في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
وسط هدير المناشير ورائحة الخشب، تقف جيهان تويجر، الشابة ذات الـ23 عاما، كقصة استثنائية في عالم ظل لسنوات طويلة حكرا على الرجال. ومع كل قطعة أثاث تتممها بيديها، يتأكد أن “مدام بوا” ليست مجرد اسم تجاري تتداوله مواقع التواصل، بل تجربة إبداعية خرجت من عمق التحدي والإصرار، ومن رغبة جامحة في إعادة تعريف الحِرف اليدوية بلمسة أنثوية مغربية أصيلة.
لم تكن النجارة يوما خيارا تقليديا لفتاة في سن السابعة عشرة، لكن جيهان رأت فيها أكثر من مجرد مهنة. كانت تزور ورشة صديق لها يعمل نجارا، وهناك تعّفت على عالم الخشب وأسراره. ورغم النظرة السائدة بأن النجارة مجال رجالي، قررت خوض التحدي، وحصلت على بطاقة “حرفية في النجارة” غير أنها اختارت الجانب الإبداعي من المهنة، حيث برزت مهارتها في اللمسات الفنية وجانب “الديكور”، لتصبح بصمتها مرئية في كل قطعة تُنجزها.
طريق لم يكن مفروشا بالورود
جيهان لم تأتِ من خلفية ميسورة. اشتغلت صغيرة، وفي سن 18 كانت تعمل في مراكز النداء بالتوازي مع دراستها في القنيطرة. انتقالها المفاجئ نحو النجارة أربك أسرتها.لا شيء في ملامحها أو خفتها يوحي بأنها صاحبة واحدة من أكثر المهن صلابة، لكن نظرة واحدة إلى يديها تكفي لتكشف عن قصة طويلة من الشغف، الإصرار، والكثير من الحلم.
جيهان، المعروفة لدى جمهورها بلقب “مدام بوا” ليست مجرد شابة احترفت النجارة، بل هي نموذج لشابة عضامية صنعت لنفسها مكانا في مجال كان حكراً على الرجال. وبين المطرقة والإزميل وآلات التشكيل، صنعت لنفسها هوية مهنية خاصة، وابتكرت تقنية فنية أصبحت توقيعها في كل قطعة إبداعية.
“خدمت فكلشي قبل النجارة”
تحكي جيهان: “أنا خدمت صغيرة، من 17 عام.. خدمت فالسونتر دابيل، دوزت فبزاف ديال الخدامي، وكنت كنقرا فالقنيطرة. ولكن ديما كان عندي الميل للحرفة… ماشي للبيسي والروتين.”
اختيارها للنجارة لم يكن سهلا، لا اجتماعيا ولا عائليا، تقول وهي تبتسم:ماما تخاصمات معايا ثلاثة أسابيع ملي عرفات… ما فهماتش كيفاش بنتها غادي تدخل النجارة! ولكن جلسنا فالطابلة، وشرحت ليها… قلت ليها: “هادي هي الخدمة اللي بغيتها، وغادي نوصل للعالمية”.
كانت البداية حين بدأت تزور ورشة صديق نجار، وهناك اكتشفت أن الخشب ليس مجرد قطع صلبة، بل مادة تتشكل بالخيال. وتقول جيهان: عرفت التقنية، تعلمت، ودخلت رسميا… وخديت البطاقة ديال الحرفية. ولكن ما بقيتش فالكلاسيك، مشيت ديكوغاتي..الفن، اللمسة، الإبداع.”هذه “اللمسة” هي ما جعلها اليوم مرجعا في تقنية “التعرق الكهربائي” التي تميز أعمالها.
تشير جيهان إلى أحد أعمالها بفخر واضح، وتقول: “التعراق الكهربائي تقنية خطيرة شوية… ماشي أي واحد يقدر عليها. بزاف كيسولوني: شنو هاد التقنية الجديدة؟ كنقول ليهم: راه صعيبة خاصها الصبر والتفاني”.وتضيف: الحرفي الحقيقي ما كيهضرش بزاف… يديه هي اللي كتهضر عليه. وأنا يديّ هما راس مالي.”
رجال تحت قيادتها
على عكس الصورة النمطية، لم تواجه جيهان رفضا من رجال القطاع، بل العكس، تحكي: “أنا خدامة معايا خمسة ديال الرجال… بحال خوتي. كيعاملوني بالاحترام، وكيساندوني. حتى مول الهوندا ملي كيوصل، غير كيشوفني بنت مذبرة، كيهز معايا بلا ما نهضر”، وتضيف بفخر: “الرجال المغاربة كيعاونوا، وكيحترموا المجهود. وهذا اللي شجعني نزيد القدام”.
جيهان لا ترى المال أولوية اليوم، ترى الفترة مرحلة تأسيس وتطوير، وتقول بصراحة: “الفلوس اللي كنربح… نرجعهم للخدمة. مازال ما كنشوفش الربح، كنشوف الإبداع… كنشوف المستقبل”.
وتؤكد أن الحلم الأكبر ما زال أمامها: “بغيت نخرج برا… نمشي لأسواق عالمية، ونوصل الحرفة المغربية للبرازيل، لفرنسا، لإيطاليا… فين ما كان الفن.”
تلقت بالفعل عروض تعاون دولية، لكنها رفضتها في الوقت الراهن: “بغيت تخرج برا Ce n’est pas le moment… بغيت نبني راسي مزيان قبل ما نخرج.”
“ما تغريكمش الحياة السهلة…”
بحدة الشابة الناصحة التي تقلنت دروس الحرفة والحياة، تقول جيهان: “البنات دابا كيشوفو شي بنت ناجحة في دبي… وكيقولو بغينا هاكا. ولكن ما كيعرفوش ما وراء القصة. النجاح ماشي ساهل… الخدمة بيديك هي اللي كتوصلك”.وتضيف: “النجارة ماشي ديال الرجال وبس… البنات يقدرو يديرو الكوتي الفني، الإبداعي… يقدرو يبدعو، غير خاص الصبر”.
بين ضجيج الورشة، وتحت ضوء مصابيح بسيطة، تستمر جيهان في نحت مسارها الخاص.وتحكي وتعمل في الوقت نفسه، ولا تكفّ عن ترديد جملتها المفضلة: “كل نهار كنقرب لحلمي أكثر… مازال الطريق طويلة، ولكن غادي نوصل”.
وبين ماكينات النجارة وصور أعمالها المنتشرة على مواقع التواصل، تستمر “مدام بوا”في نقش مسارها الخاص، شابة تقف في واجهة حرفة صعبة، وتعيد للخشب روحه الفنية، وللمرأة حضورها في مهن كانت إلى وقت قريب “محرّمة”عليها. هي إذن قصة شغف، قصة تحدي، وقصة فتاة آمنت بأن الخشب يمكن أن يحمل توقيعا أنثويا مغربيا وجريئا.
المصدر:
العمق