آخر الأخبار

"مول الفرّان" وراعي الغنم والإسكافي .. حيوات على الهامش وسير لا تُكتب

شارك

في هذا العالم، حيث لا تُكتَب السِّير إلا لمن اعتلوا المنصّات أو سقطوا من أعاليها، ثمّة وجوهٌ ظلّت ملتصقةً بالأرض؛ لم تهوِ ولم تحلّق، بل مشت بخفّةٍ، كأنّها تعتذر عن إزعاج التاريخ. هؤلاء هم أبطال هذا الحديث. لا يملكون في سيرهم ما يُدهِش عناوين الصحف، لكنّهم عاشوا الحياة بتلك الشجاعة الصامتة التي لا تُدرَّس في دورات “التنمية الذاتية”، ولا تُختزَل في شعارات تحفيزية عابرة. مول الفرّان الذي خبز الأزقّة والذكريات والأوجاع على نارٍ من الصبر اليومي، والإسكافي الذي يُصلح أحذية الناس بينما يتمزّق هو من الداخل دون أن يلتفت إليه أحد؛ راعي الغنم الذي يحاور الريح بصوفٍ يابس وقلبٍ ممتلئ؛ المعلّم المتقاعد الذي كتب على السبّورة سنوات عمره فمحَتها الطباشير كما يُمحى الحبر من السطر؛ ثم ذلك الرجل العادي جدًّا الذي عاش بلا بطولةٍ تُذكَر، ومع ذلك قرّر، في لحظة صفاء نادرة، أن يروي كيف أمضى عمره وهو يعيش… دون أن يحدث “حدثٌ كبير”. إنّهم جميعًا سِيَرٌ صغيرة لا تملأ صفحات المجلّدات، لكنها تشكِّل المتن الحقيقي للحياة؛ طبقة صامتة من البشر تحمل العالم على كتفيها… وتمشي في الطريق بخطوةٍ متواضعةٍ دون أن تنتظر تصفيقًا من أحد.

أنا مُول الفرّان… خَبَزتُهم واحدًا واحدًا

أنا مولُ الفَرّان؛ لا أحدَ يناديني باسمي، حتى فقدتُه من ذاكرتي. صار اسمي رائحةً فحسب؛ رائحة خبزٍ يخرج من فُوّهة نارٍ تشبه الجحيم، لكنها جحيمٌ رحيم يطعم الناس ولا يلتهمهم. في درب المدينة العتيقة، حيث الجدران تتنفّس حكايات العابرين، يجلس فرّاني في الزاوية كأنه مزارٌ صغير للدفء الشعبي. يدخل الناس فيسلّمون عليّ، ويضعون أرغفتهم على اللوح الخشبي، كأنهم يضعون أحلامهم على عتبة القدَر، ثم أمدّ يدي فأُدخِل كلَّ ذلك في النار. أنا أوّل من يستيقظ قبل الفجر، وآخر من يغادر حين يغفو الحيّ وتنام الأزقة. النساء يأتين بخبزهن، وكلُّ واحدةٍ تحمل معها جزءًا من يومها: هذه تهمس عن زوجٍ غاضب، وتلك تبكي ولدها في السجن، وثالثة تشكو الغلاء وضيق ذات اليد. أستمع إليهن وأنا أقلب الأرغفة في صمتٍ يشبه الحكمة؛ لا أعلّق، لكنّ رأسي يومئ بما يكفي ليشعرن أن أحدًا فهم وجعهن.

في فرني لكل رغيفٍ توقيتٌ دقيق، ولكل وجهٍ أعرفه لونٌ خاص في عجينه: أميّز من يعجن بالحب، ومن يعجن بالحزن، ومن يعجن فقط لأنه لا يملك غير الدقيق والماء. النار لا تخيفني؛ منذ ثلاثين عامًا وأنا أنظر في عينيها. أحيانًا تهمس لي بأسرار الناس العالقة في البخار المتصاعد من الأرغفة، وأحيانًا تصمت مثلي فنكتفي بتبادل النظرات. بيني وبينها لغةٌ من نوعٍ آخر، تعلّمت منها ألا أستعجل النضج؛ فالخبز الذي يُسحب قبل أوانه يُؤكل دون احترام.

كنتُ صبيًّا صغيرًا حين كان والدي مول الفَرّان قبلي. كان يقول لي:” الفَرّان ماشي غير راجل كيدخّل الخبز للنار؛ الفَرّان حافظ سرّ درب كامل، إذا تكلّم… تحرق الحومة.” من يومها تعلّمت أن أكون شاهدًا أخرس: أُخرج الأرغفة من جوف النار، ولا أُخرج معها الأسرار. أحفظ الوجوه، وأُخفي الحكايات. اليوم جاءني شابٌّ يسألني وهو ينظر إلى السواد على يديَّ: “واشْ مازال شي مستقبل فهاذ الخدمة؟” تأمّلتُ يديّ الملطّختين بالفحم، ونظرت إلى النار التي لم تهدأ منذ عقود، ثم قلت له بهدوء:” ما كاين لا مستقبل ولا ماضي… كاين خبز اليوم. ديرو مزيان، وعيش بهدوء.” كنت أعني أن هذه المهنة لا تُعطي وُعودًا برَّاقة، لكنها تمنحُ صاحبها معنىً يوميًّا: أن يقدّم للناس ما يجعلهم قادرين على مواصلة خطاهم. سأرحل يومًا، غالبًا دون أن أُخبر أحدًا. سيتوقّف الدخان عن الصعود من مِدخنة الفُرن، وسينسى الحيّ تدريجيًّا رائحة الخبز التي كانت توقظ شهيّته للحياة. ربما يتحوّل مكاني إلى محلّ هواتف، أو مقهًى باردٍ بدون روح. لكنني، قبل أن أختفي، أكون قد خبزت كل شيء: وجوه الناس، حكاياتهم، خيباتهم، وما بقي فيهم من أمل. النار لم تحرقني؛ لقد صهرتني، صاغتني كما يُصاغ الحديد في قلب الجمر.

أنا مول الفَرّان، صاحب النار التي علّمتني الصبر، وصاحب الرغيف الذي يخرج ساخنًا ليقول للحيّ كل صباح إن الحياة ما زالت ممكنة. إن عبرتَ يومًا الدربَ العتيق، واشتممتَ رائحة خبزٍ دافئة تتسلّل من زقاقٍ ضيّق، فاعلم أنني مررت من هنا يومًا، وتركت في الهواء طعمي… وعلى جدران المدينة رمادي.

خيط وإبرة… وسيرة تُخاط من صمت الزنقة

أنا الإسكافي… وهذا مقامي. الرجل الذي يُصلح أحذية الناس، ولا يخطر لأحدٍ أن يسأله مرةً واحدة: “وأنت… أليس حذاؤك ممزَّقًا؟” أجلس في زاويةٍ ضيّقة من الزقاق، حيث تمرُّ الحياة مسرعةً لا تلتفت، وتجرُّ وراءها ضجيج الخطى وأخبار الناس، وتتركني وحيدًا مع جلدٍ متعبٍ ومساطر وخيوط. بجانبي علبة مسامير صغيرة، وكرسيٌّ خشبيٌّ مهترئ، وصندوقٌ قديم وضعتُ فيه كل أدواتي… وكل ما تبقّى من كرامتي. ينادونني في الحيّ: “مول الصّباط”. لكنني، في حقيقتي، لست مجرد مصلّح أحذية؛ أنا أشبه بخبير آثار صبور. أقرأ الزمن في تجاعيد الجلد، وأفهم نوع التعب الذي يحمله صاحبه من شكل النعل. كلّ حذاءٍ حكاية، وكلّ خدشٍ سطر، وكلّ تمزّقٍ فصلٌ من سيرةٍ طويلة… وأنا حارس هذه الحكايات المنسيّة.

تركَني الزبائن على الهامش، لكنهم لا يمشون دوني. أنا الذي أخيط صمتهم، أرقّع تعبهم، وأمنع خطاهم من الانهيار الكامل. كم من عاشقٍ جاءني بحذاءٍ ممزّق، يلهث وهو يقول: “عافاك خويا، خاصني نوصل عندها قبل ما تسافر”. لم يكن يستعجل إصلاح الحذاء فقط، كان يستعجل اللحاق بفرصته الأخيرة في الحب. فأسارع إلى خياطة الوقت قبل أن أخيط الجلد، وأرقّع الفتحة كأنني أرقّع قلبه. وكم من عاطلٍ عن العمل سلّمني حذاءه المهترئ وهو يتمسّك بالأمل: “عندي مقابلة، خاصني نكون نقي”. كان الحذاء في يدَي، لكن القلق كلّه في عينيه. فأعيد للنعل توازنه، وألمّع الجلد قدر المستطاع، وكأنني أُلمّع ما تبقّى من ثقته بنفسه. أحيانًا لا أغيّر مصيرهم، لكنني أرسلهم في الطريق وهم يشعرون أن خطواتهم تستحق فرصةً أخرى.

أنا لست إسكافيًّا فحسب؛ أنا آخر من يرمّم ما تخلّى عنه العالم. حين يتعب الشيء، يرمونه عندي قبل أن يرمونه في القمامة، كأنني محطةٌ أخيرة بين الاستعمال والنسيان. أعطي الحذاء فرصةً إضافية للحياة، وأمنح صاحبه وقتًا أطول ليواصل السير، حتى لو لم ينتبه لِمَن كان سببًا في ذلك. الرُّكن الذي أجلس فيه أضيقُ من صدري. في الشتاء، تبلّلني السماء قبل أن يبلّلني عرق التعب، والبرد يتسلّل من تحت ثيابي كما يتسلّل الغبار إلى رئتي. وفي الصيف، تحترق أصابعي من الجلد اليابس والحديد الساخن، ويغلي النهار فوق رأسي وأنا أُنقّي المسامير وأشدّ الخيوط.

ومع ذلك، لا أغادر. ليس لأن المكان مريح، وإنما لأن هذا الركن صار يشبه قدري: ضيّق، مهمّش. لم أكن يومًا تاجرًا بارعًا في الحساب والربح، كنت رجلًا بسيطًا يفهم أن الناس يشبهون الأحذية كثيرًا: بعضهم لامعٌ جميل من الخارج، لكنه يؤلمك كلّما حاولت أن تسير معه، وبعضهم ممزَّقٌ من شدّة الاستعمال، لكنه مريح، صادق، يشبهك ولا يخدعك.

سيقولون يومًا، حين يختفي صندوقي من الزاوية: “كان هنا واحد مول الصّباط… الله يرحمو”. سيجلس شابٌّ آخر مكاني، يفتح محله، ويستلم الزبائن؛ لكنه لن يعرف أنني لم أكن أسمّر النعال فقط، وإنما كنت أستمع للناس أكثر مما أستمع لطرقات المطرقة. لن يعرف أنني كنت أسمّي كلَّ خيطٍ قبل أن أشدّه: هذا خيط “الصبر”، وهذا خيط “الستر”، وهذا خيط “الكرامة”.

ولأنني لم أكتب كتابًا، ولم أدرّس في جامعة، ولم أظهر في شاشة تلفاز، فلن يدوّن أحدٌ أنني كنتُ أفهم الحياة من زاويةٍ مختلفة تمامًا: من تحت… من تحت أقدام الناس، من الطريقة التي يمشون بها، من تردّد الخطوة، من تسرّعها، من ثقلها، من تكسيرها للأرض أو خوفها منها.

أنا الإسكافي… لم أملك يومًا منصبًا ولا شهرة، لكنني عرفت ما لا يعرفه كثيرون. عرفت أن السير أصعب من الكلام، وأن إصلاح الطريق أحيانًا يبدأ من إصلاح النعل. وإذا صادفتم ركنًا صغيرًا في زنقةٍ قديمة، فيه كرسيٌّ متعب ورجلٌ يحني ظهره فوق حذاءٍ ممزّق، قولوا في سرّكم: هذا رجلٌ يبقي العالم واقفًا وهو نفسه يجلس على حافة السقوط.

طباشير العمر: حكاية معلم متقاعد

كنت أشرح الدرس، بينما كانت الحياة تمحو السبّورة من خلفي بهدوءٍ لا يلتفت إليه أحد. بدأتُ رحلتي مع التعليم بقميصٍ مكويٍّ بعناية من يد أمي، وحذاءٍ ضيّقٍ على قدمٍ صغيرة، لكنه كان متّسعًا بما يكفي لاحتواء أحلامٍ أكبر من جسدي بكثير. دخلتُ القسم أول مرةٍ وأنا أرتجف، لا خوفًا من التلاميذ، وإنما من ثقل الكلمة ومسؤولية الوقوف أمام أربعين زوجًا من العيون المتعبة، كانت كلّها تسألني في صمتٍ جارح: “هل جئتَ لتعلّمنا حقًا… أم لتمُرّ من هنا ثم تنسانا، كما فعل كثيرون من قبل؟” كنتُ أؤمن أن الطباشير ليست مجرّد أداة للكتابة، كانت أداة مقاومة؛ وأن كل حرفٍ أخطّه على السبّورة محاولةٌ متواضعة لتأجيل انهيارٍ أكبر يتربّص بالمجتمع من بوابة الجهل. هل تتذكّرون الطباشير التي كانت تلطّخ أصابعي دائمًا؟ ما لم تكونوا تعرفونه أن لونها كان يلتصق بقلبي أيضًا؛ فكلّ درسٍ أشرحه، كنت أقتطع شيئًا من صحّتي، ومن وقتي، ومن روحي. أقنعتُ تلاميذي أن الفاصلة أهمّ من النقطة، لأنها تترك للجملة فرصةً ثانية للحياة، وأن السؤال أهمّ من الجواب، لأنه يفتح الأفق بدل أن يغلقه. أمّا في بيتي، فقد كنت أضع النقطة في آخر الجملة سريعًا، لأنني لم أعد أملك طاقةً لطرح المزيد من الأسئلة على واقعٍ لا يجيب. كنت أعود من القسم محنيّ الظهر، لا من كِبَر السنّ، وإنما من ثقل الإهمال، ومن تراكم مناهج تربوية لا يفهمها أحد، حتى بعض الذين وضعوها. أوراق، مذكرات، تقارير، اجتماعات… كثيرٌ من الحركة، قليلٌ من المعنى. علّمت أجيالًا متعاقبة، لكن لم يكلّف أحد نفسه بأن يعلّمني كيف أقاوم النسيان، وكيف أحمي معنى رسالتي من التبديد البطيء. أذكر تلميذًا كتبَ لي في ورقةٍ صغيرة: “أستاذ، أريد أن أصبح مثلك، حكيما ومحبوبًا”. ضحكتُ كثيرًا حين قرأتها، ثم بكيت أكثر بعد أن طويتُها. لم أكن حكيمًا كما يتصور، كنت فقط إنسانًا متعبًا يتحدّث بلغةٍ أنيقة. تعاقب على يدي طلاب صاروا لاحقًا أطباء ومهندسين ومسؤولين وسياسيين… بعضهم ما زال يسلّم عليّ في الشارع بخجلٍ لطيف، وبعضهم يعبر أمامي كأنّه لم يسمع يومًا صوتي وأنا أشرح له درس “الضمير المستتر” أو “حروف الجر”. أمّا أنا، فما زلت هنا، أحتفظ بأسمائهم في دفاتر قديمة، كأنني حارسُ ذاكرةٍ لم يطلب منه أحد هذه المهمّة، لكنه لم يستطع يومًا التخلّي عنها.

وحين جاء التقاعد… لم أتقاعد وحدي، بل شعرت أن الدولة هي الأخرى قد تقاعدت من الاهتمام بي. أجلس اليوم على كرسيٍّ خشبيٍّ في ظلّ شجرةٍ في ساحة المدرسة التي لم تعد “مدرستي” بالمعنى العاطفي الذي عرفته. أنظر إلى الأطفال وهم يدخلون في هرجهم الصباحي، وأسأل نفسي: هل لا يزال أحدهم يكتب اليوم على السبّورة كما كنّا نفعل؟ هل ما زال تلميذٌ ما يقول: “صباح الخير يا أستاذ” بذلك الحياء الجميل الذي كان يربّيني أنا أيضًا، لا أقلّ مما أربيه أنا فيهم؟ تقاعدت، نعم. على الورق، خرجتُ من الخدمة. أمّا في الحقيقة، فقد غادرتُ بصمتٍ مسرحًا طويلًا لم يُصفَّق لي فيه أحد، مع أنني كنت البطل الوحيد الذي لم يغادر الخشبة يومًا، منذ رفع الستار لأول مرة إلى أن أُسدِل دون ضجيج. لم يكن لي جمهورٌ يُصفّق في النهاية، وإنما أجيالٌ تمضي، وبعض قلوبٍ تتذكّر، وكثير من مؤسساتٍ لا تبالي بك إطلاقا.

هذه سيرتي، لكنني لا أريد لها أن تُوزّع على التلاميذ بوصفها حكاية شجن إضافية. أعطوها أولًا لأولئك الذين يضعون السياسات التعليمية، ويظنّون أن التعليم مجرد بندٍ في الميزانية يُزاد أو يُخفّض بالأرقام. قولوا لهم: إن المعلّم ليس رقمًا في لوائح الموظفين، إنه الذاكرة الحيّة لضمير المجتمع. وحين يُترَك وحيدًا في آخر العمر على كرسيٍّ خشبي تحت شجرةٍ هرِمة، فإن ما يتساقط حوله ليس الأوراق فقط، وإنما هيبة المعرفة نفسها. أنا ذلك المعلّم؛ لم أملك سلطةً ولا منصبًا، لكنني حملت في طباشيري مشروع وطنٍ بأكمله. وفي لحظةٍ ما، حين انطفأ الغبار الأبيض عن أصابعي، اكتشفتُ أن ما تبقّى مني… لا يزال يصرّ على أن يعلّم العالم درسًا أخيرًا: أن احترام المعلّم ليس ترفًا، إنه الحدّ الأدنى من احترام المستقبل.

أنا راعي الغنم… إذن أنا أفكّر

وُلِدتُ فقيرًا… وما زلت. أنا ابنُ أرضٍ لا تفرِّق بين المطر والدمع؛ فكلاهما يسقط بصمتٍ على الوجوه المتعبة. جئتُ إلى الدنيا في قريةٍ نَسِيَت الدولةُ أن تُدرجها في خرائطها، ونسينا نحن أسماء فصولها المغبرَّة. لم تكن عندنا شوارع بالمعنى المألوف، بل مساراتٌ رسمتها أقدام الأغنام أكثر مما رسمتها أقدام البشر. أولُ من حملني لم تكن أمي، بل نعجةٌ عجوز اسمها “حمّودة” داستني سهوًا وأنا أحبو في الحقل، فرفعتني برجليها المرتعشتين ثم مضت. منذ تلك اللحظة، بدا كأن قدري مرتبطٌ بهذه الكائنات الوديعة. كبرتُ شيئًا فشيئًا، وصرت راعيًا مثل أبي، الذي كان يوصيني دائمًا: “احذر من الذئاب”. ظننتُه يقصد البشر قبل الحيوان، فمددتُ يدي يومًا إلى الذئب وصادقته… على الأقل كان صريحًا في جوعه. كانت العصا أطول من أحلامي، لكنها وحدها القادرة على أن تُبقيني واقفًا. لم أذهب إلى المدرسة إلا قليلًا؛ غير أنّ المدرسة جاءتني ذات يوم في هيئة رجل تعليمٍ تائهٍ في الطريق، سألني: “أين الطريق إلى المدينة؟” أشرتُ نحو الأفق وقلت: “اتبع الغيم، فهو دائمًا يعرف”.

كتب عني لاحقًا في جريدة تربوية، بينما بقيتُ أنا في مكاني، أتأمّل الغيم أكثر مما أقرأ الصحف. كنتُ في صغري أعدّ الخراف ليلًا لأستجلب النوم، ثم اكتشفتُ، مع مرور الوقت، أنّ الخراف هي التي بدأت تعدُّني… ربّما لأني كنت أنام أكثر منها. الغنمُ تعرف ملامحي أكثر مما عرفني أبي، وتعرف صمتي أكثر مما عرفتني القرية. في عالم الغنم، تقوم “ثلاثية الرفاه” على: ماءٍ كافٍ، وعشبٍ طري، وظلٍّ يحمي من القيظ؛ وأظنّني لم أطلب من الحياة أكثر من ذلك.

كان خروفي الوحيد “سعيد” رفيقَ حواراتي الطويلة. كنتُ أحدثه أكثر مما أحدث البشر. ذات غروب، سألته: “يا سعيد، ما الفرق بيننا وبين السياسيين؟” أجابني بصمتٍ ثقيل، وبزفرةٍ تحمل رائحة حليبٍ فاسد. فهمتُ الرسالة دون حاجة إلى الكلام. قلت لنفسي: “حتى الخروف يعرف أن التأمل أصدق من الخُطب، بينما نحن ما زلنا نصرخ في الميكروفونات ونتوهّم أن الضجيج فكر”.

في لحظةٍ ما، وجدتُ نفسي “حكيم القرية” فقط لأني لم أغادرها. أحيانًا، يكفي أن تبقى طويلًا في المكان نفسه ليعتقد الناس أنك تفهم كل شيء فيه. جاءني يومًا شابٌّ حضريّ يحمل هاتفًا ذكيًّا، وسألني باستغراب: “ألا تملّ من هذه البساطة؟” رفعتُ رأسي عن عود الزعتر الذي كنتُ أمضغه، وقلت له بهدوء:” أنا أرى الشمس كلّ صباح دون حواجز إسمنتية، وأميّز نبرة الرياح كما تميّز أنت نغمة الإشعارات، وأحادث الغيم مثل صديق قديم، وأعرف الطيور بأسمائها لا بأيقوناتها. قل لي: من منا يعيش التكرار حقًّا؟”

أنا راعي غنم… رجلٌ يفكّر في كل ما لم يحدث، أكثر مما يندم على ما حدث. حين أموت، لن يستهلك في رثائي كثيرٌ من الحبر. سيقولون ببساطة: “رحل الراعي الذي كان يضحك مع غنمه أكثر مما يضحك مع الناس”. هذا يكفيهم. أمّا أنا، فكنت في أعماقي أكتب كتابًا يوميًا عن الوجود، بلغة الماعز والريح والغبار. لا فصول له ولا فهارس، لكنه أوضح من كثير من الكتب المنسّقة بعناية. قد أبدو في عيون البعض “بسيطًا”. ربّما. لكنني الوحيد هنا الذي يعرف أن لكلّ شاةٍ سيرةً ذاتية غير منشورة، مكتوبةً في طريقة سيرها، وفي خوفها المفاجئ، وفي نظرتها حين تُساق إلى مكانٍ لا تعرفه. وأعرف أيضًا أن كل عصا، حين تستند على كتف راعٍ عجوز، لا تكون مجرّد خشب، وإنما امتدادًا لكرامته وهو يحاول أن يبقى واقفًا أمام تعب السنين.

أنا راعي غنم… لم أملك يومًا حسابًا في بنك، لكنني كنت أحفظ أرصدة الغيوم في السماء، وأتقن قراءة ميزانيات الفصول: كم من مطر، وكم من قحط، وكم من أمل يمكن أن ينبت في شقوق الأرض. من الصوف نسجتُ تأملاتي، ومن ثغاء الغنم تعلّمتُ أنواع الصمت، ومن ظلّ شجرةٍ يتيمةٍ فهمتُ معنى الحماية دون مقابل. إن صادفتني يومًا على سفح تلةٍ، لا تقل لي: “مسكين”. المسكين هو من لا يسمع إلا ضجيج المدن ولا يفهم لغات الطبيعة. قل إن شئت: يا لك من حكيمٍ متنكِّر في صوف!”

عبقري الفراغ وصاحب سيرة عادية جدًا

في البدء كانت الضجّة، ولم أكن جزءًا منها. ثم جاءت الحياة، فدخلتها مصادفة، كمن يفتح باب قاعة مظلمة ظنًّا منه أنّها دورة مياه، فإذا به يجد نفسه وسط فيلم طويل لا يعرف متى بدأ ولا متى ينتهي. اسمي يمرّ في آذان الناس كما تمرّ شوكة معدنية في خلاط كهربائي؛ لا يحمل معنى خاصًّا، لكنه يُحدِث ما يكفي من الإزعاج ليُخلِّف أثرًا صغيرًا في الجدار الرخو للذاكرة. وُلدتُ في صباح عادي، من يوم عادي، في حيّ عادي. لم تسقط نيازك، لم تهتف الملائكة في السماء: “لقد وُلد”، لم تُكتب قصيدة باسمي، ولم تُنشَر صورتي في جريدة محلية نصف منسيّة. حتى الطبيب الذي انتشلني من العتمة إلى الضوء، على الأرجح لم يتذكرني، ورآني مجرّد فقاعة بيولوجية أخرى ضمن آلاف الفقاعات التي تطفو يوميًّا على سطح الإنسانيّة. عشتُ طفولة بلا بطولة: لم أبدِ نبوغًا في الرسم، ولا براعة في الرياضيات، ولا حتى مرضًا نادرًا يكفي ليمنح عائلتي فرصة الظهور في برنامج تلفزيوني. كنتُ آكل، أنام، وأقع أحيانًا عن الدراجة. هذا تقريبًا ملخّص الرحلة. حين سألوني في المدرسة: “ما حلمك في المستقبل؟” كتبتُ بكل جدّية: أن أكون موظّفًا لا يوقظه المنبّه. وها أنا الآن، في منتصف العمر، أكتب سيرتي الذاتيّة. نعم، أنا الذي لم يفعل شيئًا “عظيمًا” يُذكَر، أقرّر أن أدوّن تفاصيل هذا اللاشيء في كتاب، بلغة قد تبدو أحيانًا أكثر إثارة من الأحداث نفسها. هل عشتُ فعلًا كل هذا؟ بالكاد. لكن من قال إن السيرة الذاتية يجب أن تكون مكتظّة بالمنعطفات الدرامية؟ أليست الحياة، في نسختها الواقعيّة، وهْمًا طويلًا يجمّله الأسلوب أكثر مما تجمّله الوقائع؟

لهذا، أوصي بقراءة هذه السيرة في أوقات الانتظار: في محطة حافلات، قبل النوم بقليل، أو عند لحظة صادقة تفقدون فيها الإيمان بوجود شيء يستحق القراءة حقًّا. إن لم تضحكوا، فربما ستشعرون – على الأقل – ببعض الامتنان لحياتكم المزدحمة بالأحداث… مهما بدت تافهة.

في الصفحة الأخيرة من سيرتي، كتبت: ” هذا مصيرُ رجلٍ لم يختر طريقًا قط؛ ترك الريح تسحبه، فاكتشف متأخرًا أن الريح لا تذهب بأحدٍ إلى حيث يريد”.

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا