قال رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، محمد بنعليلو، إن لاكتفاء بقياس الفساد اعتمادًا على تصوّرات المواطنين وانطباعاتهم، رغم أهميته، لا يقدم سوى نصف الصورة، داعيا إلى الارتكاز على بيانات واقعية تقيس تجليات الفساد وسياقاته ومساراته.
جاء ذلك في كلمة لبنعليلو، خلال مشاركتها أمس الإثنين في أشغال المؤتمر الدولي حول قياس الفساد، المنعقد بمقر منظمة الأمم المتحدة بنيويورك، والمنظم بشكل مشترك بين برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (PNUD) ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) والأكاديمية الدولية لمكافحة الفساد (IACA).
وأكد بنعليلو أن المؤشرات كانت وستظل جزءًا من جهود مكافحة الفساد، لأن قياس الظاهرة يبقى السبيل الأنجع لتفسيرها وتحليل سياقاتها، واستدرك بأن القراءة النقدية لتجربة القياس أثبتت أن أكبر التحديات لا تكمن في إنتاج المؤشرات، بل في محدودية خلاصاتها.
ودعا إلى ضرورة الانتقال بالمؤشرات من سلطة الانطباع إلى سلطة البيانات، معتبراً أن ذلك يشكل جسر العبور من مرحلة ردّ الفعل إلى مرحلة الاستباق. وأضاف أن الاكتفاء بقياس الفساد اعتمادًا على تصوّرات المواطنين وانطباعاتهم، رغم أهميته، لا يقدم سوى نصف الصورة، في حين أصبح المطلوب اليوم هو الارتكاز على بيانات واقعية تقيس تجليات الفساد وسياقاته ومساراته.
وقال إن الإشكال الحقيقي الذي يواجه عددا من المؤشرات المركبة لا يكمن في طموحها، “بل في بنيتها؛ فهي تسعى إلى تجميع كل شيء في صورة واحدة، بما يذكي الجدل حول موثوقية نتائجها”.
كما نبه المتحدث إلى غياب التمييز بين قياس الوسائل وقياس الأثر، ما دام وجود الوسائل لا يعني بالضرورة تقلص الفساد. معتبرا أن ذلك يعزز الحاجة، بحسب رئيس الهيئة، إلى منهجيات دقيقة وشفافة لقياس الشفافية نفسها، حتى لا تتحول النتائج إلى مجرد أرقام بلا معنى.
وشدد رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها على أهمية عدم التعامل مع المؤشرات كمنتج نهائي، بل كمُدخلات للنقاش العمومي. داعيا إلى تبنّي مقاربات وطنية متعددة الأبعاد تستند إلى أربعة مداخل أساسية.
ويتمثل المدخل الأول في الإنصات العلمي، عبر الاستطلاعات الميدانية لاستجلاء تجارب المواطنين مع الفساد. أما المدخل الثاني فيتعلق ببارومترات الثقة في المؤسسات، باعتبار الفساد يمسّ الموارد، ويقوّض الثقة، ويضعف التنمية والشرعية.
وتابع بنعليلو أن المدخل الثالث يخص القياس البنيوي عبر خرائط المخاطر القطاعية، لالتقاط مواطن الهشاشة قبل ظهور مواطن التهمة، بما يسمح بالانتقال من قياس مستوى الفساد إلى قياس فاعلية السياسات المعتمدة لمواجهته. واقترح في المدخل الرابع الجمع بين المعطيات الكمية والتحليل النوعي، “لأن الأرقام مهمة، لكن تفسيرها السياقي أكثر أهمية”.
وعلى المستوى المنهجي، دعا رئيس الهيئة إلى تطوير شراكات وطنية ودولية لضمان نزاهة النماذج الإحصائية المعتمدة، واعتماد عينات علمية موثوقة تتيح إجراء المقارنات اللازمة، وتضمن احترام المعايير الدولية. مؤكداً أن مؤشرات القياس الوطنية للفساد يجب أن تُبنى عبر تفاوض علمي يحوّل النتائج إلى لغة حوار مشتركة بين الأنظمة، لا مجرد تقارير متفرقة.
واعتبر أن الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، والتقاط الإشارات غير التقليدية من المعطيات المفتوحة ومنصات التواصل الاجتماعي، أصبحت أدوات ضرورية لاستباق مخاطر الفساد وفهم أنماطه.
ودعا إلى صياغة خارطة طريق جماعية تجعل من القياس أداة للتحول، لا مجرد وسيلة لإثبات الواقع، مشددا على أنه إذا كان العالم قد أمضى عقودًا في قياس إدراك الفساد، فقد آن الأوان لقياس أثر مكافحته فعليا.
ونبه إلى أن الفساد اليوم لم يعد يقبل القياس بمؤشرات الأمس، وإن شرعية المؤشر تُكتسب من منهجية بنائه، لا من تكرار نتائجه. وأن البيانات ينبغي أن تتحول إلى رافعة للإصلاح، بدل أن تكون مجرد أداة لوصف ما هو قائم، بحسب تعبيره.
المصدر:
العمق