في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
أكد المفكر والوزير السابق والأستاذ الجامعي عبد الله ساعف، أن علم السياسة في المغرب راكم تجربة معرفية ممتدة منذ الاستقلال، غير أن هذا التراكم ظل محكوما بتحولات السياق السياسي والاجتماعي، وبصراعات منهجية ومعرفية أثرت في تشكل هوية هذا الحقل داخل الجامعة المغربية.
وأوضح ساعف، خلال مداخلة أكاديمية تناولت تطور علم السياسة بالمغرب، أنه سبق له تقديم تشخيصات دورية لأوضاع هذا التخصص منذ ثمانينات القرن الماضي، سواء داخل المغرب أو في محافل دولية، مشيرا إلى أن المشهد كان يتغير تقريبا كل عشر سنوات، سواء على مستوى الممارسة البحثية أو طبيعة المواضيع التي تستقطب اهتمام الباحثين.
وسجل المتحدث ذاته، خلال الدرس الافتتاحي للموسم الجامعي 2025-2026 الموسوم بـ”علم السياسة بالمغرب، السلطة والمسؤولية الفكرية”، أن المرحلة الراهنة تختلف جذريا عن الثمانينات والتسعينات، سواء من حيث عدد الجامعات والشعب المتخصصة، أو من حيث حجم الإنتاج العلمي وتنوعه، مبرزا أن المغرب يتوفر اليوم على ما يفوق 14 جامعة، إضافة إلى توسع لافت لشعب العلوم السياسية، خصوصا داخل القطاع الخاص، ما يستدعي إنجاز دراسات مونوغرافية دقيقة ترصد طبيعة الأبحاث، واتجاهاتها، ومحاورها، وكيفية اشتغالها منهجيا.
وشدد ساعف على أن تقييم وضع علم السياسة لم يعد ممكنا بالاعتماد على الإحصاء العددي فقط، بل يتطلب قراءة نوعية للإنتاج العلمي، وتحليل الأدبيات المتراكمة، وتحديد القضايا التي حركت البحث الأكاديمي، مع التساؤل عن المواضيع التي ظلت مهمشة أو ما سماه بـ“الزوايا الميتة”، رغم غناها التحليلي وقدرتها على النفاذ إلى أعماق المجتمع المغربي.
وفي هذا السياق، أشار إلى أن البحث في علم السياسة ظل، في فترات طويلة، متأثرا بالمواضيع ذات الطابع الرسمي أو الظرفي، مثل الانتخابات، والدساتير، والمراجعات الدستورية، والقضية الوطنية، مقابل ضعف الاهتمام بمواضيع اجتماعية بنيوية، من قبيل الخريطة الاجتماعية، والتحولات الطبقية، وموقع الطبقات الوسطى، وقضايا الشباب والأسرة والمرأة، رغم توفر معطيات إحصائية غنية كان من شأنها تغذية البحث العلمي.
وسجل ساعف أن السنوات الأخيرة عرفت بروز موجات بحثية جديدة، فرضتها تحولات عالمية كبرى، من بينها جائحة “كوفيد-19”، والكوارث الطبيعية، والحروب، وعودة الدولة القوية، وتعزيز أدوارها الاجتماعية، إلى جانب صعود قضايا الرقمنة، والتكنولوجيا، والبيئة، والتغيرات المناخية، معتبرا أن هذه التحولات أسهمت في تراجع إشكالية “الانتقال الديمقراطي” التي هيمنت على البحث الأكاديمي منذ بداية التسعينات.
وفي محور آخر من مداخلته، توقف عبد الله ساعف عند إشكالية الهوية التخصصية لعلم السياسة، مبرزا أن هذا الحقل واجه منذ نشأته صعوبات في إثبات استقلاله داخل كليات الحقوق والعلوم الاجتماعية، حيث ظل عرضة للتداخل مع تخصصات أخرى كالتاريخ، وعلم الاجتماع، والاقتصاد، والفلسفة السياسية، مؤكدا أن ما يميز علم السياسة هو تركيزه المركزي على قضايا السلطة، والحكم، والدولة، وآليات السيطرة والتأثير.
كما شدد على ضرورة التمييز بين الخطاب العلمي في علم السياسة والخطاب الصحفي أو الرأي العام، محذرا من الخلط بين التحليل المعرفي المبني على مفاهيم ومناهج دقيقة، وبين المواقف السياسية أو الانطباعات اليومية، معتبرا أن هذا الخلط ساهم في سوء فهم أدوار الباحثين لدى بعض الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين.
وتطرق ساعف أيضا إلى الصراعات المنهجية التي وسمت تطور علم السياسة بالمغرب، بين المقاربات الكمية القائمة على الإحصائيات والمؤشرات، والمقاربات النوعية المرتبطة بالفلسفة السياسية والتحليل المفاهيمي، مبرزا أن التوجه الحديث يميل إلى المزج بين المنهجين من أجل إنتاج معرفة أكثر عمقا ودقة.
كما استحضر النقاشات التي عرفها الحقل حول علاقة الباحث بالانتماء السياسي، بين من يرى في الحياد شرطا للعلمية، ومن يعتبر أن الانخراط السياسي لا يتعارض بالضرورة مع البحث الأكاديمي، مستحضرا في هذا السياق أطروحات ماكس فيبر حول فهم الظواهر الاجتماعية من الداخل دون السقوط في التحيز.
وختم عبد الله ساعف مداخلته بالتأكيد على أن علم السياسة في المغرب يوجد اليوم في طور بناء متقدم نسبيا، لكنه لا يزال مطالبا بتعميق اشتغاله على الديناميات الداخلية للمجتمع، وتعزيز استقلاله المعرفي، وتوضيح حدوده التخصصية، في ظل تنامي الإقبال الطلابي على هذا الحقل، وتساؤلات مشروعة حول دلالات هذه “النهضة” وعلاقتها بالتحولات السياسية والاجتماعية الراهنة.
المصدر:
العمق