منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش سنة 1999، رسمت الرؤية الملكية السامية ملامح مقاربة جديدة لقضية الصحراء المغربية. هذه الرؤية تجاوزت منطق النزاع العقيم نحو منطق الحل السياسي الواقعي، حيث جعلت من الشرعية الوطنية منطلقا، ومن الشرعية الدولية أفقا للتكامل.
لقد أرسى الملك محمد السادس رؤية استراتيجية تقوم على الثبات في المبدأ والمرونة في الوسيلة، فغدت الصحراء المغربية قضية بناء دولة حديثة أكثر من كونها مجرد نزاع ترابي. ومن هنا برزت مبادرة الحكم الذاتي كتعبير أوفى عن هذه الرؤية، باعتبارها الركيزة الأساسية للدبلوماسية المغربية في الدفاع عن الوحدة الترابية داخل المنتظم الدولي.
إطار سياسي واقعي
منذ تقديم مبادرة الحكم الذاتي، رسخ المغرب مصداقيته الدولية بفضل وضوح الرؤية وثبات الموقف.وهو ما أكد الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة عيد العرش لسنة 2025، حيث قال “إننا نعتز بالدعم الدولي المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي، كحل وحيد للنزاع حول الصحراء المغربية… وبقدر اعتزازنا بهذه المواقف، بقدر ما نؤكد حرصنا على إيجاد حل توافقي، لا غالب فيه ولا مغلوب.”
هذا التوجه أكد أن المغرب لا يبحث عن انتصار ظرفي، بل عن حل دائم يقوم على الواقعية السياسية واحترام السيادة الوطنية. لذلك تبنت الأمم المتحدة المبادرة كمرجع جدي وواقعي منذ القرار 1754 إلى القرار 2756 الصادر سنة 2024، ما جعلها الإطار الأممي الوحيد المعتمد لتسوية النزاع.
من الدفاع إلى البناء
منذ إطلاقها، حظيت المبادرة بدعم واسع من القوى الكبرى كالولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وألمانيا والإمارات. وقد وصفتها قرارات مجلس الأمن المتعاقبة بأنها “جادة وواقعية وذات مصداقية”، ما جعلها الإطار المرجعي الوحيد لأي حل سياسي.
وفي خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2021، أكد الملك محمد السادس أن ” مغربية الصحراء حقيقة ثابتة لا نقاش فيها… واعتراف دولي واسع.”هذا الدعم الدولي لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة للدبلوماسية الملكية النشيطة التي نجحت في تحويل المبادرة من مقترح مغربي إلى مرجعية دولية قائمة بذاتها.
أحدث تقديم المبادرة سنة 2007 تحولا مفاهيميا في المقاربة المغربية، إذ انتقل المغرب من الدفاع عن موقفه إلى صناعة الحلول وقيادة المسار الأممي.فقد أفرزت المبادرة تصورا متكاملا يوفق بين مبدأ تقرير المصير ومبدأ الوحدة الترابية، عبر آلية سياسية مرنة تستجيب لمعايير الأمم المتحدة.
بهذا الانتقال، أعاد المغرب صياغة النقاش الدولي من ثنائية “الانفصال أو الاندماج” إلى منطق “التدبير الذاتي ضمن السيادة الوطنية”، وهو ما شكل ثورة حقيقية في معالجة الملف.
البعد الملكي والسيادي
مبادرة الحكم الذاتي ليست مقترحا إداريا أو مناورة دبلوماسية، بل تجسيد لرؤية ملكية متجذرة في فلسفة الدولة المغربية الحديثة.
فمن خلال هذه الرؤية، أعاد الملك محمد السادس تعريف مفهوم السيادة. لم تعد السيادة تعني السيطرة الجغرافية فقط، بل القدرة على بناء مشروع وطني جامع يقوم على المشاركة والاندماج.
هي سيادة تمارس بالحكمة والانفتاح، وتُترجم عبر مشاريع تنموية ومؤسساتية تُعزز الوحدة الوطنية وتستوعب التعدد في إطار دولة قوية ومتضامنة.
تحولت مبادرة الحكم الذاتي إلى محور استراتيجي للدبلوماسية المغربية. فهي المرجع الذي يؤطر كل المرافعات المغربية في الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والمحافل الدولية.
وبفضلها، انتقلت الدبلوماسية المغربية من مرحلة التبرير إلى مرحلة التأثير، مستندة إلى قوة الحجة وشرعية المبادرة.
كما ساهمت في تفكيك الخطاب الانفصالي الذي فقد كل مشروعية سياسية، أمام طرح مغربي عملي وواقعي يقدم رؤية تنموية مندمجة.
ترجمة واقعية للحكم الذاتي
لم يتوقف المغرب عند الجانب السياسي، بل جسد مضمون المبادرة على أرض الواقع من خلال مشاريع كبرى في الأقاليم الجنوبية.
فمنذ إطلاق النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية سنة 2015، شهدت مدن العيون والداخلة تحولا جذريا ببنيات تحتية حديثة واستثمارات استراتيجية في الطاقات المتجددة والموانئ والتعليم العالي.
بهذه الدينامية، مارس المغرب مضمون الحكم الذاتي فعليا قبل اعتماده دوليا، ما منح مبادرته قوة ميدانية ومصداقية مضاعفة.
مقومات نجاح المبادرة
وحسب الطرح المغربي، يستند نجاح مبادرة الحكم الذاتي إلى أربعة عناصر رئيسية:
الوضوح المفاهيمي: تحدد المبادرة بدقة صلاحيات الحكم الذاتي في إطار السيادة الوطنية.
الواقعية السياسية: تراعي توازن المصالح الإقليمية والدولية.
الشرعية القانونية: تنسجم مع مبادئ الأمم المتحدة وتجارب التسوية المعاصرة.
المصداقية الميدانية: تتجسد عبر التنمية الملموسة في الأقاليم الجنوبية.
هذه المقومات جعلت المبادرة المغربية الخيار الوحيد القابل للتطبيق، والمخرج الواقعي للنزاع المفتعل حول الصحراء.
مرجعية دولية
بعد ما يقارب عقدين على طرحها، أصبحت مبادرة الحكم الذاتي جوهر الرؤية الملكية ورمز المصداقية المغربية في تدبير القضايا السيادية.لقد برهنت التجربة أن هذه المبادرة ليست مجرد مقاربة تفاوضية، بل مشروع دولة يرسخ نموذج السيادة القائمة على المشاركة والاندماج.
وبفضل القيادة الحكيمة للملك محمد السادس، تحولت الصحراء المغربية إلى فضاء للاستقرار والتنمية، وإلى نموذج في الربط بين الشرعية السياسية والفعالية التنموية.
ومن ثم يمكن القول بأن مبادرة الحكم الذاتي ليست مجرد وثيقة سياسية، بل رؤية استراتيجية لبناء السيادة المغربية الحديثة.فهي تجسد فلسفة الدولة المغربية التي تجمع بين الوحدة والتنوع، وبين الهوية والانفتاح، وبين الدبلوماسية والتنمية.
وبفضل هذه الرؤية الملكية أصبحت الصحراء المغربية عنوانا لمغرب يكتب تاريخه بالعمل والإنجاز، لا بالشعارات، ويصوغ مستقبله بثقة في مشروعية قضيته وعدالة موقفه.
المصدر:
العمق