تزامناً مع احتفاء العالم باليوم الدولي للديمقراطية في 15 شتنبر يعود النقاش مجدداً حول مسار التجربة الديمقراطية المغربية، التي وإن تميزت بخصوصيتها وتطورها التدريجي مازالت تواجه تحديات هيكلية عميقة. ويرى محللون سياسيون أن المعضلة الكبرى تكمن في الفجوة المتسعة بين النصوص الدستورية المتقدمة والممارسة السياسية على أرض الواقع، ما أفرز أزمة ثقة وتمثيلية تتطلب إصلاحات جريئة لاستعادة الثقة في المؤسسات وجعل الديمقراطية ممارسة يومية وملموسة.
يرى عبد العزيز القراقي، أستاذ العلوم السياسية، أن أي تقييم للتجربة المغربية يجب أن ينطلق من رفض فكرة استنساخ النماذج الديمقراطية الغربية، مؤكداً أنه “ليس هناك نموذج واحد موحد للديمقراطية يمكن استنساخه وجعله مقياساً للديمقراطية في كافة المجتمعات”.
وبحسب القراقي، ضمن تصريح لهسبريس، فإن فهم الديمقراطية في مجتمع ما يتطلب الانفتاح على علوم الاجتماع لفهم تفاعل المجتمع مع آلياته السياسية، قائلا: “الفهم الأساسي للديمقراطية في مجتمع من المجتمعات يستحسن ألا يبقى مرتبطاً بالمعايير والقواعد المعمول بها على مستوى علم السياسة، وإنما لابد من الانفتاح على علوم أخرى، بما في ذلك علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي بالضبط”.
ويشدد المتحدث ذاته على أنه ما دام المجتمع منخرطاً في المسلسل الديمقراطي عبر آلياته كالانتخابات فإنه يقبل بنموذجه ويعتبره “الأمثل والأفضل” بالنسبة لواقعه وثقافته، متابعا: “بالتالي لا نملك آليات أساسية للقول إن هذه تجربة ديمقراطية ناجحة وهذه تجربة خاطئة. في رأيي مادام الناس ينخرطون في الانتخابات ويمارسون حياتهم بشكل اعتيادي فهم يظنون أن ديمقراطيتهم هي الأسلم والأنسب بالنسبة لهم”.
عن الوضع الداخلي أوضح أستاذ العلوم السياسية ذاته: “نحن نعرف أن لدينا صعوبات حقيقية تتعلق بديمقراطيتنا، مرتبطة بما هو تمثيلي”، معتبرا أن “الأحزاب السياسية اليوم لم تعد قادرة على إنتاج النخب الجديدة التي يمكن أن تعطي لمؤسساتنا دينامية حقيقية، وبالتالي فإننا نعيش تكراراً أساسياً يبدو بالأخص على مستوى التشريع”، بحسب تعبيره.
ويضيف القراقي: “لم نستطع إلى حد الآن أن نجعل مثلاً مسألة الشباب وبعض القضايا الأخرى عادية، بل كان لابد أن نتدخل دائماً عن طريق عمليات قيصرية وعن طريق لوائح من أجل أن نصل إلى مستوى معين”، مشيرا إلى أن “هناك اختلالات نعيشها ويجب الحسم معها”.
وأردف المحلل ذاته بأن “الآليات الخاصة بإعمال الديمقراطية يجب أن تكون منسجمة مع ثقافة المجتمع، وهذا يطرح سؤالاً كبيراً وعميقاً حول نمط الاقتراع”، وزاد: “انطلاقاً من البرلمان الأخير وما أنتجناه يبدو لي أنه حان الوقت لكي نبحث في نمط الاقتراع من أجل تطويره نحو شكل يدفع المؤسسات الحزبية ويدفع المجتمع إلى تعزيز ديمقراطيتنا أكثر من أي شيء آخر، عن طريق إعطاء آليات للبرلمان من أجل أن يعكس النقاش الحقيقي الموجود في المجتمع، مثلا”.
من جانبه يرى رشيد لزرق، المحلل السياسي ورئيس مركز شمال إفريقيا للدراسات، أن “تكريس الخيار الديمقراطي يواجه معضلة أساسية تتمثل في الفجوة بين النصوص الدستورية والممارسة الواقعية”، وقال ضمن تصريح لهسبريس: “الإطار القانوني متقدم نسبياً، لكن العوائق تكمن في ضعف استقلالية المؤسسات، وغياب توازن حقيقي بين السلط، واستمرار هيمنة منطق الضبط الإداري على منطق التنافس السياسي”.
ويؤكد لزرق أن “تكريس الديمقراطية لن يتحقق إلا عبر إصلاحات متدرجة تعيد الثقة للمواطن وتضمن فعالية الرقابة والمساءلة”، وتابع: “والحال أن الأزمة الديمقراطية ليست قانونية فحسب، بل هي أيضاً أزمة ثقة مجتمعية وثقافة سياسية متجذرة في اللامبالاة والعزوف. كما أن ضعف الوساطة الحزبية، وهيمنة المصالح الضيقة، وغياب قنوات حقيقية لتعبير المواطن عن مطالبه، أمور تجعل الإصلاح التدريجي ضرورة، لكن بشرط أن يكون إصلاحاً تواصلياً يربط الدولة بالمجتمع ويمنح المواطن مكانة فاعلة في الحقل السياسي. وبدون ذلك ستظل الديمقراطية شعاراً مؤجلاً أكثر مما هي ممارسة يومية حية”.
يورد المحلل السياسي ذاته أن المدخل الانتخابي وحده لا يكفي لإعادة الثقة بين المواطن والدولة، إذ يظل رهيناً بوجود إرادة سياسية قادرة على تفعيل النصوص الدستورية وتحويلها إلى مؤسسات ضامنة للمساءلة والنزاهة، ويشير إلى أن التجربة المغربية تكشف عن اختلالات كبرى مرتبطة بضعف تنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتغوّل الفساد الذي يُفرغ العملية الانتخابية من مضمونها.
ويضيف المتحدث نفسه: “لذلك فإن إصلاح النظام الانتخابي يجب أن يُرافقه إصلاح مؤسساتي شامل يعزز استقلال القضاء، ويقوي آليات الرقابة البرلمانية، ويجعل من الهيئات الدستورية فضاءً فعالاً لحماية الحقوق والحريات. فالثقة لا تُستعاد بالانتخابات فقط، بل عبر تغيير قواعد اللعبة السياسية بما يضمن إدماج المواطن في صناعة القرار اليومي، وليس فقط عند الاستحقاقات الدورية”.
ويخلص لزرق إلى أن “المجتمع المغربي يعاني من فجوة بين وعود البرامج الانتخابية وواقع السياسات العمومية، ما يولد شعوراً بالإقصاء والعزوف؛ لذلك يصبح إسقاط الفساد شرطاً سياسياً لبناء مصداقية المؤسسات، ويغدو الخيار الديمقراطي ممارسة اجتماعية يومية تتجسد في الشفافية، المشاركة، وتداول السلطة بشكل فعلي، لا مجرد نصوص دستورية مؤجلة”.