لم تكن غزلان، بائعة الفخار، التي قتلتها سيول “واد الشعبة”، في واحدة من أفظع فواجع المغرب، ووُجدت وحيدة جثة هامدة قرب رمال البحر، وجها عابرا في مدينة الخزف، بل كانت جزءا من ذاكرة حاضرة المحيط.
يداها الملطختان بـ”القطران”، طريقة جلوسها على الكرسي، ابتسامتها الهادئة في وجه كل مار، وتعاملها الطيب مع كل زائر.. تفاصيل بسيطة، صنعت حضورها الاستثنائي، حضور امرأة لم تكن تبيع الفخار فقط، بل كانت تسوق لتاريخ مدينة عريقة.
غزلان، لم تكن مجرد بائعة عادية للأواني الطينية، بل كانت جزءا من مشهد يومي ألفه الآسفيون وزوارهم أمام باب “الشعبة”، حضورا هادئا دون ضجيج، تحيي هذا وتبتسم لذاك. كانت تجلس بين قطع الفخار، كمن يحرس تاريخيا صغيرا، كانت مقبلة على الحياة، غير مدركة أنها على موعد قريب مع الموت.
في ذلك “الأحد الأسود”، باغتت سيول “واد الشعبة”، التي أبت إلا أن تغير مسارها الطبيعي، الذي اعتدته منذ سنوات خلت، أسوار المدينة القديمة دون إنذار، ووسط هذا الطوفان المائي، حصدت روح غزلان، سيدة بسيطة كانت تكافح بكرامة رفقة زوجها من أجل لقمة العيش.
لم تكن الراحلة، وهي أم لطفلين، تعلم أنها لن تعود إليهما في مساء ذلك اليوم كسائر الأيام، وأن القدر كان يخبئ لفلذتي كبدها، ذكرى قاسية ومؤلمة، وصل صداها إلى خارج الحدود.
حين حاصرتها الفيضانات، كانت تحاول إنقاذ “فخارها” من الضياع، معتقدة أنها مجرد “أمطار عادية عابرة” ستنتهي بعد دقائق أو ربما ساعات قليلة، قبل أن تجرفها السيول بعيدا أمام أعين ابنها.
يروي ابنها أمين تفاصيل لحظاتها الأخيرة، بصوت مثقل بالألم: “في ذلك اليوم، لاحظت أن الأمطار تتهاطل بغزارة، فتوجهت إلى والدتي لمساعدتها على جمع الفخار. كنت أعتقد أن الوضع عاديا، مثل باقي التجار هناك، لكن فجأة داهمتنا سيول طوفانية”.
ومضى في سرد تفاصيل الفاجعة، التي خلفت 39 قتيلا، وفق لمعطيات رسمية، موضحا: “كنت أمسك بيد أمي، وكانت تطلب مني ألا أتركها، لكن السيول كانت أقوى مني، فقدت الوعي، ورأيتها تصارع الموت أمامي”.
غزلان، السيدة البشوشة، التي خلف رحيلها المفاجئ جرحا لا يندمل، اشتهرت ببيع “خابيات” الفخار، أمام مدخل “باب الشعبة”، الذي بناه البرتغاليون، قبل قرون، وظل صامدا في وجه الزمن، فيما رحل، على حين غرة، تجاره، الذين كانوا يجعلونه نابضا بالحياة.
كانت غزلان وحدها قادرة على التسويق لمدينة ضاربة في عمق التاريخ، مدينة لم تنل نصيبها من مشاريع التنمية، بتعامل بسيط، وابتسامة مبهجة، وكلمات تنم عن تربية امرأة أصيلة. يقول الفنان نعمان لحلو، أحد زبنائها: “يوم 8 فبراير الماضي، كنت بآسفي، وذهبت لباب الشعبة، والتقيت “غزلان “، اشتريت منها أنا وأصدقائي بعض الفخار، ودعتنا بابتسامة وشكر”.
فيما وثقت كاميرا أحد البرامج التلفزيونية على قناة “دوزيم”، لحظة مؤثرة، حين رفضت بائعة الفخار، تقاضي ثمن كأس طيني من المغنية ابتسام تسكت، خلال زيارتها لآسفي، وقدمته لها هدية، في لقطة أعاد كثيرون تداولها على المنصات الاجتماعية، معتبرين أنه “تترجم عطاء امرأة يشهد لها الجميع بالطيبة”.
ترجلت بائعة الفخار عن صهوة الحياة، تاركة باب الشعبة يقف وحيدا، وموحشا، بلا روح، لا تشم فيه إلا رائحة الموت، كأنه نادم على ما اقترفه واديه، ومعتذر عن عدم قدرته على حماية غزلان والبقية، فيما الخزف صامت من هول الفاجعة.
المصدر:
العمق