في خضم السباق المحموم نحو بناء القدرات الحاسوبية المطلوبة للذكاء الاصطناعي، بدأت كبرى شركات التكنولوجيا – مثل “مايكروسوفت” و”ميتا” و”غوغل” – في إعادة توزيع المخاطر المالية، عبر صيغ تمويل معقدة لا تُظهر التزاماتها على شكل ديون مباشرة، بل تعتمد على أطراف ثالثة تتحمل عبء الإنفاق.
وكشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أن تكلفة مراكز البيانات اللازمة لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة تقدّر بعشرات المليارات من الدولارات، ما دفع هذه الشركات إلى توقيع صفقات استئجار “قوة حوسبة” بدلًا من امتلاكها بالكامل. هذه الصفقات تمنحها المرونة لتقييم الطلب المستقبلي على الذكاء الاصطناعي دون التقيد بالتزامات طويلة الأمد قد تتحول إلى عبء ثقيل إن تراجع الزخم.
في هذا السياق، أبرمت “مايكروسوفت” صفقات بقيمة تفوق 50 مليار دولار لتأجير مراكز بيانات من شركات ناشئة، ووقّعت “ميتا” صفقة تمويل بنحو 30 مليار دولار لبناء مركز بيانات ضخم في لويزيانا من دون إدراجه ضمن مديونيتها، بينما اختارت غوغل شراء قوة حوسبة من شركة صغيرة ثم إعادة بيع جزء منها إلى “أوبن إيه آي”.
هذه الترتيبات تمنح الشركات الكبرى قدرة توسعية سريعة، مقابل ترحيل المخاطر إلى شركاء أقل شهرة في السوق، وغالبًا ما يكونون ممولين من صناديق خاصة، مما يقلل من شفافية عمليات التمويل ويجعل النظام أكثر عرضة للاهتزاز في حال حدوث تباطؤ في النمو.
وأفاد المصدر ذاته أن مشروع “هايبريون” التابع لشركة “ميتا” مثال واضح على هذه المقاربة، فقد أنشأت الشركة كيانًا خاصًا باسم “Beignet Investor LLC”، وتعاونت مع شركة التمويل الخاصة “Blue Owl Capital” التي تولّت 80٪ من تمويل المشروع، عبر إصدار سندات اشترتها مؤسسات مثل “Pimco” و”BlackRock”. وفي المقابل، تستأجر ميتا مركز البيانات عبر عقود لمدة أربع سنوات، ما يسمح لها بتصنيف التكاليف كمصاريف تشغيلية وليست التزامات مالية طويلة الأجل.
بحسب الخبراء، فإن “ميتا” تدفع علاوة إضافية لتجنب تحميل الدين على ميزانيتها العمومية. كما أن الاتفاق يمنحها الحق في إنهاء التزامها في عام 2033، وهو تاريخ قريب نسبيًا بالنظر إلى أن السندات المستحقة في المشروع تمتد حتى 2049.
هذه الصيغ التعاقدية ليست جديدة تمامًا، لكنها تُعيد إلى الأذهان تجارب استثمارية سابقة استخدمت أدوات مشابهة – مثل “المركبات ذات الغرض الخاص” (SPVs) – التي سبقت فقاعة الإنترنت في بداية الألفية. ويقول شيفارام راجغوبال، أستاذ المحاسبة في جامعة كولومبيا، إن المخاطر لا تختفي، بل تُعاد توجيهها: “كأنك تضغط أنبوب معجون الأسنان، ما يُفرغ هنا، يظهر هناك”.
من جهتها، اختارت “مايكروسوفت” توقيع صفقات قصيرة الأمد مع مجموعة من مزودي “السحابة الجديدة” أو ما يُعرف بـ”النيوكلاود”، مثل شركات “Nebius” و”Nscale” و”Lambda”، وهي شركات ناشئة توفر مراكز بيانات جاهزة للاستخدام. هذه الصفقات، التي تتراوح مدتها بين ثلاث وخمس سنوات، تُعامل كمصروفات تشغيلية وتُقلل من التزامات الاستثمار طويل الأمد.
رئيس الشركة التنفيذي، ساتيا ناديلا، أكد في تصريح سابق أن استراتيجية “مايكروسوفت” تعتمد على المرونة لمواكبة الطلب، مع تجنب الوقوع في فخ الاستثمارات الزائدة. ومع أن الشركة كانت تبني منشآت جديدة بوتيرة سريعة، إلا أنها أوقفت بعض مشاريعها مؤخرًا بهدوء، بالتزامن مع إعادة صياغة العلاقة مع “أوبن إيه آي”، شريكها الرئيسي في الذكاء الاصطناعي.
يُذكر أن “أوبن إيه آي” ملتزمة بتوفير ما يصل إلى 250 مليار دولار من خدمات الحوسبة لصالح مايكروسوفت، وهو رقم ضخم يجعل من الضروري تنويع مصادر القوة الحاسوبية. ولهذا السبب، بدأت الشركة في شراء موارد من “أوراكل” ومزودين آخرين.
كذلك وقّعت “أوبن إيه آي” صفقات مباشرة بقيمة تصل إلى 22.4 مليار دولار مع “كور ويف” (CoreWeave)، وهي أكبر مزود سحابة جديدة، والتي تموّل توسعها من خلال ديون مرتفعة الفائدة تصل إلى 10٪، ما يجعلها مرتبطة جوهريًا بمصير “أوبن إيه آي”.
رغم ذلك، تؤكد “كور ويف” أنها تعمل على تنويع قاعدة عملائها، مشيرة إلى أن أي عميل لا يمثل أكثر من 35٪ من إيراداتها المستقبلية المؤكدة، دون أن تكشف النسبة التي تستهلكها “أوبن إيه آي” فعليًا من مواردها.
بالنظر إلى الوتيرة المتسارعة للطلب على الذكاء الاصطناعي، يرى محللون أن انتشار هذه النماذج التمويلية يمثل خطوة ذكية من عمالقة التكنولوجيا. فبدلاً من الإنفاق المباشر والمجازفة، يفضلون استخدام “أموال الآخرين”، حتى لو كانت بتكلفة أعلى.
لكن، كما يحدث في كل فقاعة تكنولوجية، يشدد المصدر ذاته على أن توجيه المخاطر إلى المؤسسات المالية الصغيرة لا يُلغي احتمال الانكشاف الواسع لاحقًا، خاصة إذا خابت التوقعات بشأن الطلب على الذكاء الاصطناعي. وعندها، سيكون الدرس قد تكرّر من جديد، فقط بأدوات مختلفة.
المصدر:
هسبريس