عندما يتناول الناقد أو القارئ رواية تاريخية لا بد سيسأل نفسه سؤالا ولو بشكل لا شعوري: أين ينتهي التاريخ وأين تبدأ الرواية؟ ذلك أن العلاقة بين الاثنين من التداخل والاندماج بما يجعل أي فصل بينهما مستحيلا. فقد بدأ التاريخ لدى الحضارات رواية تحكى للأجيال على شكل سير للأبطال والرجال ومدونة من الوقائع، ولم يفرق المسلمون في بداية تأسيسهم علم التاريخ بين هذا الأخير والرواية، إذ نقلت إلينا أخبار الماضي عبر ألسنة الرواة، وبقي هذا التداخل بين الرواية والتاريخ حاضرا إلى اليوم، فالروائيون هم الرواة المعاصرون.
سنح هذا الاستهلال وأنا أنتهي من قراءة رواية “أول النسيان” لمحمد المعزوز التي صدرت أخيرا، والتي تعالج جانبا بارزا من تاريخ المغرب الحديث هو ثورة الريف بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي، زعيم معركة أنوال، في مواجهة التحالف الإسباني ـ الفرنسي، فقد منحنا المعزوز عملا أدبيا هو أقرب إلى الملحمة منها إلى نص أدبي، إذ يتدفق السرد من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة دون مقاطع أو فصول ـ على غير عادة الروايات ـ كأن الرواية كتبت دفعة واحدة. ولعل الدافع وراء هذا المعمار الأدبي الذي اختاره الكاتب محاولة جعل الرواية مرآة عاكسة للملحمة الريفية، فكأن الكاتب أراد نقل الملحمة التاريخية إلى ملحمة أدبية مطابقة، فجاءت سجالا كما الحرب سجال.
تبدأ الرواية بتسليم زعيم الريف نفسه إلى الفرنسيين بعد هزيمة أنوال، نكاية في الإسبان الذين كانوا يريدون أن يكونوا هم من يأسرونه، لكن الخطابي فضل فرنسا، التي خال أنه سيجد لديها العطف الذي لم يجده عند إسبانيا التي قصفت الريف بالسلاح الكيماوي. لكن الاستسلام وضع أهل الريف في حالة من اليأس لأنهم وجدوا أنفسهم من دون زعيم ولا حماية، عزلا أمام الخونة الذين كانوا يتعاونون مع الفرنسيين والإسبان، ممن وجدوا في غياب الزعيم فرصة للانتقام من عائلات المحاربين، وعلى رأسهم التهامي الكلاوي.
الإطار الزمني للرواية يمتد من لحظة الاستسلام والنفي إلى جزيرة لاريونيون الفرنسية إلى مغادرة الجزيرة نحو القاهرة. ولذا فإن أجواء المعركة غائبة عدا الذكريات التي يستعيدها الخطابي ورفاقه وأفراد أسرته في المنفى.
اختيار هذه الفترة يبدو أنه كان مقصودا لأن المنفى يحيل على التأمل في الذات واستعادة الماضي، فقد نجح الكاتب في رسم الصورة الإنسانية للخطابي وعلاقاته بسجانيه الفرنسيين ومحاوراته معهم ومقابلاته مع الصحافيين الأجانب، وقربنا من شخصيته أكثر، شخصية الرجل البسيط الزاهد لا شخصية البطل الذي يخوض المعارك. وهذه هي الأبعاد الأهم في الرواية التاريخية، فهي لا تتحول إلى إعادة إنتاج للواقعة أو الوثيقة، بل تنغمس في التفاصيل الدقيقة التي لا يعيرها المؤرخ اهتماما، وهو ما يجعل بين المؤرخ والروائي نوعا من التكامل لأنهما يتعاونان في صياغة اللوحة الكاملة.
في “أول النسيان” نتعرف على جوانب الضعف في شخصية الخطابي وجوانب القوة، نراه يبكي ويتألم، يغضب ويثور، نتعرف على طبيعة علاقته بوالديه وأبنائه وزوجتيه وأشقائه ورجاله، تعامله مع أفراد الجيش الفرنسي المكلفين به، وأحزانه التي رافقته في المنفى على أهالي الريف، الذين بقوا يعانون بطش الخونة والانتهازيين. كما نتعرف أيضا على فطنة الخطابي وحكمته في تعامله مع الانتقادات التي وجهت إليه من لدن الصحافة الفرنسية والأوروبية بعد وصوله إلى الجزيرة، عندما حولت الصحافة معركة الريف ضد الاحتلالين الفرنسي والإسباني إلى معركة ضد المسيحية والمسيحيين، فكان على الخطابي أن يشرح لهم بأن القضية قضية احتلال لا قضية صراع أديان، ما جعل الكثيرين يتعاطفون معه.
لكن ابن عبد الكريم وهو في منفاه لم يوقف المعركة، كل ما في الأمر أنه نقل البندقية إلى كتفه الثانية. ففي الجزيرة ارتدى جبة الفقيه الداعية، وصار يلقي دروسا بأحد المساجد في الفقه والتفسير، ما جعل الكثيرين يعتنقون الإسلام على يديه، من هؤلاء التاجر الهندي فارس الذي كان مواظبا على حضور دروسه حتى أصبح زاهدا منقطعا عن الدنيا. وكما جذبت دروس ابن عبد الكريم البعض إلى الإسلام أسرت شخصيته صحافيين وجنودا فرنسيين اقتنعوا بعدالة قضيته، من هؤلاء الأرستقراطية كركان، التي كانت ترى فيه صورة أبطال القصص والملاحم التي كانت تطالعها في طفولتها، والفرنسي فيرين الذي أدرك من محاوراته مع الخطابي نزاهته، وعرف ظلم فرنسا للريف والمغاربة.
بيد أن محنة ابن عبد الكريم لم تنته بالمنفى الفرنسي، ولا بالحروب السياسية التي خاضها مع خصومه هناك، بل تعدتها إلى رفض عودته إلى المغرب بعد الإفراج عنه من طرف الفرنسيين، وكان التهامي الكلاوي هو نفسه من تزعم معسكر الرفض لعودة ابن عبد الكريم إلى بلاده، فاختار منفاه الأخير بالقاهرة.
وقد أضفى الجانب الجمالي على الرواية بعدا فنيا أضيف إلى التدفق السردي الذي لم يتوقف طيلة أزيد من ثلاثمائة صفحة، إذ كتبت بلغة جميلة استحضرت المعجم التقليدي لمرحلة الثلاثينيات والأربعينيات في المغرب والعالم العربي، ومزجت التعابير القرآنية مع المفردات الصوفية، واعتمدت المونولوغ الداخلي للشخصيات، خصوصا ابن عبد الكريم، الذي صورته الرواية كأنه “جبل تآكلت قاعدته”.