محمد أصواب
“هنا إذاعة المملكة المغربية من العيون”.. بهذه الكلمات الخالدة التي نطق بها الراحل محمد جاد في دجنبر 1975، صدح صوت السيادة المغربية فوق رمال الصحراء، معلنا ميلاد عهد جديد. وبعد نصف قرن، يستعيد الصحفي المخضرم محمد ضاكة، أحد الأصوات التي واكبت تلك المرحلة، فصولا من حكاية إعلامية ووطنية صنعت لحظة تاريخية فارقة.
بداية الحكاية.. صوت التحرير
في غشت 1974، كان محمد ضاكة، البالغ من العمر آنذاك 27 سنة، قد التحق بالإذاعة الوطنية بعد تجربة صحفية في جريدة “العلم”. جاء ذلك في سياق وطني استثنائي تميز بإعلان المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني سنة 1974 “عام التحرير والوحدة”، إيذانا ببدء تعبئة وطنية شاملة لاسترجاع الأقاليم الجنوبية.
تكوينه السياسي والإعلامي المتأثر بفكر الزعيم الراحل علال الفاسي حول قضايا الوحدة والاستقلال، جعل من ضاكة صحفيا ملتزما يؤمن بأن الكلمة الحرة يمكن أن تكون سلاحا في معركة التحرير.
بفضل الخبرة التي اكتسبها من خلال عمله في جريدة الاستقلال (1970-1974)، تمكن محمد ضاكة من بناء وعي سياسي قوي، يتغذى على كتابات المرحوم علال الفاسي حول القضايا الوطنية والوحدة، والتي ستطبع إلى الأبد رؤيته للصحافة الملتزمة في خدمة الوطن.
أسندت إليه مهمة إعداد وتقديم برنامج “صوت الصحراء” الذي كان يُبث مرتين في الأسبوع، قبل أن يصبح بعد أسابيع من مؤسسي إذاعة “صوت التحرير والوحدة” التي انطلقت من طرفاية في شتنبر 1974، لمواجهة الدعاية الإسبانية وبث صوت المغرب الحر إلى أبناء الصحراء.
من قلب المعركة الإعلامية
يقول ضاكة في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء: “كنا نعيش تعبئة وطنية غير مسبوقة. قضية الصحراء كانت بالنسبة إلينا قضية إيمان وكرامة. كنت أشعر أن واجبي هو أن أساهم بصوتي في تحرير الوطن ووحدته”.
رغم الإمكانيات المحدودة – جهاز تسجيل بسيط، معدات بث متواضعة، وحجرة صغيرة – إلا أن عزيمة الفريق كانت أكبر من كل الصعوبات. كان بنعيسى الفاسي يقدم النشرات، ومحمد ضاكة يعلق سياسيا على الأحداث، وبنعيسى حجي يتكفل بالجوانب التقنية، بينما كان محمد جاد يرسل تقارير ميدانية من طانطان.
في 16 أكتوبر 1975، صدر الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الذي أكد الروابط القانونية بين المغرب وصحرائه، وأعقبه إعلان جلالة الملك الحسن الثاني عن تنظيم المسيرة الخضراء.
يقول ضاكة: “كنت أتمنى المشاركة بين صفوف 350 ألف متطوع، لكن قدري كان أن أبقى في الرباط لتنسيق البرنامج الذي تحول إلى نافذة يومية تعبئ الرأي العام وتواكب الحدث التاريخي”.
ويضيف بنبرة يغلبها التأثر: “تلك الأيام لا توصف بالكلمات. كانت المسيرة الخضراء تجسيدا لمعجزة الوحدة الوطنية”.
من إذاعة التحرير إلى صوت العيون
بعد اتفاقيات مدريد في نونبر 1975، تم تكليف محمد ضاكة بالانتقال إلى العيون للمشاركة في استرجاع المؤسسات المحلية، حيث أُتيحت للإذاعة الوطنية فرصة البث من إذاعة العيون لمدة ساعة يوميا، في المحطة ذاتها التي كانت إلى وقت قريب تروج للدعاية الاستعمارية.
“هنا إذاعة المملكة المغربية من العيون”.. كانت أول كلمات قالها المرحوم محمد جاد، معلنا عودة السيادة الوطنية على أمواج الصحراء المغربية.
في 28 فبراير 1976، جاء دور محمد ضاكة ليُعلق على لحظة تاريخية. وفي هذا السياق، قال بصوت تملؤه الحدة والقوة ذاتها التي كان عليها آنذاك “ما زلتُ أرى الكولونيل فالديس وهو يُنزل العلم الإسباني، قبل أن يُرفع العلم المغربي عاليا في سماء العيون. كنتُ أُسجل التقرير للإذاعة المركزية ولإذاعة العيون. كانت لحظة مليئة بالمشاعر الجياشة”.
تم تعيين محمد ضاكة مسؤولا على إذاعة العيون، وأشرف لاحقا على إنشاء إذاعة الداخلة، التي بدأت عملها في مارس 1981، بمناسبة الزيارة الملكية لجلالة المغفور له الحسن الثاني إلى المنطقة.
بين طرفاية والعيون والداخلة، كرس الصحفي ضاكة أكثر من 34 سنة من عمره لإيصال صوت المغرب والمساهمة في إشعاعه بأقاليمه الجنوبية، ومواجهة خطاب الكراهية لأعداء الوحدة الترابية للمملكة، ورثة خطابات مستعمر الأمس.
رحلة مهنية في خدمة الصحراء المغربية
تولى محمد ضاكة لاحقا إدارة إذاعة العيون، ثم الإشراف على تأسيس إذاعة الداخلة سنة 1981 بمناسبة الزيارة الملكية لجلالة المغفور له الحسن الثاني. بين طرفاية والعيون والداخلة، قضى أكثر من 34 عاما في الميدان الإذاعي، مدافعا بصوته عن مغربية الصحراء ومواجها كل خطاب معادٍ لوحدة التراب الوطني.
اليوم، وبعد مرور نصف قرن، يرى محمد ضاكة أن المقاربة التنموية التي أطلقها الملك محمد السادس في الأقاليم الجنوبية تمثل امتدادا لمسيرة الوحدة والبناء، مؤكدا أن “مبادرة الحكم الذاتي أنهت الصراع المفتعل حول الصحراء وجعلت المغرب نموذجا في ترسيخ الحلول الواقعية”.
ويختم قائلا: “من المسيرة الخضراء إلى مشروع الحكم الذاتي، ظل صوت المغرب واحدا.. صوت الإيمان بالوطن ووحدته”.
وبينما يخلد المغاربة الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، يبقى صوت محمد ضاكة شاهدا على جيل من الصحفيين الذين جعلوا من الكلمة رسالة ومن الميكروفون جبهة دفاع عن السيادة والوطن.
المصدر:
العمق