في ندوة بعنوان “السياسي والمؤرخ.. من يصنع التاريخ؟” قال الكاتب ومؤرخ المملكة السابق حسن أوريد إنه “يمكن للسياسي الاندراج في سياقات صناعة التاريخ، لكن من العسير القول إنه صانع للتاريخ، فبالأحرى أن يكون مؤرخا”، مردفا بأن السياسيين يصنعهم التاريخ وعبيد للتاريخ كما كتب تولستوي، بينما المؤرخ يسهم في فهم التاريخ؛ لكن “إذا حدد اختصاص كل من السياسي والمؤرخ فيمكن حينها للشعوب أن تصنع تاريخها، فهي التي تصنع التاريخ”.
جاء هذا خلال فعاليات “الأيام الوطنية التاسعة والعشرين” للجمعية المغربية للبحث التاريخي، المنظمة، الخميس، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، التي تحمل اسم المؤرخة الراحلة لطيفة الكندوز، وكرّمت كلا من محمد أعفيف، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، المتخصص في دراسة الشرق الأقصى والمغرب، الذي كتب عن أصول التحديث في اليابان، وحصل على جائزة وزارة الخارجية اليابانية في السنة الجارية 2025، وعلال الخديمي، الذي كتب عن التدخل الأجنبي ومقاومة الاحتلال الاستعماري بالمغرب، ومحمد أوجامع، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، الذي انشغل علميا بتاريخ البادية المغربية، وتاريخ القبائل والأعيان، وأستاذ التاريخ القديم عبد العزيز بلفايدة، وخالد الشكراوي، أستاذ التعليم العالي، نائب عميد مكلف بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة محمد السادس بالرباط، ومدير برنامج الدكتوراه في العلوم السياسية والدراسات العالمية بالمؤسسة نفسها.
أوريد، الذي درّس في الجامعة وكتب عن التاريخ في الرواية والمقالة والكتب، وسبق أن شغل مناصب رسمية من بينها الناطق باسم القصر الملكي، ذكر أن “الوعي هو حينما يكون التاريخ ثقافة”، مضيفا: “أخذنا نشق اليوم طريقا نحو استعادة التاريخ، وأن يكون ثقافة، والفضل يرجع لما قامت به الجامعة والمؤرخون وصلة الوصل بين الإنتاج الأكاديمي والشغف لدى الجماهير”.
وتابع المتحدث ذاته: “أتيتُ للتاريخ طارئا، حينما توليت منصبا رسميا لفترة معينة، وشرعت في قراءة كتب التاريخ، من التراث والمنهجية التاريخية، ومن بينها ‘لِمَ يصلح التاريخ؟’ (…) وكانت للموضوع وجاهة، لأن التاريخ كان فقد بعض مكانته وتميزه، أو نزل من عليائه، بعدما أزاحته السوسيولوجيا وأعقبها الاقتصاد عن مكانته. وعلقت من الكتاب جملة بذهني، هي: ‘التاريخ لا يجلّي الحقيقة، ولكنه يتعقب الزيف’، وهو تعريف متواضع، على المؤرخ التحلي به؛ فالمؤرخ ليس ناطقا باسم الحقيقة، ولا مالكا لها، بل جهده تعقب الزيف وفضحه”.
وزاد الأكاديمي ذاته: “لم يكن التاريخ في بلادنا مثار اهتمام خلال فورة العولمة وأهمية الاقتصاد، إذ كان الاهتمام به آنذاك نوعا من الترف، فقد انصب اهتمام الدول الثالثية (دول العالم الثالث) على الاقتصاد والقانون، ثم اهتم جيل آخر منها بالدَّمقرطة وحقوق الإنسان. أما في السنوات العشر الأواخر فنشهد اهتماما متواترا عبر العالم بالتاريخ، ونرصد النزوعات الهوياتية، التي تقوم على الهوية وتوظيفها، ومن ركائزها التاريخ أو قراءة معينة له”.
وواصل أوريد: “حضور التاريخ عالميا لم يعد مرتبطا بمظاهر احتفائية فقط، بل بتصورات للحاضر والمستقبل”، مع استحضاره احتفالَي الذكرى الخامسة والسبعين ثم الثمانين بانتصار السوفيات في “المعركة الكبرى” وفق الأدبيات الروسية، وهو “احتفال غير منفصل عن رؤية معينة لروسيا وحاضرها ومستقبلها”، واحتفال أوروبا والولايات المتحدة بإنزال نورماندي، واحتفالات الجزائر بالذكرى الستين للاستقلال، واحتفال الصين للوقوف على مجازر اليابان فيها، وقرار تركيا تحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد بتاريخ يونيو 2021؛ وهو “تاريخ غير مجاني ومذكر بمعاهدة سيفر المفروضة على بقايا الإمبراطورية العثمانية، فكان الثأر بهذه العودة”، وتدشين المتحف المصري الذي “لم يكن مجرد احتفال، بل قراءة لتاريخ مصر”، واحتفالات الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء بالمغرب.
وعلق الكاتب والمؤرخ بقوله: “التاريخ يعود، والدول والأنظمة توظفه من أجل رؤية لحاضرها ومستقبلها، وهي احتفالات غير منصرفة عن تصور معين لبلدانها، بل هناك نزاعات بين بلدان حول الذاكرة والتاريخ، مثل النزاعات الترابية والجوية بين تركيا واليونان، وتركيا وأرمينيا، وروسيا وأوكرانيا، حيث يوظف التاريخ لتبرير الهيمنة أو الاستقلالية في الحالة الأخيرة، وأذربيجان وأرمينيا، وبين المغرب والجزائر… فالتاريخ موضع نزاع وصراع”.
ولا تمس هذه النزاعات الدول وعلاقاتها فحسب، بل قد تخلق داخل البلد الواحد، “من خلال إعادة قراءة لتاريخه، أو التركيز على حقبة، أو تأويله تأويلات مختلفة، مثل تركيز رؤيةٍ في مصر تبدأ التاريخ من عمرو بن العاص، ورؤية تركز على البعد الفرعوني، وفي لبنان بين الفينيقيين والاتجاه العروبي، وفي المغرب في ما يتعلق بنظرة مختلفة حول حلول العنصر العربي لاتجاهات، مقارنة بالاتجاهات العروبية والإسلامية”، وفق المتدخل ذاته.
وذكّر أوريد بأن “إسبانيا أيضا كانت موزعة بين قراءات، بين نظرة تقدر بأن تاريخها هو تاريخ ما تواتر في أرضها، وبأن من كتبوا بالعربية فيها إسبان لأن تاريخهم انتظم بإسبانيا (…) ونظرة ترى أن تاريخ إسبانيا تاريخ عقيدتها، وأن حلول المسلمين إلى غاية 1492 يعد اغتصابا، استرجعت بعده إسبانيا ذاتها بحروب الاسترداد.”
ورصد المتحدث “العودة للتاريخ على مستوى الشعوب، إذ لم يعد شأن الأكاديميات والجامعات بشكل صرف”، وزاد معلقا: “اليوم نعيش دمقرطة للتاريخ، إذ صار شأنا شعبيا، حتى بين من ليسوا مؤرخين، أو ذوي المعرفة المزجاة بالتاريخ، ولكنهم يعبرون عن هوس بـ’البودكاست’، ومجلات متخصصة، والصحافة التي تفرد وضعا خاصا إضافيا للدراسات التاريخية…”.
كما استحضر الأكاديمي “معطيات مستجدة جعلت هذه العودة العالمية للتاريخ تحدث؛ من بينها بروز مفهوم الدولة الحضارة، بعد مفهوم الدولة الأمة، فالصين مثلا تعرف نفسها بوصفها حضارة أكثر من دولة، فلا يقتصر وجودها على الجغرافيا، بل حيثما وجدت الحضارة الصينية، والأمر نفسه مع روسيا بعد الحرب الأوكرانية الروسية، فيما تعتبر فرنسا نفسها كذلك دولة حضارة، بارتكاز واستعادة للتاريخ وتوظيف له”.
وبما أن الشعوب مسكونة بالتاريخ كما يبين ذلك كارل ماركس فإن الغرب يستشعر نوعا ما من “الكآبة الوجودية” بفعل خطر الهجرة، وما يسمى “الاستبدال الكبير”، ما يسفر عن العودة إلى التاريخ، وفق المؤرخ ذاته.
ومن بين عوامل التفسير، وفق المتدخل، “عيشنا فترة انتقالية وأزمة تستدعي الاستنجاد بالتاريخ”؛ فـ”الثورة البلشفية مثلا تستعاد بوصفها تاريخا مؤسسا، أو ثورة ماو، أو الثورة الإيرانية؛ كما قد يستعاد توجه ما للوفاء له ليبراليا أو اشتراكيا، أو خطٌّ ما تستعيده السلطة… أو البحث عن شخصية مقعّدة مثل الخميني في إيران أو بومدين في الجزائر، أو التركيز على مؤسسة لها جذور تاريخية مثل الكنيسة، أو الملكية، أو حزب معين…”، واسترسل: “كما قد تعمد بعض الأنظمة إلى اعتماد قوانين لحماية تاريخها، وعدم التطاول عليه باعتباره مقدسا، في روسيا أو الصين مثلا، وقد تتبنى مؤسسات رسمية تعنى بهذا التاريخ، إما معاهد أو أكاديميات أو مؤسسة مؤرخ رسمي معين، وتعتمد على أدوات التنشئة في المدرسة والإعلام والصناعة السينمائية”.
“لكن قد يتخذ التاريخ جوانب سلبية بالتعتيم على الأحداث، ومن ذلك رؤية تركيا مثلا حول علاقتها بأرمينيا، وانزواء تروتسكي من تاريخ الثورة البلشفية، أو مصالي الحاج وإعدامه الرمزي من جبهة التحرير الجزائرية”، يستدرك أوريد، متابعا: “ورغم ذلك فإن التاريخ ليس شأنا رسميا ولو وظفته السلطة لتبرير توجهها والتأصيل لشرعيتها، فهناك تاريخ مواز ومعارض للسردية الرمزية. ولا يمكن التحكم في التاريخ، خاصة في الأنظمة الديمقراطية، إذ تأتي اتجاهات تنقض الرواية الرسمية؛ مثل ‘المؤرخين الجدد’ في إسرائيل الذين نقضوا الرواية الرسمية التي أرادت قول إن الفلسطينيين من أرادوا الهجرة وإن العرب أرادوا القضاء عليها، ما يبرر ما حدث (…) والمؤرخون الجدد أثبتوا من داخل إسرائيل أن طرد الفلسطينيين دفعت إليه إسرائيل بأعمال عدوانية وتطهير عرقي، وما اعتبرَ اعتداء الجيوش العربية لم يكن حقيقة، بل كانت لإسرائيل قوة عددية تفوق الجيوش العربية، وكانت أكبر من حيث الكفاءة، وهذا اتجاه ينقض المقولة الرسمية لتصور داوود ضد جالوت، أي غلبة الأعزل ضد المسلح”.
وهذه الوظيفة التاريخية كشفت أيضا “وحشية المستعمر، بعدما اعتبرت رسميا مهمة الاستعمار مهمة تمدينية (…) وقدم مؤرخون قراءات نسفت الرواية الرسمية (…) وكذلك وقع مع بعث أرشيف الأرمن وإبادتهم، وقراءة الفترة النازية والمتعاونين مع النازيين”، وفق المتحدث، مستطردا: “ولا تقوم بهذا فئة المؤرخين المحترفين فقط، بل يوجد اليوم مؤرخون بدوام جزئي أو هواة، ولا يقلون تأثيرا من حيث نقض الرواية الرسمية، ومن أمثلتهم الكاتب التركي الحائز على جائزة نوبل أورخان باموق الذي يتبنى سرديةً في ما يخص الأرمن مخالفة للسردية التركية، ما يجعله في صراع مع سلطات بلده، وكذلك الكاتب الفرنكو-جزائري بوعلام صنصال حول ما يقوله عن حدود الجزائر، وهو ليس مؤرخا، ولكنه تعاطى مع رواية تزعج السلطات الجزائرية، وبقية القصة معروفة. ومثال آخر لشخص ليس مؤرخا لكنه يتعاطى التاريخ وينسف السردية الرسمية نور الدين آيت حمودة، الذي يعتبر أن رقم مليون ونصف مليون شهيد متجاوز ومبالغ فيه، ويقول أمورا مزعجة حول الأمير عبد القادر. وفي المغرب يوجد كذلك ناشط مغربي شكك في نسب مولاي إدريس الثاني…”.
وبعد هذه الأمثلة ذكر الكاتب أن “التاريخ رهانٌ سياسي في الحقيقة”، وتابع: “السياسي اليوم يسعى إلى استعادة التاريخ وتوظيفه لاعتبارات سياسية، بعد توار”، مؤكدا أن “على الباحثين التحلي بكثير من التواضع عند الحديث عن التاريخ لأنه ليس علما، ولكنه يشترك مع العلم في القراءة الموضوعية، ولا يجلي الحقيقة، بل يجلي الزيف”، قبل أن يسجل في ختام محاضرته أن “تعامل المجتمعات مع التاريخ يختلف باختلاف درجات تطورها ونموها؛ فالمجتمعات الديمقراطية تنظر نظرة موضوعية لتاريخها بدون عقد، عكس المجتمعات غير الديمقراطية التي تريد تاريخا على المقاس، فقراءة التاريخ معيار لمدى ديمقراطية مجتمع ما (…) وفي المجتمعات الديمقراطية يقع تمايز بين التاريخ والذاكرة، أما في غيرها فيكون تداخل بين التاريخ والذاكرة، أي بين ما هو تاريخي موضوعي وبين الذاكرة التي يطبعها الجانب الذاتي”.
المصدر:
هسبريس