آخر الأخبار

مظاهر الفرح بعد الاستهجان .. نفسية الشعب المغربي تتقلب بنتائج "الكان"

شارك

بين صافرات الاستهجان التي هزت أركان الملعب عقب التعثر أمام “مالي”، وهتافات الفخر التي رافقت التألق ضد “زامبيا”، يرتسم مشهد يتجاوز حدود المستطيل الأخضر ليدخل في عمق النفس البشرية. إنها ليست مجرد كرة قدم، بل هي “مرآة جماعية” تعكس آليات معقدة من الإسقاط النفسي والعدوى الانفعالية.

لم تكن المسافة بين مباراتي مالي وزامبيا مجرد بضعة أيام في مفكرة “الكان”، بل كانت رحلة سيكولوجية شاقة قطعها المشجع المغربي بين نقيضين: غضب عارم وإحباط سائل، ثم فرح طافح واعتزاز مبرر. هذا “التذبذب الوجداني” يضعنا أمام تساؤلات جوهرية حول طبيعة علاقتنا بمنتخبنا الوطني.

إسقاط وعدوى

في قراءة نفسية لما حدث خلال الأيام الماضية، أوضح فيصل الطهاري، أخصائي نفسي إكلينيكي معالج نفسي، أن اختلاف ردود الفعل يرتبط بآليات نفسية معروفة داخل سلوك الجماعات. وقال ضمن تصريح لهسبريس: “بصفة عامة، يمكن تفسير هذه المسألة نفسيا باعتبارها نوعا من الإسقاط، أي ما يُعرف بالإسقاط النفسي، حيث إن الانفعالات والمشاعر، سواء كانت غضبا أو فرحا، يتم توجيهها نحو موضوع خارجي”.

وضرب المختص مثالا قائلا: “عند الغضب، عندما لا يوفق المنتخب في إحدى المباريات، يتم إسقاط هذا الغضب بشكل مباشر على اللاعبين، مع تحميل المسؤولية للمدرب وخياراته. ويتجلى ذلك في التعبير عن الغضب في الشارع، وفي المقاهي، وفي الأماكن العمومية، وكذلك على مواقع التواصل الاجتماعي، وأحيانا يصل إلى نوع من التحامل الإعلامي، إن صح التعبير، من خلال بعض المقالات أو تحليلات الصحافيين والنقاد الذين ينتقدون الأداء”.

وأضاف الطهاري أن الأمر لا يقتصر على الغضب فقط، بل يشمل كذلك الفرح والاعتزاز، موضحا: “في المقابل، يتم إسقاط مشاعر الفرح والفخر على اللاعبين وأدائهم وعلى اختيارات المدرب، فتبدو الأمور حينها على ما يرام، ويعم الشعور بالسعادة والرضا. كما أن هناك ما يمكن تسميته ‘العدوى الانفعالية’؛ إذ إنه إذا بدأ عدد من الأشخاص في السب أو اللعن أو التعبير عن الامتعاض والغضب، فإن الأغلبية تتبعهم، خصوصا على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي. وإذا كان الاتجاه العام يسير نحو الشكر والمدح والثناء والسعادة، فإن العدوى الانفعالية تسير في هذا الاتجاه أيضا. وبالتالي، فالمسألة تتحرك في هذين الاتجاهين معا”.

وحول مدى تأثير هذه الانفعالات الجماهيرية على أداء اللاعبين أو اختيارات المدرب، أبرز الأخصائي النفسي أن التأثير ممكن، لكنه يظل محكوما بضوابط داخل الطاقم التقني. وقال: “في بعض الأحيان، يمكن أن تؤثر هذه الأجواء على اختيارات المدرب إذا كان بالفعل يتفاعل مع مواقع التواصل الاجتماعي. غير أن الدخول إلى هذه المواقع، سواء بالنسبة للاعبين أو لأفراد الطاقم، يكون عادة مراقبا ومقيدا، لأن التأثر بكل ما يقال قد يكون سلبيا. لذلك، قد يُسمح لهم بالدخول في أوقات محددة، لكن دون قراءة جميع التعليقات أو المقالات التي تتناولهم بالنقد أو الإشادة”.

وتابع: “كما يمكن أن يؤثر الغضب الشعبي، إن صح التعبير، بشكل غير مباشر، خصوصا عندما يتم نقله عبر الصحافيين في الندوات الصحافية، حين يُقال مثلا إن المغاربة مستاؤون من الأداء. وقد يكون لهذا التأثير جانب إيجابي إذا ساهم في تصحيح بعض الاختيارات، كما قد يكون له تأثير سلبي إذا تجاوز حدوده. وفي العموم، إذا كان هناك تواصل بين مختصين في التسويق الرقمي والطاقم الفني والتقني، فقد تصل رسائل معينة تعكس توجهات الجمهور”.

وخلص الطهاري إلى أن ما يحدث يندرج ضمن منطق نفسي طبيعي مرتبط بسلوك الجماعات، قائلا: “نحن هنا نتحدث عن سيكولوجية الجماهير وسيكولوجية المجموعات، التي تقوم على تبني اتجاهات جماعية، إما مشاعر غضب واحتقان، أو مشاعر فرح ورضا. ومن المعروف، خاصة في المجال الرياضي، أنه عند النجاحات تجد الجميع في صفك، بل الملايين، لكن عند الإخفاقات قد ينقلب كثيرون ضدك، وهو أمر عادي من الناحية النفسية. غير أن ما ينبغي تصحيحه هو المستوى الفردي لكل شخص، من خلال تشجيع المنتخب والرياضة في جميع الحالات، سواء في الفوز أو الخسارة، لأن منطق الرياضة في الأصل قائم على الفوز والخسارة معا”.

سلوك غير حصري

قال عادل الصنهاجي، أخصائي نفسي، إن التفاعلات السلوكية التي تصدر عن الجماهير عقب مباريات المنتخب الوطني لا تندرج ضمن خصوصية مغربية خالصة، بل تُعد سلوكا عاما يميز الجماهير الرياضية عبر العالم. غير أن خصوصية الحالة المغربية ترتبط بما يسميه علم النفس “صدمة التوقعات العالية”، التي تشكلت لدى الجماهير بعد الإنجاز التاريخي في كأس العالم قطر 2022.

وأوضح الصنهاجي، ضمن تصريح لهسبريس، أن هذا الإنجاز أسس لتصور نفسي جماعي يرى في المنتخب المغربي منتخبا من طينة الكبار، وهو ما أدى إلى تضخم سقف التوقعات؛ إذ أصبحت أي نتيجة غير الفوز تُستقبل باعتبارها إخفاقا. وفي هذا الإطار، لم يعد التعادل يُنظر إليه كنتيجة طبيعية في كرة القدم، بل كخسارة رمزية تولد الإحباط وخيبة الأمل، وهو ما يكشف، بحسب المتحدث، عن حاجة ملحة إلى ترسيخ الثقافة الكروية والتأطير التربوي الرياضي.

وأضاف الأخصائي النفسي ذاته أن من بين المفاتيح الأساسية لفهم ردود الفعل الجماهيرية، ما يعرف بـ”رد الفعل الجماعي”؛ إذ تتأثر الجماهير بعضها ببعض بسرعة كبيرة، وتنتقل مشاعر التذمر أو الغضب أو الصراخ بشكل تلقائي في ما يسمى “العدوى الانفعالية” في علم النفس الاجتماعي. كما أن هذه الانفعالات، في نظره، لا تقتصر فقط على التعبير عن الرأي الرياضي، بل تشكل أيضا آلية لتفريغ ضغوط نفسية واجتماعية يعيشها الأفراد في حياتهم اليومية.

وأشار الصنهاجي إلى أن المنتخب الوطني تحوّل لدى شريحة واسعة من الجماهير إلى رمز لاكتمال الذات والانتماء الوطني، ومصدر للفخر والتباهي، وهو ما يجعل أي تراجع في الأداء يُستقبل على أنه نوع من “الخذلان الشخصي”، شبيه بخيبة الأمل التي يشعر بها الفرد حين يُخذل من شخص قريب منه. كما حمّل الإعلام الرياضي جزءا من المسؤولية، معتبرا أن الخطاب الإعلامي غالبا ما يضخم التطلعات ويركز حصريا على ثقافة الفوز، في حين يتم تقديم التعادل أو الأداء غير المقنع على أنه فشل، وهو ما يسهم في تأجيج غضب الجماهير وتهييج انفعالاتها.

وفي ما يتعلق بتأثير هذه الأجواء على اللاعبين والطاقم التقني، شرح الصنهاجي أن الضغط الجماهيري والإعلامي، رغم ما قد يحمله أحيانا من جوانب إيجابية، قد يتحول في كثير من الأحيان إلى عامل سلبي، يؤثر نفسيا على اللاعبين وحتى على المدرب. واستحضر في هذا السياق الخطاب الذي يؤكد فيه المدرب أو الناخب الوطني غياب الضغط، معتبرا أن هذا الخطاب قد يعكس، من الناحية النفسية، محاولة لا شعورية للتقليل من حجم الضغط الحقيقي المفروض عليه.

وختم الأخصائي النفسي تصريحه بالتأكيد على أن صافرات الاستهجان التي أعقبت مباراة مالي كان لها أثر نفسي واضح على لاعبي المنتخب، مشددا على أن الجماهير المغربية، رغم حبها الكبير لمنتخبها، مطالبة بتطوير أساليب التعبير والدعم، واعتماد سلوك جماهيري أكثر وعيا ونضجا. فالمغرب، حسب قوله، بات يُنظر إليه كمنتخب كبير، وهو ما يفرض ثقافة رياضية قائمة على تقبل مختلف النتائج، سواء الفوز أو التعادل أو الخسارة، في إطار روح رياضية إيجابية تنعكس بشكل مباشر على أداء المنتخب واستقراره النفسي.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا