آخر الأخبار

السويني يقتفي إمكانية تحقق حلم تحول المغرب إلى "كاليفورنيا إفريقيا"

شارك

قال المنتصر السويني، باحث في العلوم السياسية والمالية العامة، إن “دروس التاريخ تعلمنا أن استمرارية المؤسسات السياسية تبقى مرتبطة بمدى قدرتها على تصور وبناء الهندسيات الكبرى، وبمدى قدرتها على ابتكار المشاريع التي تربط الزمن القصير بالزمن الطويل”، مضيفًا أن “شرط تجذر واستمرارية المؤسسات السياسية مرتبط بمدى قدرتها على بلورة ما يطلق عليه الحلم العام والابتكار الجماعي”.

وأشار المنتصر السويني، في مقال له بعنوان “المغرب – كاليفورنيا إفريقيا – لم يعد حلما”، إلى أن “كل زوار المغرب الحديث يشعرون أن الوهم الذي سوقه الجنرال ليوطي عند فرض الحماية، والمتمثل في جعل المغرب كاليفورنيا إفريقيا، صار حلما قابلا للتحقيق”، موردًا أن “المؤسسة الملكية نجحت في تصور وترسيخ السياسة الدولية والسياسة الوطنية التي تعبد الطريق نحو الحلم”.

وتناول المقالُ الموضوعَ من خلال ثلاثة محاور شملت: “العقل الاستراتيجي المغربي وسلاح الخريطة والبوصلة ومراقبة الأحوال الجوية والعداد والحصيلة”، و”بقاء المؤسسات واستمرارها مرتبط بقدرتها على تطوير وتعزيز قوة الجذب لديها من خلال ما يطلق عليه بالمؤسسات اللامرئية”، و”المؤسسات القوية مطلوب منها أن تملك القدرة على إيقاظ المجتمع من أجل تحقيق شرط المغرب المستيقظ”.

نص المقال:

دروس التاريخ تعلمنا أن استمرارية المؤسسات السياسية تبقى مرتبطة بمدى قدرتها على تصور وبناء الهندسيات الكبرى، وبمدى قدرتها على ابتكار المشاريع التي تربط الزمن القصير بالزمن الطويل؛ لأن شرط تجذر واستمرارية المؤسسات السياسية مرتبط بمدى قدرتها على بلورة ما يطلق عليه “الحلم العام” و”الابتكار الجماعي”، ومدى قدرتها على ابتكار الأحلام في وضعية الاستيقاظ ووضعية الوقوف.

وتخبرنا التجارب الدولية أن السياسيين المحنكين يلحون دائماً على ضرورة التوفر على هندسيات كبرى. في التجربة الفرنسية مثلاً، نستحضر أن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران سيؤكد توفره على “المشروع الكبير” والذي لا ينافسه أي مشروع آخر كيفما كان نوعه. ونضيف كذلك أنه في أوج أزمة ارتفاع المطالب الشعبية في فرنسا في خريف 1988، أوضح السياسي الفرنسي لوران فابيوس، رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية، أن فرنسا تحتاج اليوم إلى “الهندسيات الكبرى والتصورات الكبرى”.

السوسيولوجي الفرنسي إدغار موران سيؤكد على أن السياسية اليوم صارت تنحصر في التدبير، ولكن وحيث إن الإنسان لا يعيش بالخبز فقط، فإن الدول والمجتمعات لا يمكن أن تحيى بالتدبير فقط، بل إن المجتمعات تحيى بالأمل وبالأسطورة وبالحلم.

كل زوار المغرب الحديث يشعرون أن الوهم الذي سوقه الجنرال ليوطي عند فرض الحماية على المغرب، والمتمثل في جعل المغرب “كاليفورنيا إفريقيا” (على اعتبار أن كاليفورنيا هي أغنى ولاية في الولايات المتحدة الأمريكية) وفشل في تحقيقه، صار حلماً قابلاً للتحقيق في المستقبل القريب من خلال المشاريع والهندسيات التي تشرعنها المؤسسة الملكية. زوار المغرب الحديث، وخصوصاً الباحثين والأكاديميين، يعترفون أن المغرب قد تغير.

في افتتاحية كتابه الذي يحمل عنوان “الكتاب الكبير حول حضارة المغرب”، سيؤكد الباحث جون كلود مارتينز أن كل زائر للمغرب مؤخراً سيلاحظ أن مغرباً آخر يرى النور (موانئ عملاقة، مطارات، طرق سيارة تربط المغرب بجهاته الأربع، الترامواي، القطار السريع، محطة القطارات الحديثة، ملاعب كرة القدم، الخطوط الجوية التي تربط المغرب ببقية العالم والتي تحمل معها البنوك والمستثمرين والأفكار، المحطات الشمسية، الصناعات التي تتطور وخصوصاً صناعة السيارات…)، مما يؤكد أن المؤسسة الملكية نجحت في تصور وترسيخ السياسة الدولية والسياسة الوطنية التي تعبد الطريق نحو الحلم المرتبط بجعل المغرب مستقبلاً كاليفورنيا إفريقيا.

أولاً)- العقل الاستراتيجي المغربي وسلاح الخريطة والبوصلة ومراقبة الأحوال الجوية والعداد والحصيلة

المؤسسات القوية اليوم وغداً ليست هي فقط المؤسسات التي تتوفر على هندسيات ومشاريع كبرى، بل هي كذلك المؤسسات القادرة على مواجهة اللايقين والمجهول الذي يحمله المستقبل. الباحث والأكاديمي “نسيم نقولا الطالب” يركز في كل افتتاحياته وأبحاثه على نوع القيادة التي يتطلبها الزمن الحاضر والزمن المستقبلي، والمرتبطة بالقدرة على التحكم في اللايقين والمجهول، مما يعني أن المؤسسات التي يفتح لها الحاضر والمستقبل ذراعيه هي المؤسسات التي ستتوفق وستبرع في مواجهة اللايقين والمجهول.

ويخبرنا عصر الاكتشافات الجغرافية الكبرى الذي بدأ منذ القرن الرابع عشر، أن المستكشفين الجغرافيين الكبار هم من أوائل القادة الذين واجهوا المجهول واللايقين متسلحين بالخريطة والبوصلة. الخريطة التي تخبرك أين أنت وأين هي الوجهة التي تريد الذهاب إليها (وهنا وجب التوضيح أن القليل من الرؤساء في العالم يتوفرون على خريطة استراتيجية لبلدهم، خريطة تربط الوطني والدولي، والخريطة التي ترسخ وتحدد الغاية والهدف من الهندسيات والمشاريع الكبرى). أما سلاح البوصلة فيعتبر ضرورياً لتحديد الاتجاه الصحيح المرتبط بتحقيق الهدف.

الفيلسوف هيغل سيؤكد أن الرجل الحديث من المفروض أن يكتسب عادة قراءة جرائد الصباح مع إقامة الصلاة. تأكيد الفيلسوف هيغل على ضرورة قراءة صحف الصباح كان تأكيداً على ضرورة أن يكون الإنسان الحديث مرتبطاً بالواقع وبما يحدث حوله سواء محلياً أو دولياً.

في العصر الحديث، يعمد القادة والمؤسسات الفعالة إلى الاطلاع على النشرة الجوية بمفهومها العام كل صباح، مع ما يتطلبه ذلك من القيام بالتحديث والتصحيح للخريطة الاستراتيجية وإعادة استعمال البوصلة باعتبارها لوحة القيادة.

المؤسسات التي تحمل هندسيات كبرى ومشاريع كبرى ليست فقط في حاجة إلى الخريطة والبوصلة والاطلاع على النشرة الجوية بمفهومها العام كل صباح، بل وفي حاجة كذلك إلى علاقة معينة بالزمن. الروائي الروسي ليون تولستوي سيؤكد في روايته “الحرب والسلم”: “ليس هناك أقوى من المحاربين المتمثلين بالصبر والزمن”. المؤسسات الناجحة والفعالة في الزمن الحاضر هي المؤسسات التي تعرف أن المحاربين القويين والمهمين هما المحارب المدعو الفعل والمحارب المدعو الزمن، أي الفعل المنجز في الزمن المقبول والسريع، مما يعني أن المؤسسات التي تبحث عن الفعالية والنجاح في حاجة إلى استعمال العداد الذي يعمل على احتساب سرعة الإنجاز، وخصوصاً وأن العداد في علم التدبير اليوم يعتبر الوسيلة الأساسية التي تمكن من التفريق بين نخب القطار السريع ونخب السلحفاة.

الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين سيؤكد أن الفلاسفة القدامى اهتموا بالنهايات، بينما المطلوب الاهتمام بالأهداف ومدى تحققها من خلال الحساب والمنجز والمحقق على أرض الواقع. الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر سيؤكد أن هناك نوعين من الفكر: الفكر الذي يجادل والفكر الذي يحسب. لهذا، فالمؤسسات المتجذرة والتي تعيش مرحلة الشباب وليس مرحلة الأفول، تبقى هي المؤسسات التي تعمل على ترسيخ الاستراتيجية المبنية على أن كل مرحلة حكم ومرحلة تدبير من المفروض أن يعقبها مرحلة تقديم الحساب وتقديم النتائج وتقديم الحصيلة، حتى يتم إغلاق الحسابات المرتبطة بالمشاريع. وهنا وجب التذكير أن رمزية استقبال الملك لوالي بنك المغرب قبل موعد خطاب العرش الأخير، باعتباره خطاب تقديم الحصيلة، كان يعني أن المؤسسة الملكية اليوم هي مؤسسة تعمل تحت مربع الفكر الذي يحسب ويقدم الحصيلة والنتائج (ارتفاع المداخيل الضريبية، ارتفاع تحويلات الجالية، ارتفاع عائدات السياحة، ارتفاع صادرات الفوسفاط، والمفاجأة التي تثبت أن الأمور تغيرت بشكل جذري هي عائدات صناعات السيارات التي تسير بنجاح في أفق تجاوز مداخيل الفوسفاط).

المؤسسات التي تقدم الحصيلة الإيجابية المتيقن منها من خلال الحساب هي مؤسسات تصنف في علم السياسية بالمؤسسات الناجحة والمتجددة، والمؤسسات التي تكبر وتتطور وتتمدد وليس العكس.

تقديم الحصيلة الإيجابية المتيقن منها من خلال الحساب تعني تحقيق التراكم وتحقيق القفزات الكبرى التي من المفروض أن تحقق الحلم بأن يصير المغرب كاليفورنيا إفريقيا، من خلال مواصلة النجاحات لتجاوز الدول الإفريقية التي تتفوق علينا في مستوى الناتج الداخلي الخام في إفريقيا (جنوب إفريقيا، نيجيريا، مصر).

ثانياً)- بقاء المؤسسات واستمرارها مرتبط بقدرتها على تطوير وتعزيز “قوة الجذب” لديها من خلال ما يطلق عليه بالمؤسسات اللامرئية

الفيلسوف الألماني بيتر سلوتيردايك سيؤكد أن الحضارات تقاس كذلك بمدى ثقل قوة تاريخ حضارتها، ومن خلال البصمات التي يتركها هذا الماضي على ثقافة الشعوب في الحاضر.

الباحث شارل فورييه سيعمل على بلورة نظرية عامة للجذب باعتبارها شكلاً من أشكال بناء المجتمعات المتماسكة.

يُحسب للمؤسسة الملكية في عهد محمد السادس أنها عملت على تعزيز وتطوير ما يطلق عليه “قوة الجذب”، ليس فقط من خلال اعتمادها في الحكم على الخريطة والبوصلة والنشرة الجوية العامة والعداد والحصيلة، بل وكذلك من خلال تطوير العلاقة بين ثنائية (الملك-الشعب) بعيداً عن نظرية الإكراه والعنف المشروع الذي طورها السوسيولوجي ماكس فيبر والتي رسخت لنا الواقع المتمثل في استراتيجية “الوجه لوجه” ما بين الحاكم والمحكوم، بل من خلال بناء صرح قوة الجذب على مفهوم جديد إنساني هادئ يعزز الروابط ويعمل على ترسيخ استراتيجية “الجنب لجنب” ما بين الحاكم والمحكوم. وهنا وجب التوضيح أن مؤسسات القرن الواحد والعشرين، التي تريد ترسيخ استمراريتها في الزمن، مفروض عليها أن تعزز شبكات الثقة وشبكات الشرعية وشبكات السلطة في إطار مربع القوة الهادئة والقوة المسالمة.

السوسيولوجي الفرنسي بيير روزانفالون في كتابه الصادر في أواخر سنة 2024، تحت عنوان “المؤسسات اللامرئية”، سيؤكد أن الثلاثي المكون من (السلطة-الثقة-الشرعية) يلعب دوراً مركزياً في عمل المجتمعات، من خلال قدرته على إنتاج وتعزيز المشترك، ويعمل كذلك على ترسيخ استمرارية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كما أن ميزة الثلاثي المكون من (السلطة-الثقة-الشرعية) أنه ثلاثي لا يشتغل وفق قواعد وقوانين تملك القدرة على إخضاع الغير، بل يشتغل من خلال طبيعة ونوعية العلاقة بين الأشخاص والمؤسسات.

المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس عملت على تعزيز عناصر قوة جذبها من خلال تعزيز شبكات المؤسسات اللامرئية، مما عمل على تعزيز الروابط التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بينها وبين الشعب، وبالتالي أثبتت للكل أنها مؤسسة تشتغل بطرق حديثة ومدروسة من أجل ترسيخ وتعزيز الاستمرارية.

ثالثاً)- المؤسسات القوية مطلوب منها أن تملك القدرة على إيقاظ المجتمع من أجل تحقيق شرط “المغرب المستيقظ”

المؤسسة الملكية القوية، من المفروض أن تلعب دور موقظة المجتمع، من خلال الاقتراح والإقناع، ومن خلال قيادة المؤسسات والمجتمع نحو تحقيق الأهداف الاستراتيجية. الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه سيؤكد أن موقع هرم الدولة من المفروض أن يجيب عن سؤال أساسي صعب مرتبط بكيف ستصبح الدولة في المستقبل؟

المؤسسة الملكية من خلال ممارستها الحكم تثبت بأنها متأكدة بأن المغرب سيصبح قريباً كاليفورنيا إفريقيا، وبالتالي كانت تقدم إجابات قوية حول الاتجاه وحوال الهدف المراد تحقيقه. هذه القناعة كانت نتيجة لإيمان المؤسسة الملكية بأن المملكة تملك الكثير من الإمكانات التي تخول لها الاصطفاف في خانة الملكيات القوية وليس الملكيات العادية أو الملكيات المتوسطة، وأن المغربي سواء كان شخصاً ذاتياً أو معنوياً عليه أن يستيقظ من أجل الاصطفاف مع الأشخاص الذاتيين والمعنويين الأقوياء.

المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس كانت تعرف أن الهندسيات الكبرى التي تهيئ الطريق نحو جعل المغرب كاليفورنيا إفريقيا تتطلب التسويق الجيد للمغرب، ليس من خلال الكلام والشعارات بل من خلال المنجزات على الأرض ومن خلال استراتيجية إرادية تعتمد على تهيئة البنية التحتية القانونية والاقتصادية والاجتماعية لمواكبة تسويق فكرة المغرب الجديد.

العقل الاستراتيجي المغربي كان مقتنعاً بأن تحقيق “حلم كاليفورنيا إفريقيا” يفرض ليس فقط الرفع من الاستثمار العمومي، بل وكذلك العمل على جذب الاستثمارات الخارجية وإعادة توجيه الرأسمال المغربي نحو القطاعات التي تخلق القوة والقيمة المضافة وفرص العمل، وتؤسس فعلياً لبناء مغرب المستقبل (تحلية المياه، الطاقة الشمسية، الصناعات الدفاعية وصناعة السيارات الكهربائية، صناعة البطاريات).

المغرب من أجل تحقيق حلم “كاليفورنيا إفريقيا” كان في حاجة كذلك للاستفادة من التجارب الدولية فيما يخص السرعة في البناء، ومن المعروف أن بناء الهندسيات الكبرى يبقى في حاجة إلى “مراكز بحث قوية أولا”، وهو الشيء الذي من المستحيل توفيره في المدى القريب والمدى المتوسط. ولكن في التجارب الدولية هناك دول اعتمدت في انطلاقتها على ما يطلق عليه “مربع الباحثين والمهندسين غير البارعين وغير المبتكرين”، أو ما يطلق عليه الباحثين والمهندسين العاديين والمتوسطين. الدرس الذي علمه لنا تاريخ الكهربة كان جد مفيد، حيث مباشرة بعد أن عمد المخترع البارع “توماس إديسون” إلى اختراع الكهرباء، انتقلنا من مربع الاختراع إلى مربع تطبيق الاختراع، وهنا كنا فقط في حاجة إلى ما يطلق عليهم “الباحثين والمهندسين العاديين والمتوسطين” من أجل نقل الكهرباء إلى باقي العالم من خلال مربع “مشاركة الاختراع”.

وفي هذا السياق، عمل المغرب على إحداث مجموعة من التكوينات من أجل خلق، إلى جانب “الباحثين والمهندسين البارعين والمبتكرين”، “الباحثين والمهندسين العاديين والمتوسطين” من أجل مشاركة الاختراعات والابتكارات العالمية. وفي هذا السياق وجب التذكير أن المغرب يكوّن كل سنة أحد عشر ألف مهندس. هذا التكوين يستهدف التأقلم مع التعقيد والسرعة التي تعرفها الثورة التكنولوجية، ومحاولة التأقلم مع الصراع العالمي المرتبط بالذكاء الصناعي.

استراتيجية إيقاظ المجتمع وتغيير الرؤوس والعقول، كانت تتطلب القيام بسياسة إرادية تعمل على نقل المغرب من مربع يحتل فيه خريجو القانون المرتبة الأولى (حوالي أربعين ألف خريج سنوياً) – إلى مربع يحتل فيه خريجو مدارس الهندسة المرتبة الأولى، نظراً لأن الدول التي قامت بالقفزات الكبرى لعب فيها المهندسون الدور الريادي. لهذا كان المغرب متيقناً من أن تنزيل الهندسيات الكبرى وبناء “مغرب كاليفورنيا إفريقيا” مرتبط بتغيير العقول وتغيير الثقافات من خلال استراتيجية إيقاظ المجتمع.

أصعب شيء بالنسبة للدول في مرحلة بناء وتنزيل الاستراتيجيات الكبرى، هي القدرة على تجديد وإعادة صياغة وتحديث ما يوجد داخل الرؤوس. في كتابه الذي يحمل عنوان “أفيون النخب”، سيؤكد أكيلينو موريل أن الصعوبة تكمن في القدرة على احتواء الانقسامات (نعم-لا، منفتح-منغلق، عالمي-وطني، الرابحون-الخاسرون، الحداثيون-المحافظون، الإصلاحيون-المحافظون، المتفائلون-المتشائمون).

يُحسب للعهد الجديد أنه عمل على تعبيد الطريق للمواطن الجديد، المواطن الذي صنفه الصحفي والكاتب والاقتصادي البريطاني دافيد غودهارت ضمن “الناس الذين ينتمون إلى كل الأمكنة”، وهم أشخاص متفائلين، يؤمنون بالقيم العالمية، منفتحين، ويتوفرون على هوية محمولة، يؤمنون بالاختلاف ويؤمنون بالتنوع والتنقل والسفر، ولا يقبلون الاشتغال في العبودية والبقاء طويلاً في نفس المهنة. وتعتبر هذه النخب، رغم قلتها (في كل التجارب الدولية)، ضرورية لتعبيد الطريق لمغرب المستقبل، مغرب كاليفورنيا إفريقيا.

الخلاصة:

قال الكاتب والروائي والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو: “إني أعتقد أن قيمة ومستوى صحافة معينة تقاس بقيمة الوطن، لأن الصحافة هي صوت الوطن، ونحن اليوم مستعدين لرفع هذا الوطن من خلال رفع قيمة ونوعية خطابه”. زمن هذا القول هو 31 غشت 1944، وهو زمن مرتبط باستعداد فرنسا لحجز مكان لها في المصعد الصاعد. لكن بعض المقالات التي تكتبها الصحافة الفرنسية اليوم تقاس بمستوى ما تعيشه فرنسا في الزمن الحاضر، باعتبارها بلد يحجز مكانه (مع جزء من صحافته) في المصعد النازل للأسف.

حجز فرنسا موقعها اليوم ضمن خانة “الدول النازلة” بالنسبة للعقل السياسي الفرنسي والثقافة السياسية الفرنسية والإعلام الفرنسي هو نتيجة حتمية لعجز مؤسسة الرئاسة في فرنسا عن الإبداع، بل إن مؤسسة الرئاسة في فرنسا منذ عهد ديغول هي مؤسسات ذات محاسبة سلبية فيما يتعلق بالحصيلة (مما يجعل هذه الصحافة لا تتصور إمكانية وجود مؤسسات رئاسية فعالة).

الاقتصادي والسياسي والخبير الفرنسي آلان مينك في افتتاحية كتابه الذي يحمل عنوان “رؤسائي”، والذي من خلاله يقيم مرحلة حكم ديغول وديستان وميتران وشيراك وساركوزي وهولاند وماكرون، سيؤكد أن تاريخ فرنسا هو تاريخ مرتبط بالصعوبة الكبيرة في ممارسة الحكم في قمة هرم الدولة، مما جعل الحلم الأساسي للمواطنين الفرنسيين يتمثل في قطع رؤوس الملوك الجمهوريين الذين انتخبوهم.

إذا كانت فرنسا اليوم تحجز مكانها في المصعد النازل، فإن المغرب اليوم يحجز مكانه في الاتجاه المعاكس، أي في المصعد الصاعد. حجز المغرب لمكانه في المصعد الصاعد، هو نتيجة للهندسيات الكبرى للمؤسسة التي تحتل هرم الدولة بالمغرب، ونتيجة كذلك لاقتناع المؤسسة الملكية بالمغرب بمقولة الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين الذي أكد أن الكوارث والموت يضربان الدول والمؤسسات التقريرية الاستراتيجية غير القادرة على تقديم الجديد وغير القادرة على تقديم الإضافة، أو عندما تبقى الأوضاع في الدولة على حالها دون تغيير. لهذا قادت الملكية المغرب تحت شعار “استيقظ يا مغرب”.

المؤسسة الملكية بالمغرب التي تؤمن بالعقل الكمي المحاسبي كانت مقتنعة أن المؤسسات الواقفة مفروض عليها بشكل دائم تنمية رأسمالها السياسي والاقتصادي والاجتماعي من خلال المنجزات، ومن خلال تحسين ترتيب تموقع المغرب في خانة الدولة القوية من خلال استعمال الخريطة والبوصلة والنشرة الجوية العامة والعداد والحصيلة، من أجل تعزيز قوة الجذب، مما أهلها بقوة الفعل إلى حجز مكان لبلدها في المصعد الذي يتجه للأعلى، الشيء الذي يجعلها على السكة الصحيحة نحو الهدف المتمثل في جعل المغرب القادم “كاليفورنيا إفريقيا”.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا