بعد عقود من اللعب بورقة الانفصال في الصحراء المغربية، يبدو أن الجزائر تتجه، حاليا، إلى أن تتجرع سم الانقسام الذي أنتجته السياسات التخريبية لحكامها وقِصَر نظرهم الجيوسياسي، مع إعلان حركة تقرير المصير في القبائل “ماك” والحكومة القبائلية في المنفى “أنافاد”، في الـ14 من شهر دجنبر الجاري، رسميا، عن استقلال جمهورية القبائل الاتحادية عن الدولة الجزائرية، واضعة بذلك “حدا لأكثر من قرن ونصف القرن من الخضوع المفروض”، وفق ما ورد في بيان للجمهورية الوليدة.
إعلان استقلال منطقة القبائل لم يكن مجرد حدث عابر في الجزائر؛ بل مرآة عكست بشكل صارخ تناقضات نظام “قصر المرادية” والنخب السياسية والحزبية في هذا البلد، والتي طالما رفعت شعار “تقرير المصير” في الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية ودعت إلى مشاريع التقسيم في المنطقة، قبل أن تجد نفسها اليوم مضطرة، وبقدرة قادر، إلى فتح معجم الوحدة الترابية والسيادة الوطنية؛ وهو ما يثير تساؤلات جذرية عن مصداقية الجزائر في الدفاع عن “القيم” التي تتشدق بها.
إلى ذلك، قال حزب “حركة مجتمع السلم” ذو التوجه الإسلامي، ضمن بيان لمكتبه الولائي بتيزي وزو، إن إعلان قيام جمهورية القبائل هو “مسعى مشبوه، ويعد مساسا صارخا بوحدة الجزائر وسيادتها، وخيانة لتضحيات الشهداء والمجاهدين الذين رووا بدمائهم أرض الوطن دفاعا عن استقلاله ووحدته”.
وأضاف الحزب ذاته أن “هذه المحاولة اليائسة لا تمثل سوى شرذمة معزولة مأجورة ومرتهنة لأجندات خارجية تستهدف زعزعة استقرار الجزائر وتقويض سيادتها، ولا تعبر مطلقا عن الإرادة الحقيقية لأبناء منطقة القبائل التي كانت ولا تزال جزءا أصيلا من الدولة الجزائرية”، بتعبير البيان سالف الذكر.
في سياق ذي صلة، قال فاتح بوطبيق، رئيس “حزب جبهة المستقبل”، خلال تجمع بدار الثقافة مولود معمري بولاية تيزي وزو، إن “الوحدة الترابية لكل شبر من الوطن تُعد خطا أحمر لا يقبل أي مساومة”، مبرزا أن “كل محاولات الفتنة والمخططات التفكيكية ستصطدم بعزم الشعب الجزائري الصلب”.
وأشار المسؤول الحزبي الجزائري، في كلمته، إلى أن “منطقة القبائل لعبت دورا تاريخيا ومحوريا في مسيرة النضال الوطني، سواء خلال ثورة التحرير المجيدة أو في مختلف المحطات التاريخية السابقة”، معتبرا أن “هذه المنطقة كانت ولا تزال جزءا أصيلا من ملحمة وحدة الشعب الجزائري عبر ربوع الوطن”، على حد قوله.
من جهته، ومن ولاية تيزي وزو نفسها التي شهدت إنزالا غير مسبوق للعديد من زعماء الأحزاب السياسية الجزائرية توازيا مع إعلان استقلال منطقة القبائل، أبرز يوسف عوشيش، رئيس حزب “جبهة القوى الاشتراكية”، أن “الدفاع عن الجزائر يقتضي الحفاظ على الذاكرة الجماعية في مواجهة التحريف الزاحف، وحماية السيادة الوطنية من الضغوط الأجنبية ومحاولات التدخل، والوقوف بثبات ومسؤولية ضد جميع المساعي الانقسامية التي تهدد الوحدة والتماسك الوطنيين”.
وسجل عوشيش، في كلمة له، أن “الانفصال ليست مسألة رأي؛ بل هو خيانة عظمى بكل بساطة”، لافتا في الوقت ذاته إلى أن “التنوع والتعدد اللذين يُشكّلان أساس هويتنا الجزائرية عامِلان للوحدة ومصدران للتقدم، ولا يمكن أن يكونا عنصرين للانقسام والانحطاط، كما يحاول بعض الدجالين والمتطرفين تصويرهما عبثا. ولذا، يجب التعبير عن هذا الثراء ضمن إطار شخصية جزائرية أصيلة، لا تُمثّل استمرارا مؤسفا للمشاريع الاستشراقية، ولا خاضعة للإمبريالية والصهيونية العالمية، ولا رهينة لنماذج غربية مهيمنة ومتخيلة”.
وأضاف رئيس حزب “جبهة القوى الاشتراكية”: “إن بلادنا تقف عند مفترق طرق حاسم، إذ لم يسبق في تاريخها الحديث أن تعرضت الجزائر لمثل هذا التداخل من التهديدات الوجودية: توترات إقليمية متفجرة؛ إعادة تشكيل جيوسياسية عدوانية على حدود مساحتنا الاستراتيجية؛ محاولات تدخل متزايدة الصراحة من قبل قوى أجنبية؛ هشاشة داخلية تفاقمت بسبب الانغلاق السياسي لقوة تسعى بعناد إلى تحقيق أجندتها الخاصة؛ ضغوط اجتماعية متزايدة تغذيها تآكل القدرة الشرائية”.
في سياق متصل، قال شوقي بن زهرة، الناشط السياسي الجزائري المقيم بفرنسا، ضمن تصريح لهسبريس، إن “مواقف الأحزاب السياسية في الجزائر لا تخرج عن سياق موقف النظام الجزائري الذي روّض جميع الأحزاب؛ بما فيها تلك المحسوبة على تيار الإسلام السياسي.. وثم، فإن صدور مثل هذه المواقف هو أمر متوقع. وسبق أن خرجت هذه التنظيمات في مناسبات عديدة لتدافع عن طرح النظام في العديد من الملفات؛ بما في ذلك ملف الصحراء”.
وأوضح بن زهرة أن “ما بعد 14 من دجنبر، أي إعلان استقلال القبائل، لن يكون بالتأكيد كما قبله؛ لأن الأمر يتعلق بتطور في غاية الخطورة بالنسبة للجزائر كجزائر”، مشددا على أن “هذا التطور هو نتاج توجهات النظام الحاكم وغبائه السياسي؛ فهو الذي دعم تقسيم المغرب منذ أكثر من خمسة عقود، وتبنى مطالب “البوليساريو” الانفصالية.. وها هو اليوم يصطدم بالأطروحات نفسها التي كان دافعا عنها”.
وتابع الناشط السياسي الجزائري ذاته بأن “النظام لم يقف عند هذا الحد؛ بل دعم أيضا مجموعة صغيرة من أبناء الريف المغربي الذين أعلنوا من الأراضي الجزائرية تأسيس ‘جمهورية الريف’.. ومن ثمّ، فإن ما يحدث اليوم هو تطور طبيعي لعبثية النظام وضعف قراءته للواقع والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية”، مبرزا أن “حركة ‘الماك’ أخذت حجما كبيرا في السنوات الأخيرة نتيجة السياسات العنصرية للنظام، رغم أن الأخير يحاول ربطها بالمغرب الذي أصبح ورقة رابحة في الداخل وفزاعة يعلق عليها حكام الجزائر فشلهم وأخطائهم”.
المصدر:
هسبريس