في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في لحظة تاريخية تسقط فيها الأقنعة الغربية بدعمها الصريح للإبادة في غزة، وتتصدع صورتها الأخلاقية أمام العالم، يظل العقل العربي أسيرًا لجاذبيتها، عاجزًا عن فك ارتباطه الفكري والثقافي بها. ما الذي يشلّ إرادتنا الحضارية؟ ولماذا، في ذروة الأزمة، يبدو الانقسام بين نخبنا أعمق من أي وقت مضى؟
وهذه ليست مجرد أسئلة سياسية عابرة، بل هي جوهر المأزق الوجودي الذي تعيشه الأمة اليوم. وللغوص في أعماق هذا الانسداد الحضاري، وتشريح أسباب التبعية المستدامة، تحاور "الجزيرة نت" المفكر المصري الدكتور إبراهيم البيومي غانم، في حوار يتجاوز توصيف الأعراض إلى محاولة كشف جذور الأزمة.
بصفته أستاذًا للعلوم السياسية، وعضوًا في مركز دراسات مقاصد الشريعة، ومستشارًا سابقًا لبرامج الأمم المتحدة، يمتلك الدكتور غانم رؤية مركبة تجمع بين صلابة التحليل الأكاديمي وعمق البصيرة الفقهية والخبرة الميدانية. ومن خلال مساره الفكري المتنوع، يقدم لنا أدوات لفهم غياب الفكر الاستراتيجي، ومآلات المشاريع الإصلاحية، وجدوى الحديث عن "تجديد الخطاب" في ظل واقع لا يزال محكومًا بشروط الهيمنة.
في هذا الحوار، الذي هو أشبه بجلسة تشريح فكري للحظة استثنائية من تاريخنا، نبحث مع الدكتور البيومي غانم عن إجابات لأسئلة مصيرية: كيف يمكن لأمة أن تتحرر وهي لا تزال تفكر بعقل مستعمِرها؟ وما السبيل للخروج من دائرة التبعية التي تلتهم حاضرنا ومستقبلنا؟ ويجيب خلال هذا الحوار، عن غياب الفكر الإستراتيجي، ومآلات المشروع الإصلاحي، وجدوى "تجديد الخطاب"، ومكانة العلوم الاجتماعية في مجتمعاتنا، في محاولة للكشف عن جوهر الأزمة الحضارية التي نعيشها، لا توصيف أعراضها فقط. فإلى الحوار:
العدو الإسرائيلي، على مستوى ما يمارسه من أعمال الإبادة والتوحش، لا يمثل نفسه فقط، وإنما يمثل المنظومة الفكرية الغربية الأوروبية الأميركية، التي هي من تداعيات ما بعد الحداثة في جوهرها المعرفي، والتي تمثل "الشر المطلق" -حسب طه عبد الرحمن- في التاريخ العالمي المعاصر. وقيام هذا العدو بدور الإبادة يعبر عن عمق الرداءة التي يمكن أن ينحدر إليها نموذج الدولة الوظيفية (إسرائيل في هذه الحالة).
ليست إسرائيل أول من يبيد العرب والمسلمين، فقد سبقتها دول الاستعمار القديم، ولا تزال تمارس هذه الإبادة بكل ما لديها من وسائل ناعمة وخشنة، مباشرة وغير مباشرة، على مدى قرنين من الزمن وربما أكثر.
ولو كان فعل الإبادة سببا كافيا للانزياح عن المركزية الغربية فكريا وثقافيا، لحدث ذلك قبل قرن من الزمان على الأقل.
في رأيي، أن السبب الأكبر هو الانقسام النخبوي الحاصل في بلادنا بين مرجعيتين معرفيتين: الأولى المرجعية الأصيلة الموروثة، والثانية المرجعية الوافدة المقتحمة.
الأولى تتبناها النخبة (الإسلامية والقومية)، والثانية تتبناها النخبة العلمانية والمستغربة. هذا هو الانقسام الأشرس الذي يفتك بقوى أمتنا منذ أكثر من مئة سنة. وقد نجحت مدارس الاستشراق ومذاهب العلوم الاجتماعية المقتحمة لبلاد أمتنا في ترسيخه وتغذيته وتحديثه كلما تآكل من هنا أو من هناك.
هذا الانقسام ليس انقساما سطحيا أو عابرا بحيث يمكن ردم الفجوات التي يحدثها في صفوف أمتنا، أو تجاوزه تحت وقع أحداث وأهوال الإبادة؛ بل هذه الأهوال تغذيه باستمرار، وتجعل النخبة العلمانية المتغربة أكثر شراسة في التشبث بالمرجعية المعرفية الاحتلالية الوافدة من المركزية الغربية، وتجعل النخبة الإسلامية والقومية أكثر تشبثا بمرجعيتها الموروثة الأصيلة المعبرة عن هوية أمتنا.
لا يحدث الانزياح الثقافي والمعنوي دفعة واحدة، ولا تحت تأثير حدث واحد، ولو كان هائلا كالذي تمر به أمتنا ويشاهده العالم صباح مساء من مجازر مروعة وفظائع غير مسبوقة في تاريخ الحروب والصراعات المسلحة. ومع كل هذا، فإن الانزياح حاصل على مستويات مختلفة وبمعدلات متزايدة. هو حاصل على نطاقات أوسع من ضحايا هذه الفظائع.
الانزياح يحدث حتى داخل النخب الغربية والأميركية، والأدلة والوقائع كثيرة ومتلاحقة، منها: زيادة معدلات التحول إلى الإسلام في المجتمعات الغربية، والمظاهرات ضد العدوان وضد السياسة الأميركية والأوروبية في عواصم بلادهم، وصعود أصوات وازنة من المفكرين والفلاسفة والساسة الغربيين ينتقدون أسس المركزية الأوروبية، ويتحدثون عن فقدانها للحس الإنساني وعدائها للحياة.
يحدث هذا ويتراكم يوما بعد يوم داخل أوروبا وأميركا، وفي أنحاء مختلفة حول العالم، ونحن في قلب هذه التحولات كلها.
أول تلك التأثيرات وأوضحها: استمرار حالة الانقسام المرجعي المزمن في أوساط النخب الفكرية والثقافية والعلمائية في بلاد أمتنا. لدينا طابور فكري خامس لا يزال متشبثا بمقولات ورؤى هذه المركزية، وهذا الانقسام هو أقوى الجيوش التي تهدم قوى أمتنا من الداخل. والسماح ببقاء الفريق العلماني المستغرب يعني السماح بطابور خامس وسادس وعاشر من العملاء العاملين في خدمة المركزية الغربية وتيسير ممارسة سيطرتها على مجتمعاتنا، وقهرها، وقمع أي محاولة لنهضتها.
وطالع بنفسك مواقف هؤلاء من حملات الإبادة التي تتقدمها إسرائيل، ومن ورائها، وربما من أمامها، قوى الغرب الإمبريالي الأميركي الأوروبي، وستجد الصورة واضحة، وستجد سبب عدم انزياحهم عن ثقافة المركز الأوروبي المهيمن أكثر وضوحا. هنا لب الإشكال، ومن هنا يبدأ الحل. والحل هو وجوب إزالة هذا الانقسام بإزاحة فريق العملاء الحضاريين بمرجعيتهم المعرفية الوافدة، وتوجيه النقد الصارم لها، وفضح مخاطرها، وكشف وظيفيتها في خدمة السيطرة الغربية على أمتنا.
هذا بعض المتوقع على مستوى أمتنا. أما على مستوى المركزية الغربية ذاتها؛ فأهم ما أتوقعه هو تعميق تيار النقد الإنساني داخل المنظومات الفكرية والفلسفية الغربية، وتعزيز تيارات التمرد الفلسفي، والأدبي، والمدني ضد تلك الممارسات، وضد الأفكار التي تنبعث منها وتستند إليها.
ومثل هذه التحولات تؤكد ما كررنا القول فيه مرارا في مناسبات سابقة، وهو: أن أزمة الحداثة الغربية لم تعد قابلة للحل من داخلها، ولا بد من اقتحامها من خارجها، وفي عقر دارها، وحيثما وجدت. وهذا هو السبيل المفتوح لإنقاذ البشرية من سوء المصير الذي تقودها إليه هذه المركزية الإقصائية اللا إنسانية.
الشعبوية في البلدان الغربية باتت عنوان السياسة في عديد من البلدان الأوروبية منذ بدايات هذا القرن الحادي والعشرين مع صعود اليمين المتطرف، وها هي ذي تبلغ ذروتها المقززة مع ترامب في الولايات المتحدة.
هي، من جهة، لحظة تاريخية كاشفة لزيف "التمدن الغربي"، وفاضحة لثبات معاييره ووحدة مكاييله، وليس ازدواجيتها.
بعكس ما هو شائع في الخطاب السياسي والإعلامي؛ لم تكن الدول الغربية الأوروبية الأميركية مزدوجة المعايير أو المكاييل تجاه أمتنا أو تجاه أمم الجنوب في يوم من الأيام، بل كان معيارها ومكيالها واحدا وثابتا على طول الزمن، وعلى عرض جغرافيا ما هو غير غربي.
هذا المعيار الواحد والمكيال الواحد هو: إنكار إنسانية غير الأوروبي والأميركي من أساسها، واستباحة كل ما يملكه "الغير" من ثروات وهوية وثقافة وحضارة، وحاضر، ومستقبل.
وهل نحن بحاجة لأدلة اليوم أوضح من تصريحات قادة العدو الإسرائيلي إبان عدوانهم الهمجي على غزة؟ أو أوضح مما فعله ترامب ويفعله، أو قاله ويقوله؟
إن أصول هذا المكيال راسخة في فلسفة "عصر الأنوار" كما يسمونه، وهي مستمرة في مختلف موجات التقدم الغربي. وترسخت فلسفتها في القرن التاسع عشر، حيث وضعت فيه كل منظومات الاستعلاء "الغربي الحديث" المبنية على الإقصاء والإبادة الفكرية والمعنوية والجسدية، كلما لزم الأمر.
آرثر جوبينو قالها في الربع الأول من القرن التاسع عشر، وأسس لها في أكثر من كتاب، وفوشيه دي لابوج قالها في مطلع القرن العشرين، وذهب إلى أن القتال في مطالع القرن الحادي والعشرين سيكون على أساس لون العينين، وملمس الشعر، وحجم الجمجمة!!
وكانت لحظة انفجار هذه العقيدة الإبادية في أوروبا إبان الحربين الأولى والثانية، لكي يتم انتخاب الأقوى الذي يستحق القيام بمهمة إبادة الآخر خارج القارة العجوز.
ثم إن هذه الوحشية قد مارستها قوى الاستعمار، وافترست بلادنا وبلاد الجنوب على مدى القرنين الأخيرين، ولا تزال آلتها الإبادية تحصد الأرواح، وتنهب الثروات، وترتكب الفظائع دون حسيب أو رقيب.
وهم، وأكبر وهم: أن نستمر في ترديد القول بأن معايير الغرب "مزدوجة" أو أن مكاييله مختلة. غير صحيح. بل معاييره واحدة، ومكاييله ثابتة لا يعدلها ولا يغيرها؛ معاييره ثابتة وواحدة في داخله باعتبار أن مواطنيه هم "الإنسان"، وثابتة وواحدة خارجه باعتبار الآخرين وأمتنا في مقدمتهم مجرد "كائنات حية" أقل من مستوى الإنسان.
سؤال التجديد ملتبس طوال الوقت في مجتمعات أمتنا ونخبتها الإصلاحية. لماذا؟ لأنه مفتقر إلى الشرط الضروري والكافي لانطلاقه، وهو: التطبيق.
الشرط الوجودي للتجديد هو أن تكون المنظومة الفكرية التي يسعى للتجديد فيها قيد العمل والتطبيق، وليست مركونة في هوامش النظم والممارسات والمعاملات والتفاعلات المجتمعية بمختلف مستوياتها
سؤال التجديد ملتبس طوال الوقت في مجتمعات أمتنا ونخبتها الإصلاحية. لماذا؟ لأنه مفتقر إلى الشرط الضروري والكافي لانطلاقه، وهو: التطبيق.
خذ مثلا ما أُثير ولا يزال يثار بشأن "تجديد الخطاب الديني"؛ أي معنى للتجديد هنا؟ ومن الذي يضعه أو يحدده؟ ومن المسؤول عنه؟ وهل حقا يمكن إرساء مناقصة تجديدية للخطاب الديني تطرحها سلطة حاكمة هنا أو هناك على جهة أو مجموعة من "العلماء" أو من المثقفين؟
إن لم يكن هذا عبثا ولهوا، فما هو العبث واللهو إذن؟!! الشرط الوجودي للتجديد هو أن تكون المنظومة الفكرية التي يسعى للتجديد فيها قيد العمل والتطبيق، وليست مركونة في هوامش النظم والممارسات والمعاملات والتفاعلات المجتمعية بمختلف مستوياتها.
والسؤال ليس عن أي المنظورات أوفق للتجديد في علم الكلام أو في غيره من العلوم، السؤال الأسبق منه هو: هل ما يوصي به هذا العلم أو ذاك قيد التطبيق والتنفيذ أم لا؟ هل هو حاضر في الممارسات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والقضائية العدلية ومن ثم يواجه مشكلات ونوازل غير مسبوقة؟ إن كانت الإجابة نعم؛ فهنا تبدأ الخطوة الأولى للتجديد المثمر المنتج المفيد النافع.
أما إن كانت المرجعية العليا التي يستند إليها علم الكلام أو الفقه أو التفسير مقصاة عن مكانها؛ فلا يرجع إليها حاكم أو قاض، ولا اقتصادي أو تاجر، ولا فنان أو شاعر أو أديب، فكل حديث عن التجديد هو مضيعة للوقت، وملهاة في قلب المأساة.
ما قلته حتى الآن ينطبق على مختلف العلوم. أما بخصوص "علم الكلام" وتجديده تحديدا؛ فهو ليس استثناء مما قلته. ولو كانت المسألة متوقفة على إنتاج نص فكري جديد يخاطب الواقع وأبناء العصر، إذن لكانت مشكلة تجديد علم الكلام قد حلت منذ أصدر الإمام محمد عبده "رسالة التوحيد" في الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري/ مطلع القرن العشرين الميلادي، أو "رسالة العقائد" للشيخ البنا. فهذه أو تلك وافية، ولا أفضل منها حتى اليوم في تجديد النظر في علم الكلام، ولكنها بقيت حبيسة دفتيها للسبب الذي شرحته.
ومن التراث القديم، ألا يكفي افتتاح صاحب "الكشاف": "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما، ونزله بحسب المصالح منجما، وجعله بالتحميد مفتتحا، وبالاستعانة مختتما، وأوحاه على قسمين: متشابها ومحكما، وفصله سورا، وسوره آيات، وميز بينهن بفصول وغايات"؟!!
على الجانب الآخر، أقول: إن مجرد طرح فكرة تجديد علم الكلام الإسلامي انطلاقا من منظور العلوم الإنسانية الحديثة يعني إضافة فصل "حديث" من العبث الفكري والتخريب المعرفي المرجعي. وأقصى ما يمكن الإفادة به من تلك العلوم هو: استخدامها في بيان الفروق المعرفية بين المرجعية الإسلامية الإنسانية، والمرجعية الحداثية اللاإنسانية في مجملها طبعا، مع اعترافنا بوجود أصوات هنا أو هناك في المدارس الغربية ترفض هذا التوجه المتوحش معرفيا وسياسيا في عمق المركزية الغربية.
عمر الإصلاحية الفكرية الحديثة في تاريخ أمتنا الحديث بلغ أكثر من قرن ونصف قرن تقريبا. هذه الحركة بدأت حول منتصف القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي.
ودعني هنا أشير إلى وجوب الإحالة إلى الزمن الهجري والتنسيب إليه؛ ليس لأنه مرجع "تاريخ" أمتنا ومقياسها الزمني فقط، ولكن أيضا لأنه الوعاء المعياري بعدد السنين والحساب، الذي تفاعلت فيه كل مقدرات الأمة في الماضي، ولا تزال تتفاعل فيه في الحاضر، وستتفاعل فيه في المستقبل. وأعداء الأمة يتعمدون تغييب هذا الحس الزمني الخاص بنا، وعلينا أن نحييه وألا نشارك في هذا التغييب.
لم تتوقف إسهامات تلك الإصلاحية الحديثة منذ ظهورها، وقد تراكمت اجتهادات عشرات من كبار أعلامها وعلمائها. وقد أسهمت، مع فريق من كبار العلماء، في إعادة تحقيق ونشر خمسين كتابا من أعمال أولئك العلماء على مدى القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، وأصدرتها مكتبة الإسكندرية قبل عشر سنوات.
وهي اجتهادات مقدرة ومعتبرة في كثير من جوانبها، ولم تذهب سدى. وإذا نظرنا إليها في سياق أوسع وممتد لحركة التاريخ وعملية التداول الحضاري، فسنتأكد أنها لم تذهب سدى، كما سيتبين لنا أنها أثمرت بعض الثمار، وأنجزت إنجازات كبيرة في بعض المجالات.
ومن ثمراتها: تعزيز الإدراك الذاتي لعموم الأمة، وترسيخ أصول الهوية الخاصة لشعوب أمتنا، بدليل صمودها إلى اليوم في وجه موجات عاتية من الغزو الفكري والثقافي. أمم أخرى ذابت أو كادت تذوب في ذلك التيار العاتي من الغزو الثقافي والاغتصاب المعنوي الغربي الأميركي.
بفضل جهود رواد الإصلاحية الفكرية العربية الإسلامية، ظهرت وصمدت حركات الجهاد المسلح ضد الغزاة والمستعمرين على امتداد بلدان أمتنا، وليس آخرها الصمود الأسطوري لإيران في مواجهة الاستكبار الغربي، ومن قبلها المقاومة الفلسطينية في غزة بقيادة كتائب عز الدين القسام، وسرايا القدس، وغيرهما من كتائب المجاهدين داخل فلسطين وخارجها.
وبفضل جهود، واجتهادات، ومجاهدات كثيرة، ترى "الخط العام" لحركة النهضة الإسلامية في صعود؛ نعم، في صعود. انظر إلى هذا الخط بمنظور تاريخي أوسع من اللحظة الراهنة، تجده في تقدم مستمر.
مثلا: في الثلث الأخير من القرن الرابع عشر الهجري/ منتصف القرن العشرين، كيف كانت أحوال المواجهة مع العدو الصهيوني؟ وإلام صارت اليوم؟ كيف كانت مؤسسته السياسية والعسكرية بمنأى عن الخطر، واليوم هي في قلب الخطر، وتنال منها أمتنا نيلا حسنا ومتزايدا قوة وتركيزا وبسالة، رغم صعوبة الظروف المحيطة بأمتنا، ورغم تكالب قوى الغرب الصليبي الصهيوني ضدنا صراحة وعلنا.
في رأيي، أن مقياس نجاح اجتهادات رواد الإصلاحية الإسلامية هو، أولا وقبل أي شيء آخر، يكمن في الإجابة عن السؤال: هل دعمت اجتهاداتهم روح الجهاد وأيقظتها في الأمة أم لا؟
ذلك لأن قضيتنا الكبرى كانت، ولا تزال منذ ثلاثة قرون، هي: التحرر من الاستعمار والانعتاق من هيمنة الغرب المتوحش، والتخلص من عقدة النقص اتجاه الحداثة وما بعدها، لأنها ضد الفطرة، وضد الإنسانية بإجمال، وتسلبنا إنسانيتنا إذا خضعنا لها.
وإسهامات رواد الإصلاحية الإسلامية لها حضور وازن على هذا المستوى. صحيح أننا لم نصل بعد إلى مرفأ الأمان الجماعي لأمتنا، ولكن هكذا هي حركة التاريخ، وعلينا أن ننظر إليها وفق قوانينها.
إنجازات العلوم والتكنولوجيا في مختلف مجالاتها هي مكتسبات العقل الإنساني، وحصيلة تراكمات عميقة وطبقات متتابعة ومترتبة من الإنجازات والابتكارات، وهي "إرث إنساني مشترك" لا يمكن لكائن من كان أن ينسبه لنفسه وحده دون غيره، ولا أن ينفرد بوضع دليل إرشادي لكيفية الإفادة منه، ولا احتكاره بالمطلق.
نعم، انتقل العالم من الإنترنت إلى الذكاء الاصطناعي، ولا تنس أنه ينتقل أيضا وبقوة من "إنترنت الأشياء" إلى "إنترنت الأجسام البشرية" بكل ما تحمله من منافع ومضار.
هذه الوسائل المستحدثة شأنها شأن أي اختراع عرفته البشرية منذ فجر تاريخها: يمكنك أن تحسن استخدامها وتوظفها في ترقية الوعي، وإذكاء الفكر، وفتح آفاق جديدة للإبداع، ويمكنك أن تسيء توظيفها وتشغلها في الاتجاه المعاكس، فيكون ضررها أكثر من نفعها. وفي جميع الأحوال، يختلط الأمران: الإساءة والإحسان. هذا من حيث القانون العام الذي يحكم أثر الابتكارات على الفكر الإبداعي.
وعلى المستوى الخاص لأثر هذه الابتكارات المذهلة، نجد أن الأصل فيها أنها وليدة الفكر الإبداعي، وعليه فهي تعزز مسار هذا الفكر، ليس على طول الخط أو لكل من هب ودب؛ وإنما في دوائر البحث، ومراكز التفكير، وأوساط النخب العلمية والأدبية الجادة.
في البلدان الصناعية (ولا أقول المتقدمة لأن معيار التقدم ليس متفقا عليه): تعكف مراكز بحثية إستراتيجية أوروبية وأميركية منذ عشر سنوات على الأقل، على دراسة التأثيرات المستقبلية المحتملة لما يسمونه "التكنولوجيا الناشئة، وإنترنت الأجسام" (Internet of Bodies – IoB)، تمييزا له عن "إنترنت الأشياء" (Internet of Things – IoT).
وخطورة "إنترنت الأجسام" وتكنولوجياته الناشئة أنه يجعل من الممكن جمع معلومات شخصية حساسة عن الذين يستخدمونه عموما، وبخاصة عن "القادة العسكريين" والسياسيين وكبار رجال الأعمال، ويمكن أن تستغل هذه المعلومات لأغراض التجسس والتدخل في تغيير القيم والاتجاهات لديهم، الأمر الذي ينذر -وما أكثر ما ينذر به- بوجوب تجاوز مفاهيم وسياسات الأمن القومي التقليدية، والتعامل مع هذه الديناميكيات المستحدثة باستخدام "إنترنت الأجسام"، الذي يقولون إنه سيدخل في بعض الأدوية والعقاقير والأجهزة التعويضية الطبية، ويمكن استقبال رسائله من داخل أجسام الذين يتعاطونها وتخزينها وتحليلها في مراكز عالية التقنية.
ولا تحسبن هذا "خيالا علميا"، لا؛ لقد بات حقيقة، ووزارة التجارة الأميركية مثلا تقوم بحجب شركات الأدوية غير الأميركية التي تستخدم تقنية "إنترنت الأجسام"، من أجل منعها من دخول السوق الأميركي.
وخبراء تلك المراكز يتوقعون أن تزيد تهديدات الأمن القومي مع الانتقال خلال أقل من عشر سنوات إلى تقنيات G5 وG6 من شبكات الاتصال اللاسلكي. وسيكون الأمر بالغ الخطورة عندما تتمكن شركات الكمبيوتر من تطوير ما يسمونه "الكمبيوترات الكمومية"؛ أي: كمبيوترات تكون قادرة على فك أنظمة التشفير الرقمي التي تعتمد عليها (حاليا) البنية التحتية للمعلومات والاتصالات عبر العالم.
وحينئذ تستطيع هذه "الكمبيوترات الكمومية" أن تقرأ الاتصالات العسكرية والمعاملات المالية والأمنية المشفرة، وهو ما يعرضها لمخاطر جسيمة، تصل إلى درجة التوظيف العكسي الذي يصيب منتجها وليس المستهدف منها.
هل بدأ تطبيق هذه التكنولوجيات في الحرب الدائرة بين العدو الصهيوني وإيران، ومن قبلها بينه وبين المقاومة الباسلة في فلسطين المحتلة؟!! الأمر واضح بما فيه الكفاية، والمطلوب عمله واضح بما فيه الكفاية.
ما تقصده بـ"العلوم الاجتماعية" أسميه أنا باسمه الصحيح في بلادنا، وهو: "علوم التبعية المستدامة". هي جملة العلوم التي اقتحمت مجتمعاتنا وجامعاتنا منذ أكثر من مئة سنة. وإذا قمت بعمل كشف حساب لهذه العلوم وما أنتجته في مجتمعات أمتنا بطولها وعرضها، تستطيع أن تلخصه في كلمات قليلة ومعبرة وصادقة، منها أنها: علوم اللاوظيفية، أو هي علوم الفشل الوظيفي من جهة التطور الاجتماعي والاقتصادي العام. هي فاقدة الوظيفية البنائية بالمعنى النظمي لدى علماء التنمية السياسية ونظم الحكم والإدارة العامة.
ما تقصده بـ"العلوم الاجتماعية" أسميه أنا باسمه الصحيح في بلادنا، وهو: "علوم التبعية المستدامة". هي جملة العلوم التي اقتحمت مجتمعاتنا وجامعاتنا منذ أكثر من مئة سنة. وإذا قمت بعمل كشف حساب لهذه العلوم وما أنتجته في مجتمعات أمتنا بطولها وعرضها، تستطيع أن تلخصه في كلمات قليلة ومعبرة وصادقة، منها أنها: علوم اللاوظيفية، أو هي علوم الفشل الوظيفي من جهة التطور الاجتماعي والاقتصادي العام. هي فاقدة الوظيفية البنائية بالمعنى النظمي لدى علماء التنمية السياسية ونظم الحكم والإدارة العامة.
أتصور أنه إذا ألغيت جميع كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية، وجرى إغلاقها وتسريح أساتذتها بعيدا عن أي موقع تعليمي أو تثقيفي في جامعات أمتنا اليوم، فلن يختلف شيء في المجتمع في عمومه، ولن يحس بما حدث سوى مجموعات الأساتذة والموظفين الإداريين في تلك الكليات. هذا ما يغلب على ظن أي متأمل في فعالية هذه المؤسسات التعليمية وما في حكمها.
هي أيضا "علوم تخيفنا من أنفسنا" منذ اقتحامها وحتى اليوم، فهي تفتت لبنات الثقة الحضارية الذاتية في مجتمعاتنا، لبنة لبنة، وبنفس طويل، وأساليب بالغة النعومة في ظاهرها، شديدة القسوة في جوهرها.
العلوم الاجتماعية هي أيضا "علوم تخيفنا من أنفسنا" منذ اقتحامها وحتى اليوم، فهي تفتت لبنات الثقة الحضارية الذاتية في مجتمعاتنا، لبنة لبنة، وبنفس طويل، وأساليب بالغة النعومة في ظاهرها، شديدة القسوة في جوهرها.
هي تنتج شعورا بالنقص، وتعيد إنتاجه باستمرار في صورة تيارات فكرية وثقافية دائمة التدفق في أوساط النخب المدرسية والجامعية في مؤسسات التعليم المستحدث، وفيما حولها من نخب أخرى أدبية وفنية وثقافية مسؤولة عن قيادة الرأي العام وتشكيل الوعي، ومن المفترض أنها أمينة على القيم الكبرى والمثل العليا لمجتمعات أمتنا. وهي علوم تنتج التوحش والتعجيز. فهي متوحشة لأن مجتمعاتنا لم تأنس بها، ولم يأنس بها أغلب أساتذتها أنفسهم، ولم يقتنع طلابنا في أغلبهم بها إلى اليوم، لخلوها من المنفعة مع امتلائها بالهموم والغموم. ومنطقي جدا أنها خلفت خواء، وخوفتنا، وأفقدتنا الثقة بأنفسنا. وإذا سألت عن منفعتها، تجد أن مجتمعات أمتنا "أوحشت" منها.
ثم هي تعجيزية ومحبطة للهمم، ولا تبعث على النهوض والإبداع الذي تدعيه، وإلا قل لي: لماذا لم ندرك ركب التقدم بعد اشتغالنا بها أكثر من مئة سنة، إن كانت هي شرطا للحاق به؟ أو قل لي: كم أستاذا من حملة تلك العلوم في جامعاتنا منذ نشأتها حفزته معرفته بها فنهض وأنجز نظرية أصيلة من بنات أفكاره يمكن نسبتها إليه بالأصالة عن نفسه، دون شبهة تقليد أو ترجمة؟ كيف وهو ما برح يردد نظرياتهم، ويقتفي خطواتهم، التي يصرخ واقع مجتمعاتنا بأنها لا تجدي عندنا نفعا، وأنه "موحش" منها؟
العلوم الاجتماعية تنتج شعورا بالنقص، وتعيد إنتاجه باستمرار في صورة تيارات فكرية وثقافية دائمة التدفق في أوساط النخب المدرسية والجامعية في مؤسسات التعليم المستحدث، وفيما حولها من نخب أخرى أدبية وفنية وثقافية مسؤولة عن قيادة الرأي العام وتشكيل الوعي، ومن المفترض أنها أمينة على القيم الكبرى والمثل العليا لمجتمعات أمتنا. وهي علوم تنتج التوحش والتعجيز. فهي متوحشة لأن مجتمعاتنا لم تأنس بها، ولم يأنس بها أغلب أساتذتها أنفسهم، ولم يقتنع طلابنا في أغلبهم بها إلى اليوم، لخلوها من المنفعة مع امتلائها بالهموم والغموم. ومنطقي جدا أنها خلفت خواء، وخوفتنا، وأفقدتنا الثقة بأنفسنا. وإذا سألت عن منفعتها، تجد أن مجتمعات أمتنا "أوحشت" منها.
وهنا نصل إلى أسباب عدم وجود نظريات على أيدي أساتذة هذه العلوم وتكون نابعة من البيئة الاجتماعية لمجتمعاتنا. وفي نظري أن أهمها ثلاثة:
أولها: أن العلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعاتنا لا تزال تحمل صفتين رئيسيتين التصقتا بها منذ نشأتها قبل نحو قرن تقريبا.
ثانيها: أن أغلب الذين يشتغلون بهذه العلوم من أساتذة ومؤسسات أكاديمية يفتقدون الهدف العام لهذا العلم. هناك أزمة عميقة تتمثل في الانفصال بين ما يسمى "العلوم الشرعية" وما يسمى "العلوم الاجتماعية والإنسانية". وكما قلت، فإن هذه الأزمة يرجع تاريخها إلى بدايات نشوء مؤسسات التعليم العالي الحديث في بلدان أمتنا في الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري/ مطالع القرن العشرين الماضي.
وثالثها: أن كثيرين من أساتذة هذه العلوم في جامعاتنا، باتوا -وخاصة منذ مطلع الألفية الثالثة- يدركون أنهم منخرطون في عملية تبعية كاملة، ويعترفون بذلك بأنفسهم، وبكلمات واضحة لا لبس فيها. وبالمثال يتضح واقع الحال. والمثال هو من كلام الدكتور عبد الباسط عبد المعطي (رحمه الله)، وقد كان أستاذا لعلم الاجتماع بجامعة عين شمس لعقود طويلة، حيث صنف ما هو موجود في علم الاجتماع العربي من كتابات إلى خمسة أصناف:
السؤال عن غياب الفكر الإستراتيجي العربي يبدو غريبا في زحمة الأسئلة الكبرى والصغرى التي يعج بها العقل العربي والإسلامي.
هو سؤال غريب في طرحه، وليس في وجوب طرحه. منذ أكثر من عشر سنوات، تحدينا في أكثر من مناسبة علمية، في أكثر الجامعات العربية عراقة، أن يأتيني أحدهم بكتاب واحد -واحد فقط لا غير- يحمل في عنوانه كلمة "إستراتيجية" بما تعنيه هذه الكلمة في العلوم السياسية والعسكرية.
لم يظهر أحد، وإلى اليوم لم يظهر أحد ليقول لي: هذا كتاب فلان أو علان يشرح الإستراتيجية العربية، أو المغاربية، أو المصرية، أو الخليجية، أو في بلاد الهلال الخصيب، أو أي تكوين جغرافي سياسي على امتداد عالمنا الإسلامي من المحيط إلى المحيط، وليس العربي وحده من المحيط إلى الخليج.
تسأل عن سبب "غياب الفكر الإستراتيجي" في المنطقة العربية؟! إذا أخذنا معنى "الإستراتيجية" باعتبارها رؤية لما هو أساسي وجوهري بمنظور مستقبلي واضح الأولويات والخطوات والوسائل والمقاصد والغايات الكبرى؛ فهذا يعني أولا وقبل أي شيء آخر: القوة… القوة الخشنة، التي تغلفها القوة الناعمة بمختلف مستوياتها، ويعني أيضا وأساسا: التوسع والغزو المباشر وغير المباشر تبعا. هذا هو معنى الإستراتيجية على الأرض، ودعك مما قد تقرؤه على صفحات كتب السياسة والعسكرية وموسوعاتها في معاهد الغرب ومراكز أبحاثه.
الشرط الأول لظهور "الفكر الإستراتيجي" هو وجود مشروع توسعي إمبراطوري عابر للحدود القطرية الضيقة. ما سوى ذلك ليس إلا نوعا من العبث الطفولي، ولو حمل في عناوينه كلمة "إستراتيجية".
الشرط الأول لظهور "الفكر الإستراتيجي" هو وجود مشروع توسعي إمبراطوري عابر للحدود القطرية الضيقة. ما سوى ذلك ليس إلا نوعا من العبث الطفولي، ولو حمل في عناوينه كلمة "إستراتيجية".
هذا ليس مزاحا؛ بل ربما تقرؤه يوميا في صحيفة عربية أو مؤلف جامعي عربي عن: "إستراتيجية مكافحة الفساد!"، أو " إستراتيجية السيطرة على غلاء الأسعار"، أو " إستراتيجية النهوض بكرة القدم"، أو بالمسرح، أو بفن الباليه، أو بتوفير رغيف الخبز!!!…إلخ.
أين تجد الفكر الإستراتيجي اليوم؟ تجده في دول الإمبراطوريات التوسعية: أميركا، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الصين… وأين تجده أمس؟ تجده في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا… وأين تجده في التاريخ؟ تجده في الدولة العثمانية، ومن قبلها في الدولة العباسية، فالأموية من قبلها، وتجده قبل ذلك كله في الدولة الرومانية، وفي الإمبراطورية الفارسية، وهلم جرا.
قلب الفكر الإستراتيجي، وعقله، وجهازه العصبي هو "التوسع" بالقوة، بمختلف معانيها ومستوياتها. وإذا اتفقنا على هذه النقطة، فيمكنك أن تستعرض نظريا جميع حالات "الدولة" القائمة في جميع أرجاء أمتنا الإسلامية: أيها لديها مشروع إقليمي على الأقل، ناهيك عن مشروع أوسع نطاقا على مستوى عربي أو إسلامي أو عالمي؟
أي فكر إستراتيجي تحتاجه إمارة، أو دويلة، أو دولة متوسطة الحجم أو كبيرة في إقليمها، صغيرة أو مصغرة في قيادتها، لسبب أو لآخر؟ وكيف لمن هو جزء من إستراتيجية الهيمنة الغربية أن يفكر إستراتيجيا؟ أليست هذه استحالة منطقية؟ المفاجأة أنه منذ إلغاء الخلافة العثمانية؛ كلما تطور الفكر الإستراتيجي عالميا في مراكز الهيمنة الأوروبية والأميركية، تلاشت إمكانات هذا النمط من الفكر في مختلف أرجاء بلدان أمتنا الإسلامية إلى حد الانعدام.
والعلة واضحة، والعلاج ممكن. وأخيرا: اعلم أنه لا معنى لمراكز "إستراتيجية" في ظل نظم مغلقة لا يتوافر فيها مناخ ملائم لتربية كوادر أو خبراء إستراتيجيين، ولا تتوافر لهم فرصة لتنمية مهاراتهم، ولا تطوير خبراتهم، ولا اختبار أفكارهم، ولا حرية التعبير عن آرائهم المتنوعة.