من الإدارة الأميركية لإضعاف الدولة العراقية بشكل مباشر.
فالتجربة العراقية بعد 2003 تُظهر بوضوح أن الإدارة الأميركية تتحمل مسؤولية مباشرة في تفكيك مؤسسات الدولة، وتشكل تحذيرا لأي تدخل أجنبي يمارس تفكيكا منظما لمؤسسات الدولة من دون بناء بديل متماسك.
منذ اتفاق أوسلو ، يجمع نموذج السلطة الفلسطينية بين الحكم الذاتي والإشراف الأجنبي المكثف، حيث أشرف الجنرال الأميركي كيث دايتون على تدريب الأجهزة الأمنية. وجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام خطةٍ أمنية أميركية تتم فيها مقايضة الأمن بالاقتصاد.
وبعد 30 عاما، وجد الفلسطينيون أن الاتفاقيات تغرق السلطة بطلبات تعجيزية، وتسحب منها التمويل والتمثيل والثروات والقدرة على الحركة. ويرجع ذلك أيضا إلى أسباب داخلية تتعلق بالسلطة، التي لم تجب عن أسئلة الذات ولم تضع الأسئلة المرحلية والإستراتيجية الصحيحة، خصوصا في هذه المرحلة وابتعادها عن مواطنيها.
تشير بيانات مركز الأبحاث الفلسطيني لعام 2023 إلى أن "87% من سكان الضفة غير راضين عن أداء السلطة ويعتبرونها امتدادا لإدارة أمنية تخدم الاحتلال".
تُظهر التجارب أن نزع السلاح بعد الصراع قضية سيادية وليست تقنية فقط، كما تظهر التجارب السابقة أخطار الموافقة على نزع السلاح، إذ أصبح السلاح جزءا من رقابة القوى الأجنبية، وكان له تأثير واضح على القرارات الوطنية والهوية الثقافية.
وربما تخلص التجارب الدولية السابقة إلى أن أي مسعى لنزع السلاح قبل قيام دولة ذات سيادة ومؤسسات أمنية راسخة قد يُعيد إنتاج سيناريوهات الفوضى والانقسام.
توالت دعوات نزع سلاح المقاومة في غزة من قبل جميع الأطراف، وتبنتها السلطة الفلسطينية على لسان رئيسها محمود عباس في خطابه بالأمم المتحدة يوم 25 سبتمبر/أيلول 2025، إذ دعا حركة حماس والفصائل الأخرى إلى تسليم سلاحها للسلطة، مؤكدا ضرورة "دولة بقانون واحد وقوات أمن شرعية واحدة".
في المقابل، أكد خليل الحية أن "سلاحنا الذي نحمله، نحن وكل الفصائل الفلسطينية، مرتبط بوجود الاحتلال والعدوان، فإذا انتهى هذا الاحتلال وأقيمت لنا دولة فلسطينية، فهذا السلاح وحاملوه سيتحولون إلى الدولة".
وترى المقاومة أن السلاح يظل مرتبطا بالدفاع عن الأرض ومواجهة الاحتلال، وليكون أداة أمنية داخلية لحماية المدنيين وضمان الاستقرار، مع التحذير من خطر السلاح المنفلت الذي قد يُستغل للعنف الداخلي أو ضد المدنيين.
أما بخصوص القوات الدولية والأممية، فقد أكدت الفصائل الفلسطينية -على لسان الحية في اللقاء المتلفز على قناة الجزيرة- قبولها بالقوات الأممية بوصفها قوات فصل ومراقبة للحدود ومتابعة لوقف إطلاق النار، مشددا على أن القرار الأممي سيحدد نوعية هذه القوات ومدتها وآليات عملها. وأشار إلى أن هذا التوافق تم مع حركة فتح أيضا.
تشكل النماذج السابقة تحذيرا كبيرا للتجربة الانتقالية في غزة، لكي لا تكرر تجارب الإدارات الأجنبية، إذ تنمو أضرار وكوارث التبعية طرديا مع أي توسيع لدور المانحين في تحديد ميزانية القطاع أو الإشراف على مشاريع إعادة الإعمار.
وقد أشار تقرير مكتب المفتش العام لإعادة إعمار العراق لعام 2024 إلى أن الصناديق الخارجية غالبا ما تكون أداة ضبط سياسي وضغط اقتصادي، وقد تحول الإدارة الأجنبية عملية الإعمار إلى أداة للضبط السياسي والاقتصادي، بدلا من أن تكون رافعة للتنمية والسيادة المحلية.
وعلى سبيل المثال، وثّق مكتب المفتش العام لإعادة إعمار العراق 2006 ومؤسسة كارنيغي للسلام الدولي 2018 أن العراق أنفق ما يصل إلى 60 مليار دولار ضمن برامج الإعمار، مع بقاء آثار عميقة على مؤسسات الدولة وارتفاع نسب الفساد، بينما لا تزال كوسوفو تعتمد على الدعم الخارجي.
وفي هذا السياق، يحذر الخبير الاقتصادي عمر شعبان، بعد حرب 2014، من أن آليات الإعمار التي تقودها الأمم المتحدة والدول المانحة أعادت إنتاج الحصار وفتحت المجال للفساد.
واليوم، يؤكد خبراء محليون ودوليون أن أي إدارة خارجية مشروطة لإعادة إعمار غزة، ما لم تُبنَ على سيادة القرار الفلسطيني واستقلال صندوق الإعمار، قد تعيد إنتاج أدوات السيطرة نفسها التي شهدتها التجارب السابقة.
تقف الإدارة الوطنية في غزة أمام تحديات هائلة تتعلق بملفات إعادة الإعمار والنزوح الداخلي والاستقرار الاجتماعي، في ظل أضرار غير مسبوقة طالت البنية التحتية والاقتصاد.
ووفقا للتقرير المشترك الصادر عن الأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي، فإن احتياجات إعادة الإعمار في غزة و الضفة الغربية تقدر بنحو 53.2 مليار دولار على مدى 10 سنوات، منها نحو 20 مليار دولار عاجلة مطلوبة خلال السنوات الثلاث الأولى.
كما تُقدَّر الأضرار المادية بنحو 30 مليار دولار، والخسائر الاقتصادية بما يقارب 19 مليار دولار، وفق ما جاء في التقرير المنشور على مواقع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وفي الميدان الإنساني، تواصل وكالة أونروا تسجيل موجات نزوح داخلي لمئات الآلاف، مع تعثّر في المساعدات وتوفير الطعام والعلاج، مما يبرز حجم التحدي الإنساني المباشر الذي تواجهه المؤسسات المحلية.
وتحذر تقارير أممية من أن تأخر الإعمار سيؤدي إلى تدهور إضافي في قطاعات الزراعة والمياه والتعليم والمرافق الصحية، مما يفاقم من أخطار النزوح الداخلي ويهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي على المدى الطويل.
تُظهر تجارب كوسوفو وتيمور الشرقية والعراق والإدارات الأجنبية فيها، وكذلك تجربة غزة، أنها اتخذت غالبا شكل صيغة استعمارية محدثة ووصاية بغطاء إنساني من الخارج، وكانت أداة لتكريس نفوذ القوى الغربية المنتصرة.
وفي حالة غزة اليوم، ينبغي استحضار تقرير معهد كارنيغي للسلام الدولي في الثالث من ديسمبر/كانون الأول 2018، الذي أشار إلى أن الكيانات غير المعترف بها دوليا تواجه أخطار "الاعتراف الزاحف"، إضافة إلى تحديات داخلية مرتبطة بضعف البنية القانونية والإدارية واعتمادها على المساعدات الخارجية، مما يحد من قدرة أي إدارة أجنبية على ممارسة صلاحياتها بشكل كامل.
ومن المهم أيضا استحضار تقرير البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في فبراير/شباط 2025، الذي جاء فيه أن "تحقيق استقرار مستدام في غزة يتطلب حلولا تراعي السيادة الفلسطينية وتوازنا بين الدعم الدولي والقرار الوطني، لتجنب تكرار التجارب السابقة في مناطق أخرى".
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة