آخر الأخبار

"نفق تيشكا".. مفتاح التنمية المفقودة في أفقر جهات المملكة

شارك

مع كل تساقط للثلوج، ومع كل نشرة إنذارية، تعود ساكنة الجنوب الشرقي إلى العزلة القسرية، حين تضطر السلطات إلى توقيف حركة السير بمقطع “تيزي ن تيشكا”، الشريان الطرقي الوحيد الذي يربط أقاليم مراكش، ورزازات، وزاكورة، وتيشكا بباقي مناطق المغرب النافع. قرار يتكرر كل شتاء، لكنه يبدو وكأن وزارة التجهيز لا تعيره أي اهتمام وكأن شل حياة أقاليم بأكملها أصبح جزءا من “الروتين الإداري”.

هذا الواقع يعكس التناقض الفج بين مغرب المشاريع الكبرى، من القطار فائق السرعة إلى استضافة كأس العالم، ومغرب آخر، يعيش فيه المواطنون في عزلة، تفتقر فيه الخدمات الأساسية، وتتصاعد فيه مخاطر الأمراض المنقولة ولسعات العقارب، وانعدام الحد الأدنى لشروط السلامة الطرقية. إنه “مغرب السرعتين” الذي دعا الملك محمد السادس إلى القطع معه، لا إلى تبريره.

طريق تيشكا، التي شيدت سنة 1924 في سياق استعماري، تظل خطيرة بشكل جغرافي، بسبب ارتفاعها الذي يفوق 2260 مترا ومنعطفاتها القاتلة، ما جعلها شاهدة على مآسي متكررة، آخرها وفاة 42 شخصا في فاجعة مأساوية.

الدراسات منذ سبعينيات القرن الماضي، أكدت جميعها أن الحل الوحيد هو إنجاز نفق يمر بمنطقة أوريكة، مع تهيئة طرق مرافقة وبناء منشآت فنية، ليصبح شريانا آمنا يربط بين مراكش وورزازات ويقلص بشكل كبير زمن الرحلة.

الواقع الذي لم يعد يقبل التأويل هو أن وزارة التجهيز لا تعاني من نقص في المعطيات، بل من عجز مزمن في الحسم. فمنذ أول دراسة أنجزت سنة 1974، مرورا بدراسات 1996 و2002 و2006، وصولا إلى آخر دراسة رسمية أنجزتها وزارة التجهيز والماء خلال السنوات الأخيرة، والتي شملت الجوانب التمهيدية والجيولوجية والجيوتقنية، ظل التشخيص واحدا: طريق تيشكا خطر بنيويا، والحل الوحيد هو إنجاز نفق.

آخر هذه الدراسات، التي قدمت في البرلمان على لسان الوزير الحالي نزار بركة، حسمت خيار إنجاز النفق عبر مسار يمر بمنطقة “أوريكة” على طول يقارب 10 كيلومترات، مع تهيئة طرق مرافقة وبناء منشآت فنية، وأكدت بوضوح جدوى المشروع من حيث السلامة وتقليص زمن الرحلة وفك العزلة عن الجنوب الشرقي. ومع ذلك، لم يتجاوز المشروع مرحلة “استكمال الدراسات التقنية”.

تأجيل مشروع نفق تيشكا لا يُعزى فقط إلى الكلفة المالية المقدرة بين 10 و13 مليار درهم، بل إلى عجز مزمن في اتخاذ القرار السياسي، رغم أن الحل واضح منذ عقود. وزارة التجهيز، التي يشرف عليها الأمين العام لحزب الاستقلال نزار بركة، مطالبة اليوم بالاختيار الواضح: إما الانتقال من منطق التفسير والتبرير إلى منطق الإنجاز، أو تحمل المسؤولية الكاملة عن استمرار المغرب في نظام “السرعتين”.

الفشل في إنجاز النفق لا يخص وزيرا أو حكومة بعينها، بل هو فشل مؤسساتي تراكم على مدى نصف قرن، حيث ظل الخطاب الرسمي يتحدث عن الدراسات، دون أن يتحول أي قرار إلى تنفيذ على أرض الواقع. السؤال الحقيقي إذن ليس كم سيكلف نفق تيشكا، بل كم كلف تأخيره من أرواح، ومن هدر فرص التنمية، ومن استمرار عزلة الجنوب الشرقي؟

جهة درعة، التي تعد من أكثر الجهات فقرا بالمغرب، رغم احتوائها على ثروات هائلة في باطن الأرض، من الفضة والنحاس والمعادن المختلفة، لم تنعكس هذه الموارد على التنمية المحلية. النفق يمثل مدخلا لإطلاق العنان لهذه الإمكانات، عبر فك العزلة عن الأقاليم، وتمكين السياحة من الوصول إلى مناطق طبيعية واستراتيجية، ستساهم في تنمية الاقتصاد المحلي وخلق فرص شغل مستدامة.

الجهة، التي يبلغ عدد سكانها مئات الآلاف، تستقبل سنويا آلاف السياح في مدن مثل ورزازات وزاكورة وتيشكا، إلا أن محدودية وسائل النقل وندرة الرحلات الجوية اليومية تجعل الوصول إليها تحديا. فك العزلة عبر نفق تيشكا سيقلص بشكل ملموس ساعات السفر بين مراكش وورزازات، ويزيد من حركة الزوار والسياح، ويسمح بتوزيع السياحة على الأقاليم المجاورة، ما ينعكس مباشرة على الاقتصاد المحلي واليد العاملة في القطاع الفندقي والخدماتي.

الأكثر إثارة للقلق هو أن الوزارة لا تزال تتعامل مع مشروع نفق تيشكا بمنطق “الكلفة المرتفعة”، وكأن حماية الأرواح بند ثانوي في ميزان الأولويات. في الوقت الذي تعبأ فيه مليارات الدراهم لمشاريع البنية التحتية في محاور معينة، يطلب من الجنوب الشرقي الانتظار، والتكيف مع طريق خطيرة، أو الموت بصمت في منعرجاتها.

إن السؤال الحقيقي ليس: كم سيكلف نفق تيشكا؟ بل: كم كلف تأخيره من أرواح ومن هدر فرص التنمية وتكريس مغرب السرعتين؟
تبخر مشروع “نفق تيشكار” هو عنوان صارخ لتهميش الجنوب الشرقي، وهو تهميش يخرص عنه المسؤولون كما المنتخبون وتتجاهله الدكاكين السياسية التي تغيب دهرا وتظهر قهرا لتتاهفت على أصواته الانتخابية، فالبنيات التحتية المنعدمة والمؤسسات الخدماتية و الصحية، هي عنوان للمعاناة المستدامة للساكنة، على أمل أن يشملها مخطط تنموي قد يأتي وقد لا يأتي، يُخفف عنها بعضا من وطأة قساوة الطبيعة والبشر.

نفق تيشكا ليس مجرد مشروع بنية تحتية، بل اختبار حقيقي لمصداقية الدولة في إنصاف المناطق الهشة، وكسر العزلة، وخلق فرص التنمية، وضمان حياة آمنة لسكان الجنوب الشرقي. فشل تنفيذه المستمر يعكس مسؤولية سياسية ومؤسساتية يجب أن يتحملها كل من تعاقب على الوزارة منذ نصف قرن.

إن المطلوب اليوم هو قرار سياسي واضح، وجدولة زمنية ملزمة، وربط صريح للمسؤولية بالمحاسبة، كما دعا الملك محمد السادس في أكثر من مناسبة. حماية الأرواح وفتح أفق التنمية عن طريق فك العزلة لم يعد رفاهية، بل واجب دستوري وإنساني.

العمق المصدر: العمق
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا