كيف نعلّم أبناءنا الأمل حين تغدو السياسة مرادفًا للخذلان؟ كيف نُقنع الجيل الجديد بأن المستقبل ليس وهماً تلفظه الشاشات، وإنما أفقًا يمكن بناؤه من رماد الحاضر؟ أيمكن أن نزرع في زمن الشك بذور الرجاء دون أن نُتَّهم بالسذاجة؟ وما معنى السياسة حين لا تعود قادرة على الوعد، وإنما بالكاد قادرة على التفسير؟ أليست التربية اليوم فعلًا سياسيًا في أعمق معانيه، لأنها تحفظ للإنسان قدرته على الحلم وسط طوفان العدم؟ وهل يمكن للأمل أن يُدرَّس كما تُدرَّس الرياضيات، أم أنّه يُكتسب بالعيش في أخلاقيات الممكن، في تلك المسافة الدقيقة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون؟
أتحدّث عن ” السياسة الممكنة” لأن المنابر امتلأت بخطبٍ تشبه المسلسلات المُعادة: الحبكة هي هيَ، تتبدّل الوجوه وتتناسخ العبارات. يرفعون الشعارات مثل بالونات عيدٍ تطير عاليًا ثم تنفجر عند أول مسمارٍ من الواقع. يعدون بغدٍ لامع يشبه واجهة متجر، بينما الرفوف في الداخل فارغة. نفس النغمة كل موسم: سنبني، سنوظّف، سنحارب… ثم ينتهي الحفل وتبقى الكراسي خاليةً إلا من الغبار. أما” السياسة الممكنة” فهي أبسط من كل هذا اللمعان: كلمة أقصر وفعل أطول. أن يُقاس النجاح برغيفٍ أوفر، وطريقٍ أخفّ زحامًا، ومدرسةٍ أنظف، وعيادةٍ توفر العلاج؛ أن يمشي المسؤول بين الناس بلا مواكب، وأن يعتذر إذا أخطأ بدل أن يختفي. عندها تستعيد السياسة وجهها الإنساني، ويسترجع المواطن صوته بحيث لا يغدو صدى لتصفيقٍ عابر.
في زمنٍ تآكلت فيه الثقة بالمستقبل، وغدت السياسة مرادفًا للخداع أكثر مما هي ممارسة للأفق، تبرز الحاجة الملحّة إلى التفكير في مفهوم “السياسة الممكنة” لا بوصفها برنامجًا أو أداة حكم، وإنما بوصفها فنّا لتربية الأمل في زمن الشك. ليست المسألة إذًا كيف نعيد إنتاج النخب، أو كيف نلقّن أبناءنا دروس المواطنة، بقدر ما هي كامنة في كيف نعلّمهم الإصغاء إلى فكرة السياسة باعتبارها رهانًا على الإنسان قبل أن تكون رهانًا على السلطة.
“السياسة الممكنة” هي التي تجرؤ على ترميم العلاقة المنكسرة بين الواقع والممكن. إنها لا تنشد المدينة الفاضلة، بيد أنها تبحث عن المدينة القابلة للحياة، عن السياسة التي تتخلّق من الحيرة بدل اليقين، ومن الشك بدل الإيمان الأعمى بالشعارات. ففي عالمٍ تُبنى فيه السياسات على الخوف لا على الرجاء، يصبح تعليم الأمل تمرينًا على المقاومة الهادئة، وعلى إعادة الثقة في القدرة على التغيير ولو بخطواتٍ بطيئة وغير مرئية. يتمّ تعليم الأمل عبر التربية على الفعل الصغير، على الإيمان بأن كل مبادرة، مهما بدت محدودة، تشكّل جزءًا من الممكن السياسي. حين نعلّم أبناءنا أن الإصغاء للآخر شكل من أشكال الفعل، وأن العدالة علاقة، فإننا نعيد السياسة إلى معناها الأول: العيش المشترك. فالأمل بنية فكرية، وصبرٌ على بناء الممكن من أنقاض الواقعي.
في زمن الشك، تغدو “السياسة الممكنة” تربية على التمييز بين الشك المدمّر والشك الخلّاق. الأول يُفكّك دون أن يبني، أما الثاني فيفتح أبواب الأسئلة، ويدرب الوعي على الحذر دون أن يفقد الحلم. تعليم الأمل، بهذا الأفق، هو تعليمٌ على النقد لا على الطاعة، على التفاوض مع الواقع لا على الاستسلام له؛ وهو أيضًا تعليم على الاعتراف بالهشاشة، لأن الأمل لا يولد من صلابة العقيدة وإنما من هشاشة الإيمان بقدرة الإنسان على الفعل رغم محدودية الإمكانات.
ليست “السياسة الممكنة” سياسةَ البرامج؛ إنها ما يتكوّن في المساحات الصغيرة: في المدرسة التي تُعلّم الإصغاء بدل التلقين، في الأسرة التي تحتفي بالاختلاف بدل الطاعة، وفي الإعلام الذي يفتح باب النقاش بدل التحريض. إنها السياسة التي تجعل من التربية مشروعًا جماعيًا للمستقبل، حيث يصبح الأمل مسؤولية مشتركة. حين نعلّم أبناءنا الأمل، فإننا نعيدهم إلى أصل السياسة، أيْ إلى الاعتقاد بأن المستقبل ليس استمرارًا آليًا للماضي، ذلك أنه، أولا وقبل كل شيء، لحظة وعي يمكن أن تُبدّل مجرى الأشياء. حديثي عن “السياسة الممكنة” ليست بديلا عن “السياسة الواقعية”، بقدر ما هو استعادةٌ للسياسة بوصفها محاولةً لردّ الاعتبار للخيال الأخلاقي في زمنٍ طغت فيه الحسابات والمصالح. لأجل ذلك، يتطلّب تعليم الأمل اليوم أكثر من أيّ خطابٍ وعظي أو برامج إصلاحية؛ يتطلب تربيةً على النظر البعيد، وعلى أن المستقبل بناءٌ مستمرّ. في زمن الشك، يصبح الأمل تمرينًا على الصبر، شكلًا من أشكال التفكير النقدي الذي يرى في الضعف الإنساني طاقةً على التجدّد لا علامةً على الانكسار.
“السياسة الممكنة” أفق يربط بين الوعي الفردي والرؤية الجماعية؛ أفترض أنها فعل ثقافي يعلّم الناس كيف يلتقون حول فكرةٍ مشتركة دون أن يتخلّوا عن آرائهم الشخصية. إنها السياسة التي لا تنشد السيطرة على الواقع، وإنما الإنصات إليه.
بهذا المعنى، يتخذ ” تعليم الأمل” بعدًا فلسفيًا عميقًا. فالأمل فضيلة معرفية تُقاوم السقوط في العبث؛ وهو أيضًا فعلٌ سياسي لأنّه يحرّر الإنسان من الحتميات ويمنحه القدرة على التخيّل.
لذلك، تقوم “السياسة الممكنة” على الاعتراف باللايقين. ولعل هذا ما يجعلها تربيةً على الفكر النقدي قبل أن تكون تدريبًا على الحكم. إنّ أحد أخطر مظاهر الأزمة المعاصرة هو أنّنا نعيش في زمن “ما بعد الحقيقة”، حيث تحوّل الشك من أداةٍ للتفكير إلى آلةٍ للتشكيك، ومن قوةٍ معرفية إلى سلاحٍ للهدم. لذلك فإنّ ” السياسة الممكنة” مطالبة بأن تعيد الاعتبار للتمييز بين النقد بوصفه تفكيرًا والمكر بوصفه إنكارًا.
“السياسة الممكنة” هي أيضًا تربية على الإصغاء. فالأمل لا يعيش في عزلة، ذلك أنه ينمو في اللغة المشتركة، في الحوار الذي يُبنى على الاعتراف بالآخر لا على إلغائه. تعليم الأمل في هذا السياق يعني أن نزرع في الأجيال القادمة حسّ المسؤولية تجاه الكلمة، أن يتعلّموا أنّ اللغة ليست أداة للتبرير بقدر ما هي أفقٌ للعَدل. وحين نربّي أبناءنا على الإصغاء، فإننا نمنحهم القدرة على التفاوض مع العالم بدل الاصطدام به. إن تعليم الأمل هو تربية على الوعي بالهشاشة. فكل سياسةٍ تدّعي الكمال تنتهي إلى الطغيان، وكل أملٍ يُلغى فيه الشك يتحول إلى إيديولوجيا. لذلك، فإن ” السياسة الممكنة” تُربّي على قبول النقص بوصفه شرطًا للحرية، وعلى فهم أن العالم لا يمكن إصلاحه دفعةً واحدة، بقدر ما يُرمّم مثل فسيفساء متصدعة تُضاف إليها قطع جديدة مع كل جيل. في هذا الإطار، تغدو المدرسة فضاءً سياسيًا بالمعنى النبيل للكلمة: مختبرًا لتجريب القيم قبل تحويلها إلى مؤسسات. فبدل أن تكون مكانًا لتلقين المعرفة، تصبح مكانًا لتعلّم العيش مع الأسئلة. والتلميذ لا يتم إعداده فقط لمهنةٍ مستقبلية، وإنما لتاريخٍ جديد يصنعه هو بنفسه. تبدأ التربية على الأمل من البيت؛ حين يُدرَّب الطفل على أن قبول الاختلاف يحفظ المحبة، وأن الحوار قوةٌ لا خسارة، وأن الخطأ مادةٌ للتعلّم. عندئذٍ يعي “السياسة الممكنة”، ويتعامل مع الحياة باعتبارها مشروعا مفتوحا على احتمالاتٍ لا حصر لها.
وعلى هذا الأساس، لا يمكن إغفال دور الفنون في هذا البناء. فالفنّ ليس ترفًا، إنه شكلٌ من أشكال ” السياسة الممكنة”، لأنه يعيد للإنسان قدرته على الحلم، ويذكّره بأن العالم يمكن أن يكون على نحوٍ آخر. المسرح، الموسيقى، والأدب… كلها مدارس للأمل، لأنها توسّع أفق الحسّ وتعيد تعريف الممكن.
أما الجامعة، فهي الفضاء الذي يجب أن يصالح بين المعرفة والمسؤولية، بين التفكير والممارسة. فأن ندرّس السياسة لا يعني أن نلقّن الإيديولوجيا، وإنما أن نفتح النقاش حول حدود السلطة، وإمكان التعايش. لذلك، لا تولد ” السياسة الممكنة” من الكتب وحدها، وإنما من تفاعل الفكر بالحياة.
ومن هنا، يكتسب مفهوم ” السياسة الممكنة” بعدًا تربويًا عميقًا: إنه دعوة إلى أن نجعل من كل فعل تربوي فعلًا سياسيًا، ومن كل فعل سياسي فعلًا تربويًا. فالسياسة التي لا تربي تُفسد، والتربية التي تنفصل عن السياسة تتحول إلى تلقينٍ عقيم. في زمن الشك، تغدو الأخلاق السياسية مقياسًا للحقيقة. فالأمل لا ينمو في فراغ، ذلك أنه يحتاج إلى بيئة من العدالة والثقة. و”السياسة الممكنة” هي تلك التي تجعل من الأخلاق شرطًا للسياسة، لا زينتها الخطابية. فأن نعلّم أبناءنا الأمل يعني أن نعلّمهم الشجاعة الأخلاقية، لا التواطؤ مع الواقع. ” السياسة الممكنة” إذن هي فلسفة للتربية قبل أن تكون فلسفة للحكم. وهي تُراهن على الفكر في زمن التكرار، وعلى الجماعة في زمن الفردانية القصوى. حين نعلّم أبناءنا الأمل في زمن الشك، ندرّبهم على السكن في التناقض من غير انهيار، وعلى مواجهة القلق من غير أن ينقلب يأسًا. تلك أرقى تربية سياسية: أن نكوِّنَ مواطنًا يحفظ إنسانيته في عالمٍ هشّ. هكذا يغدو الأمل مقاومةً ناعمة تُعيد للسياسة وجهها الإنساني، وللإنسان ثقته بقدرته على الفعل.
فهل يمكن للسياسة أن تستعيد معناها إذا لم تستعد القدرة على الحلم؟ وهل يمكن للأمل أن يزدهر إن ظل حبيس الشعارات دون أن يصير ممارسة يومية للكرامة والخيال؟ لعلّ “السياسة الممكنة” هي تلك التي تُعيدنا إلى أبسط الأسئلة وأكثرها صعوبة: كيف نعيش معًا دون أن نغلق الأفق؟ كيف نحلم دون أن نهرب من الواقع؟ وكيف نحافظ على الشك دون أن نفقد الإيمان بالإنسان؟ إنّ تعليم الأمل في زمن الشك تمرين على البقاء في قلب العاصفة، وعلى بناء السياسة من الهشاشة لا من القوة، وإشارةٌ للأجيال المقبلة إلى أنّ الممكن يُستعاد من أطراف العالم التي نَسِيَها الضَّوء.
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
المصدر:
هسبريس