كشفت معطيات حصلت عليها جريدة “العمق” أن أقاليم الجبال والواحات تعيش وضعا مقلقا يتسم بنزيف مستمر في الأطر الصحية الشابة، حيث أن نسبة تتراوح بين 30% و45% من الأطر الجديدة تغادر مناطق تعيينها بعد عام أو عامين فقط من التحاقها، ما يهدد استمرارية الخدمات الصحية بهذه المناطق.
وأوضحت المعطيات التي حصلت عليها جريدة “العمق” أن هذه الأقاليم الهشة تحولت إلى خزان بشري رئيسي يزود المدن الكبرى بالكوادر الصحية، إذ أكدت أن أكثر من 40% من الأطر المنتقلة من الجهات الجبلية تتجه صوب مدن الدار البيضاء والرباط ومراكش، الأمر الذي يجعل المناطق الأصلية تعيش استنزافا مزدوجا ومستمرا في كفاءاتها.
وأشار المصدر ذاته إلى أنه على الرغم من تأكيد الخطابات الملكية على ضرورة العناية بالمناطق الأكثر هشاشة وتحقيق العدالة المجالية، إلا أن الواقع المعاش لساكنة هذه الأقاليم لا يزال بعيدا عن تلك الطموحات، معتبرا أن غياب التحفيزات المادية والمعنوية للأطر العاملة بالجبال والواحات يمثل الحلقة الأضعف التي تفرغ جهود الدولة من محتواها.
وأضاف أن الانشغال الملكي الصريح بأوضاع المواطنين في المناطق البعيدة والمعزولة لم يجد بعد طريقه إلى التنفيذ الميداني بالشكل المطلوب، حيث أن المجهودات الوزارية الحالية، رغم أهميتها خصوصا في إعادة بناء المؤسسات الصحية، تبقى جزئية ومحدودة الأثر في مواجهة حجم التحديات.
وأكد المصدر أن استقرار الأطر الصحية في هذه المناطق يصطدم بعقبات كبرى تتمثل في غياب السكن الوظيفي ورداءة المسالك الطرقية وانعدام التحفيزات المهنية، متسائلا إلى متى ستظل هذه الأقاليم موردا للكفاءات بدلا من أن تكون مستقرا لها.
وتابع أنه في غياب قرارات استراتيجية شجاعة في توزيع الموارد البشرية وتحفيز العاملين بالمناطق الوعرة، فإن الوضع سيبقى على حاله لسنوات أخرى، مما يترك ساكنة الجبل بين وعود رسمية وواقع صحي يزداد هشاشة. كما أوضح المصدر أن تحقيق الرؤية الملكية لعدالة مجالية حقيقية يقتضي تبني سياسة صحية تراعي خصوصيات هذه المناطق وتضع في صلبها توزيعا عادلا للموارد البشرية وتوفير شروط العيش الكريم لها.
وفي هذا السياق، أكد عبد اللطيف اهنوش، الكاتب الجهوي للنقابة المستقلة بجهة بني ملال خنيفرة وعضو مكتبها الوطني، على وجود اختلالات عميقة في تدبير الموارد البشرية واللوجستية بقطاع الصحة، مؤكدا أن المشكلة الأساسية لا تكمن في قلة الموارد بقدر ما تتعلق بغياب الحكامة والنجاعة في توزيعها، مما أدى إلى تهميش مناطق معينة على حساب أخرى.
وأوضح النقابي في تصريح لجريدة “العمق” أنه على الرغم من الارتفاع الملحوظ في عدد المناصب المالية المخصصة لقطاع الصحة خلال السنوات الخمس أو الست الأخيرة، والتي تراوحت بين 2500 و3000 منصب جديد سنويا، فإن جهة بني ملال خنيفرة لم تستفد سوى بنسبة ضئيلة جدا، حيث لم يتجاوز عدد الموظفين الجدد في الجهة ما بين 500 و600 موظف، نصفهم من الإداريين. وأشار إلى أن هذا العدد الهزيل لا يتناسب مع حجم الخصاص الذي تعاني منه المنطقة مقارنة بما وصفه بـ”جهات المركز” التي تستأثر بالحصة الأكبر من الموارد.
وأكد اهنوش أن جهات مثل بني ملال خنيفرة ودرعة تافيلالت والجنوب أصبحت مجرد “جهات عبور” أو “محطات” للموظفين، حيث يقضي الموظف المعين حديثا فترة قصيرة لا تتجاوز عاما أو عامين قبل أن يسعى للانتقال، مرجعا السبب الرئيسي إلى أن غالبية هؤلاء الموظفين ليسوا من أبناء المنطقة. وربط المصدر عدم استقرار الأطر الصحية بغياب مؤسسات التكوين الكافية، خاصة كلية الطب التي تأخر انطلاقها، بالإضافة إلى معاهد التمريض التي تخرج أعدادا محدودة لا تغطي الحاجة ولا تشمل جميع التخصصات المطلوبة.
وأضاف أن هذا التوزيع لا يأخذ بعين الاعتبار غياب العدالة في العرض الصحي الخاص؛ فهناك جهات تتوفر على قطاع صحي خاص قوي من مصحات وعيادات، على عكس مناطق أخرى كأقاليم أزيلال وخنيفرة وغيرها من أقاليم الجبال والواحات التي لا تتوفر على هذه البدائل، مما يجعل المرفق العمومي هو الملجأ الوحيد لساكنتها.
وأضاف المتحدث أن غياب الحكامة يتجلى في التباين الصارخ في توزيع الموارد البشرية بين المراكز الصحية، فبينما يمكن العثور على مركز صحي في مدن مثل مكناس أو الرباط يضم 20 ممرضا وأطباء اختصاصيين يعملون خارج مجال تخصصهم الطبيعي في المستشفيات، تعاني مراكز أخرى من خصاص حاد. وضرب مثالا بمركز صحي من المستوى الثاني كان يجب أن يضم سبعة أو ثمانية أطر صحية على الأقل، لكنه لا يعمل به سوى ثلاثة موظفين، مما يضطرهم للقيام بمهام خارج اختصاصاتهم، كما حدث مؤخرا عندما قام ممرض بتوليد سيدة بسبب غياب القابلة الوحيدة.
ولفت المصدر الانتباه إلى أن هذه الاختلالات مثبتة في تقارير رسمية، مشيرا إلى أن تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنتي 2021 و2022، وبدرجة أقل تقرير 2020، أشار إلى هذه المسألة، إلا أن الوزارة لم تقدم أي توضيحات أو إجابات. وشدد على أن هذا الوضع يؤكد وجود “سوء نية” تجاه القطاع الصحي العمومي، حيث تتهرب الحكومة الحالية من مسؤولياتها في توفير الإمكانيات اللازمة.
وتابع اهنوش أن الأزمة لا تقتصر على الموارد البشرية، بل تمتد لتشمل الجانب اللوجستيكي والأدوية، حيث سجل كنقابة تراجعا كبيرا منذ فترة كوفيد. وأوضح أن الكميات المخصصة من الأدوية والمستلزمات الطبية التي يفترض أن تغطي احتياجات سنة كاملة، لا تكفي حاليا لأكثر من شهرين أو ثلاثة، مما يدخل المنظومة الصحية في دوامة من الحلول الترقيعية.
وشدد المصدر على أن الحلول المقترحة لمعالجة هذا الوضع تتطلب رؤية شمولية وإرادة حقيقية، داعيا إلى ضرورة توجيه مباريات التوظيف الجديدة بشكل خاص نحو الجهات التي تعاني من خصاص، وإقرار تعويضات مادية خاصة بالمناطق النائية والجبلية، أو ما يعرف بـ”تعويضات المناطق” (Prime de zone)، لجبر الضرر النفسي والمعنوي الذي يلحق بالأطر الصحية التي تعمل في ظروف صعبة وتحفيزها على الاستقرار، والعودة إلى النظام السابق في تزويد المراكز الصحية بالأدوية والمستلزمات الطبية لضمان تلبية الاحتياجات السنوية الفعلية، بالإضافة إلى ربط المسؤولية بالمحاسبة ووضع حد للتعيينات والانتقالات التي لا تستند إلى معايير واضحة.
واستشهد بتوصيات منظمة الصحة العالمية التي تحدد المعدل الأدنى بـ4.2 إطار صحي لكل 1000 مواطن، بينما لا يتجاوز هذا المعدل في جهة بني ملال خنيفرة 1.6، وهو أقل بكثير من المعدل الوطني البالغ 2.6.
المصدر:
العمق