يؤسس الإعلان المشترك الذي وقعه كل من الملك محمد السادس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أول أمس الاثنين بالقصر الملكي في الرباط، لمرحلة جديدة من العلاقات بين المملكة المغربية والجمهورية الفرنسية، من خلال الارتقاء بها إلى مستوى “الشراكة الاستثنائية الوطيدة”، مؤكدا رغبة البلدين في رفع جميع التحديات التي تواجههما من خلال تعبئة كل القطاعات المعنية بالتعاون الثنائي والإقليمي والدولي.
وشدد قائدا البلدين خلال هذا الإعلان المشترك على “الأهمية المحورية التي يوليانها في حوارهما الاستراتيجي الثنائي لكل من إفريقيا والفضاء الأطلسي، والعلاقات الأورو-متوسطية والشرق الأدنى والأوسط”، إذ اتفقا في هذا الصدد على “تطوير مشاوراتهما من أجل تشجيع مبادرات مشتركة تهدف إلى الإسهام بشكل جماعي، مع البلدان المعنية، في أمن هذه المناطق واستقرارها وتنميتها”، وقد أشاد ماكرون في هذا الصدد بالعمل الدؤوب الذي تقوده المؤسسة الملكية المغربية خدمة للاستقرار في إفريقيا، وبالمبادرات التي أطلقها المغرب لفائدة فضائه القاري.
من جهتهم، يؤكد مهتمون أن الشراكة الجديدة بين الرباط وباريس تعزز موقع ونفوذ المغرب في القارة الإفريقية على المستوى الاقتصادي والجيو-سياسي، كما تدعم المبادرات التنموية للمملكة في القارة السمراء التي تهدف إلى إدماج بعض الدول الإفريقية في مسلسل التنمية المستدامة ومساعدتها على تجاوز مختلف التحديات الاقتصادية التي تواجهها، إضافة إلى مساهمة هذه الشراكة في مواجهة التحديات الأمنية التي تشهدها إفريقيا، وبالتالي ضمان الأمن والاستقرار اللذين يعدان شرطين أساسيين لأي فعل تنموي.
هشام معتضد، باحث في الشؤون الاستراتيجية مقيم بكندا، قال إن “الإعلان المشترك بين الرباط وباريس يعتبر خطوة نوعية في تاريخ العلاقات بين البلدين، إذ يتضمن التزاما واضحا بإنشاء شراكة استثنائية قادرة على مواجهة التحولات الإقليمية والدولية”، مضيفا أن “ما يميز هذا الاتفاق هو التأكيد على مبادئ الاحترام المتبادل، والمساواة في السيادة، والتشاور المستمر، ما يشير إلى رغبة واضحة من الجانبين في بناء علاقة تتجاوز التقلبات السياسية التي قد تؤثر عادة على علاقات الدول وتصمد أمام تغيرات السياق السياسي، خاصة في فرنسا”.
وأوضح معتضد، في تصريح لهسبريس، أن “هذه الشراكة تعد فرصة للمغرب لتوسيع دوره كجسر استراتيجي بين أوروبا وإفريقيا، مما يتيح له توظيف زخم هذا التعاون لتحقيق أهدافه التنموية وتعزيز حضوره الإقليمي، خصوصا في القارة الإفريقية، كما تدعم هذه الشراكة مبادرات الملك محمد السادس في إفريقيا، التي تسعى لتحقيق التنمية والاستقرار في المنطقة عبر مشاريع تنموية وشراكات اقتصادية متعددة. وعليه، يمكن للمغرب من خلال هذه الشراكة أن يعزز نفوذه كفاعل أساسي في القارة، مستفيدا من الدعم الفرنسي لتنفيذ مبادرات تعزز حضوره وتعود بالنفع على القارة ككل”.
وسجل الباحث ذاته أن “الشراكة الجديدة بين البلدين تشدد على التعاون في قضايا الأمن والدفاع، وهو عنصر محوري يمكّن الرباط من دعم الاستقرار الإقليمي في إفريقيا. فقد أصبحت القضايا الأمنية، مثل مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية، من التحديات المشتركة التي تؤثر على كل من المغرب وفرنسا، وعلى استقرار القارة الإفريقية بأسرها”.
على المستوى الاقتصادي، اعتبر معتضد أن “دعم فرنسا لقطاعات كالأمن الغذائي، والمياه، والطاقة المتجددة، يشكل فرصة للمغرب لتعزيز إمكاناته التنموية، ليس فقط داخليا، ولكن أيضا في تعزيز روابطه الاقتصادية مع دول إفريقية أخرى”، مضيفا: “بفضل هذه الشراكة المعززة مع فرنسا، يمكن للمغرب أن يصبح مركزا إقليميا للابتكار في مجالات حيوية، مثل الطاقات المتجددة، ما سيسمح له بمشاركة خبراته ومشاريعه النموذجية مع دول الجوار، كما يعزز ذلك جاذبية الرباط كمركز اقتصادي إفريقي جاذب للاستثمارات الأوروبية والدولية التي ستدعم التنمية الشاملة في القارة”.
وأشار المتحدث إلى أن “الشراكة المغربية الفرنسية الجديدة تتضمن بعدا سياسيا واستراتيجيا مهما، إذ تعكس التوجه المغربي لتوسيع تحالفاته على الصعيد الدولي، مع التركيز على تعزيز دوره المحوري في إفريقيا والمحيط الأطلسي. فالتعاون مع فرنسا في هذا المجال يساهم في تطوير سياسات إقليمية مشتركة تعزز استقرار المنطقة الأورو-متوسطية وتدعم رؤية المغرب للمساهمة في تنمية القارة الإفريقية”.
وخلص معتضد إلى أن “هذه الشراكة تأتي كجزء من رؤية استراتيجية متكاملة يطمح المغرب من خلالها إلى لعب دور محوري في القارة الإفريقية، وتحقيق تنمية مستدامة، وتوفير الأمن والاستقرار الإقليمي. فالعمل مع فرنسا، كقوة اقتصادية وسياسية، يدعم المغرب في مساعيه لترسيخ أقدامه في إفريقيا وتوسيع أفق التعاون مع أوروبا، ما يجعله نموذجا رائدا للشراكات الاستراتيجية القائمة على الاحترام المتبادل والتنمية المستدامة”.
أورد البراق شادي عبد السلام، خبير دولي في إدارة الأزمات وتحليل الصراع وتدبير المخاطر، أن “الإعلان المتعلق بالشراكة الاستثنائية الوطيدة بين المغرب وفرنسا “يجسد الوضع المتقدم والتعاون الوثيق الذي يميز العلاقات المغربية الفرنسية القائمة على وشائج راسخة وروابط متينة وأواصر ثابتة ضاربة جذورها في التاريخ، ويشكل نموذجا للشراكة الاستراتيجية في العلاقات بين الدول، ويضع رؤية شاملة لتدبير العلاقات الثنائية بين البلدين”.
وتابع البراق، في تصريح لهسبريس، بأن “التعاون بين البلدين يقوم على ركائز قوية داعمة لتطوره من خلال الحفاظ على مسافات آمنة من الاحترام المتبادل تحت مظلة أواصر الصداقة التي تربط قادة البلدين عبر تاريخ مشترك عريق من التعاون والتضامن والعمل البيني الجاد المسؤول في ملفات إقليمية ودولية عدة”، مضيفا أن “الإعلان المتعلق بالشراكة الاستثنائية الوطيدة بين المغرب وفرنسا يؤكد رغبة قيادتي البلدين والتزامهما بتطوير العلاقات الثنائية ضمن إطار شامل يتضمن رؤية استراتيجية طويلة الأمد، يهدف إلى الاستقرار والاستدامة من خلال تحسين نطاق التعاون في مختلف المجالات، من خلال التفكير في مستقبل الأجيال المقبلة وضمان أن تكون هذه العلاقات قادرة على تلبية احتياجاتهم وتطلعاتهم”.
وزاد الخبير دولي في إدارة الأزمات وتحليل الصراع وتدبير المخاطر شارحا: “هذا لن يتأتى إلا ضمن إطار استراتيجي شامل ومستقر ودائم ينطلق من ضمانات سيادية بشكل يعزز قوة هذه العلاقات وفعاليتها وقدرتها على الصمود في وجه الأزمات والمخاطر والتقلبات الجيو-سياسية المرتبطة بها عن طريق تنزيل خطوات استراتيجية وعملية وفعالة لتحقيق الأهداف المشتركة، مع التركيز على الابتكار والتطور في الأساليب المستخدمة بإشراك جميع المجالات والقطاعات، مثل الاقتصاد، التعليم، الثقافة، والأمن، لضمان تحقيق الأهداف المشتركة ومعالجة القضايا والتحديات التي قد تعيق تقدم البلدين، سواء كانت اقتصادية، أمنية أو اجتماعية”.
وحول حضور البعد الإفريقي في هذه الشراكة، أكد المصرح لهسبريس أن “الإعلان المشترك يؤسس لشراكة استراتيجية ذات أبعاد متعددة تعزز قدرة المغرب على التأثير في فضائه الإقليمي، وتدعم جهود المملكة المغربية من أجل خدمة قضايا الشعوب الإفريقية وتطلعاتها، حيث إن المغرب في ظل هذا الزخم الدبلوماسي مع فرنسا، يقوي دوره الريادي في الترافع الجدي والمسؤول عن القضايا الإفريقية في كل المحافل والمنتديات، وعلى هذا الأساس فقد أكد الإعلان على الانخراط الواسع في المبادرات المغربية الرامية إلى تحقيق الأهداف التنموية المسطرة في المشاريع والمبادرات الهيكلية المغربية في المجال الإفريقي المفتوح، وبشكل خاص في منطقة غرب إفريقيا والساحل التي يوليها المغرب اهتماما خاصا”.
وشدد الخبير الدولي على أن “هذا الإعلان إطار مرن يجعل من استدامة هذه الشراكة بالتزاماتها السياسية وفلسفتها التشاركية بعيدة عن التقلبات السياسية في باريس، مما يعزز استقرار العلاقات الثنائية ويضمن تحقيق الأهداف مشتركة، كما يجدد الإعلان التأكيد على الدور الفعال والمحوري للشراكة بين المغرب وفرنسا في معالجة القضايا الإقليمية برؤية استراتيجية وفلسفة سياسية مسؤولة، بشكل يدعم جهود المملكة لترسيخ سيادتها المشروعة على الأقاليم الجنوبية، ويعكس التزام فرنسا بمسؤولياتها كشريك استراتيجي يواكب جهود المملكة المغربية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الأقاليم الجنوبية”.
وبين البراق أن “الموقف الفرنسي الجديد حول قضية الوحدة الترابية يغذي الطموحات المشتركة للبلدين في الاستثمار المشترك في العلاقات الثنائية برؤية استشرافية مستقبلية تجعل من تنمية الأقاليم الجنوبية منصة اقتصادية كبرى في القارة الإفريقية”، مؤكدا أن “هذا الموقف هو نتيجة حتمية لعمل دبلوماسي دؤوب قاده الملك محمد السادس برؤية متبصرة تهدف إلى بناء عقيدة دبلوماسية قوية وصادقة ومسؤولة قائمة على الاحترام المتبادل واحترام خصوصيات الآخر وتحدياته، والدفاع عن المصالح العليا للوطن، والحفاظ على الأمن القومي وفق مقاربة تنهل من التراث والتاريخ العريق للمملكة”.