عندما دخل سوق النقل الحضري بالمغرب عام 1999، وبعد أن بنى المراكشيون عليه آمالا كبيرة لاستيراد الجودة الأوروبية إلى شوارع المدينة السياحية الأولى في المغرب، كان الوافد الإسباني يبني خطته بأن تكون المدينة الحمراء بوابة للهيمنة على النقل الحضري وشبه الحضري في المدن المغربية الكبرى، وهو ما تحقق له بعد 26 عاما، فوضع يده على “طوبيسات” جل المدن الكبرى، وعض اليد التي فتحت له أبواب السوق المغربية، أي مراكش، التي بنى بما جناه من أرباحها رأسماله في مدن أخرى، ورفع رقم تحويلاته إلى الخارج.
الحديث هنا عن شركة “ألزا” الإسبانية التي أصبحت اليوم تدبر القطاع في كل من مراكش وأكادير وخريبكة والدار البيضاء والرباط وطنجة، وتضع عينها على مدن أخرى، في وقت مازالت تستفيد فيه بمراكش من تمديدات متكررة لعقدها الأول، بفعل الفشل المتواصل في التوصل إلى دفتر تحملات وإطلاق طلبات عروض لتدبير هذا المرفق العام.
الفشل الذي رافق المجالس التي دبرت مدينة مراكش منذ أكثر من عشر سنوات، ومازالت تتجرع مرارته ساكنة المدينة الحمراء، يوازيه فشل للشركة التي تقدم نفسها رائدة في النقل الحضري والمدبرة لمدن أوروبية، لكن بفوارق كبيرة عن تدبيرها لهذا المرفق في المدن المغربية.
في هذا التحقيق تتبع جريدة “العمق” تجربة شركة “ألزا” الإسبانية في تدبير النقل الحضري وشبه الحضري وأثرها على الاقتصاد الوطني، وجودة خدماتها، علما أن الشركة استحوذت عليها عام 2005 مجموعة National Express البريطانية، التي غيرت اسمها في 2022 إلى Mobico Group.
مراكش من الريادة إلى الرداءة
شهدت مدينة مراكش عام 1999 طفرة في النقل الحضري بعد أزمة خانقة آلت إليها الوكالة المستقلة للنقل في مراكش (RATMA) والتي دبرت القطاع منذ خمسينات القرن الماضي إلى أن أعلنت إفلاسها بشكل رسمي عام 1998، لتحل محلها شركة “ألزا” التي في إسبانيا عام 1923.
واستبشرت ساكنة المدينة الحمراء خيرا بالوافد الجديد الذي أعلن رسميا يوم 5 فبراير 1999 عن فوزه بالمناقصة التي خولته احتكار النقل الحضري بمراكش لمدة 15 عاما، قابلة لتمديد مرة واحدة لمدة 5 سنوات، كما استفادت الشركة من عدة امتيازات وردت في كناش التحملات المصادق عليه بتاريخ 28 يوليوز 1998.
الشركة الإسبانية أسست في يونيو 2001 شركة برأس مال قيمته مليون درهم، أطلقت عليها اسم “الشركة المغربية لنقل المسافرين عبر الحافلات”، بناء على عقد الامتياز المتعلق باستغلال خطوط النقل شبه الحضري، ووقعت 3 اتفاقيات بهذا الخصوص، الأولى مع إقليم الحوز بتاريخ 27 فبراير 2001 (قبل تاريخ التأسيس) بغية الربط بين جماعات من الإقليم ومدينة مراكش، والثانية في 25 يوليوز من نفس السنة مع العمالة السابقة لمراكش – المنارة والعمالة السابقة لسيدي يوسف بن علي، فيما وقعت في 2004 اتفاقية مع إقليم شيشاوة لاستغلال خط نقل شبه حضري ما بين مدينة شيشاوة ومدينة مراكش.
في 16 يوليوز 2013 احترقت حافلة تابعة لشركة ألزا بالكامل جراء عطب تقني وعدم توفير وسائل إطفاء الحريق في الحافلة
إلا أن الشركة لم تتجه نحو تطوير النقل الحضري وشبه الحضري بالمستوى الذي كان مرجوا منها، بالقدر الذي سارت نحو تطوير استثماراتها وتمددها في السوق، بحيث وجهت مواردها إلى الاستثمار في الأوراق المالية من خلال شراء فروع للشركة الأم، وتوجيه أرصدة أخرى إلى عمليات مالية مع الشركات الفرعية في شكل قروض “على حساب الاستثمار في تحسن جودة خدمة النقل العمومي الحضري لمدينة مراكش الذي يعاني من تقادم أسطول حافلات النقل الحضري وعدم كفاية الاستثمارات في الحافلات الجديدة”، كما ورد في التقرير السنوي للمجلس الجهوي للحسابات بجهة مراكش آسفي برسم عام 2016-2017.
هذه الاستثمارات في التوسع على حساب الجودة، جعلت شركة “ألزا” تفوز بتدبير النقل الحضري وشبه الحضري في مدن أكادير عام 2010، ثم طنجة في 2013، وخريبكة عام 2015، قبل أن تسيطر على العاصمتين الإدارية والاقتصادية للمغرب تواليا في 2018 و2019.
وضعية النقل الحضري في مراكش الذي وصف في لحظة فارقة لم تستمر طويلا بالرائد وطنيا، أصبح يتسم بـ”الرداءة” وهو عبر عنه مؤشر رضى العملاء NPS Score حيث تراجع من 40 عام 2004 إلى 15 عام 2020.
ويذكر أن مؤشر NPS (Net Promoter Score) هو مقياس رقمي من مائة درجة لقياس ولاء العملاء واستعدادهم لترشيح الشركة للآخرين. ابتكره Fred Reichheld من شركة Bain & Company عام 2003 بعد تحليل شامل لعلاقة استبيانات رضا العملاء التقليدية بسلوك المستهلك الفعلي، ويعد اليوم من أهم المؤشرات المعتمدة عالميا.
هذه الوضعية لم يتمكن الفاعلون المحليون والجهويون من وضع حد لها، بفعل عدم التمكن من إطلاق طلبات العروض اللازمة لاقتناء الحافلات وللتدبير المفوض لمرفق النقل الحضري وشبه الحضري، بحيث وصلت الصفقات في أكثر من مناسبة إلى مرحلة فتح الأغلفة ليتم إلغاؤها بسبب “عدم تقديم عرض مقنع”.
واستمرت ألزا في الاستفادة من تدبير القطاع عن طريق تمديد عقود الامتياز مرات لمدة سنة ومرات لستة أشهر، وذلك منذ انتهاء الأجل القانوني للعقد في 2018، دون أن تنفق درهما على تجديد الأسطول بدعوى “عدم قدرتها على المغامرة باقتناء حافلات بدون ضمان استمرار تدبيرها للقطاع” وفق ما قاله مصدر من داخل الشركة في حديث مع جريدة “العمق”.
داء العطب قديم
إذا كانت فضائح الشركة الإسبانية قد طفت إلى سطح المشهد في السنوات الثلاثة الأخيرة، جراء أعطاب مستمرة وأحداث حرائق وانقلاع الأسقف، وغيرها من المشاكل التقنية التي تعرض الركاب للخطر وتسيء إلى صورة المدينة السياحية الأولى في المغرب، فإن الداء ليس وليد اللحظة ولا رهينا بسنوات انتهاء عقد الشركة ودخولها في تمديدات متتالية، بل سبق وأن رصدته أعين المؤسسات الرسمية وكان موضوعا لتقارير متعددة أهمها تقرير المجلس الجهوي للحسابات، الذي تحدث عن تهالك حافلات “ألزا” بمراكش في ظل عدم الوفاء بالالتزامات المتعلقة بتجديد الأسطول.
التقرير المذكور، سجل أن 61,5 في المائة من أسطول ألزا عام 2015 كان متهالكا وعمره يفوق 5 سنوات، أكثر من نصفه (35 في المائة من مجموع الأسطول) عمره أكثر من 10 سنوات.
التقرير ذاته، كشف عدم وفاء الشركة الإسبانية بالتزاماتها ووعودها، وسجل أنها في الوقت الذي كان يجب أن تقتني على الأقل 81 حافلة بين عامي 2012 و2025 لم تقتن الشركة سوى 30 حافلة طوال المدة المذكورة.
وبالرغم من أن المجلس الجهوي أوصى في تقريره بتجديد الحافلات التي فاق عمرها 10 سنوات، وبضرورة احترام بنود دفتر التحملات والالتزامات التي قدمتها الشركة الإسبانية إلا أن التهالك بقي هو العنوان الأبرز للحافلات التي تجوب شوارع مدينة مراكش.
كما سبق للمؤسسة الدستورية والتي تعد من مؤسسات الرقابة، أن سجلت عدم تزويد حافلات ألزا بالعجلات الاحتياطية وعدم التوفر على صناديق الإسعافات الأولية، وكذا عدم توفير أدوات إطفاء الحريق والتجهيزات الإجبارية في جميع الحافلات، وهو الأمر الذي بدأت تظهر نتائجه وكوارثه بعد وصول التهالك إلى قمته.
نزيف في العملة الصعبة
تنامي حصة شركة “ألزا” الإسبانية في أسواق النقل الحضري وشبه الحضري في المغرب، يفرض تحديات كبيرة على الاقتصاد الوطني تتمثل أساسا في تسريب العملة الصعبة إلى خارج البلاد، بحيث تعد كل من المملكة المتحدة (عبر شركة Mobico groupe التي استحوذت على ألزا) وإسبانيا أكبر المستفيدين من أرباح القطاع، بحيث يتم تحويل ما قد يصل إلى 250 مليون درهم مغربي من العملة الصعبة سنويا إلى الدولتين المذكورتين.
وبلغت نسبة تحويلات “ألزا” من العملة الصعبة إلى الخارج في عام 2023 حوالي 3 في المائة من مجموع التحويلات، التي بلغ مجموعها حوالي 836 مليون دولار وفق تقرير لمركز بيانات التجارة والتنمية التابع للأمم المتحدة.
هذه الأرقام أكدتها National Express Group البريطانية، والتي غيرت اسمها مؤخرا إلى Mobico Group، في بلاغ لها عام 2019 بعد فوز فرعها الإسباني “ألزا” بعقد تسيير حافلات النقل الحضري بالدار البيضاء، وأفادت أن الصفقة التي تبلغ مدتها 15 عاما سترفع إيرادات الفرع المغرب إلى حوالي مليون يورو، وتوقعت أن تصل في نصف الأول من مدة الصفقة إلى 420 مليون يورو، وهو ما يعادل حوالي 616 مليون درهم سنويا من العملة الصعبة.
تقرير منشور على الموقع الرسمي لشركة Miboco Group، أكد تنامي أرباح الفرع المغربي وإيرادته، وسجل أنه في عام 2023 عرف ارتفاعا بحوالي 2,1 في المائة مقارنة مع العام الذي سبقه، وتوقف على تأثير زلزال الحوز على النقل في كل من مراكش وأكادير مسجلا أنه سبب انخفاضا بقيمة 20 في المائة لمدة أسبوع فقط وعاد القطاع إلى الانتعاش دون أن تتضرر أرباح ألزا السنوية بالزلزال وبالرغم من تقديمها تبرعا ماليا قيمته مليون يورو إلى الصندوق الخاص بتدبير الزلزال.
في السياق ذاته، نقلت صحيفة “la información” الإسبانية على لسان المدير التنفيذي لـNational Express إيغانسيو غارات، في مقال نشرته في يونيو 2023، أن إيرادات “ألزا المغرب” عرف في 2022 نموا بنسبة 21 في المائة مع العام الذي سبقه، بفضل ما اعتبره “الأرقام القياسية التي سجلتها خطوط الرباط وطنجة”.
أما منصة “MorningstarUK” العالمية والمتخصصة في تتبع الأسواق وتقديم الخدمات الاستشارية للمستثمرين، فقد سجلت في تقرير لها أن الإيرادات العالمية لشركة “ألزا” عرفت في عام 2024 ارتفاعا بنسبة 14 في المائة، مع “تأثير إيجابي للسوق المغربي” على حد قولها.
إعادة استثمار ضعيف
وفي الوقت الذي تحدد معايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، أن الاستثمار الأجنبي يجب أن يخصص نسبة تتراوح بين 65 و80 في المائة من الأرباح إلى إعادة الاستثمار، وفي قطاع النقل في ما بين 65 و75 في المائة، نجد أن شركة “ألزا” لا تحترم هذه النسبة بحيث بقيت إعادة استثمارها لا تكاد تصل 57 في المائة، بل وقامت بتجميدها في عام 2024 ووجهت جزءا م الأرباح إلى تسديد الديون المتراكمة عليها، كما ورد في التقرير المالي المنشور على الموقع الرسمي لشركة Mobico Group.
ويذكر أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية منظمة اقتصادية حكومية يوجد مقرها في باريس، وتُعد منتدىً للبلدان التي تصف نفسها بأنها ملتزمة بالديمقراطية واقتصاد السوق، تضم في عضويتها 38 دولة، وتعد إسبانيا والمملكة المتحدة من الدول المؤسسة لها.
في السياق ذاته، لا تحترم شركة “ألزا” الاسبانية توجيهات الاستثمار في الاتحاد الأوروبي التي تعتبر قوانين تشريعية تحدد معايير وقواعد مشتركة لمختلف جوانب الأسواق المالية والاستثمارية في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، بهدف حماية المستثمرين، وتسهيل العمليات العابرة للحدود، وضمان استقرار السوق، والتي تنص على أن النسبة الإلزامية لإعادة الاستثمار في الدول النامية يجب أن تتراوح بين 70 -80 في المائة، وتناقض أيضا مضامين ميثاق الاستثمار الذي ينص على أن هذه النسبة يجب ألا تقل عن 60 في المائة.
هذه المعطيات سبق أن كانت هي الأخرى موضوعا لتقرير المجلس الجهوي للحسابات والذي نص صراحة على “عدم كفاية الاستثمارات التي قامت بها شركة ألزا”، خصوصا تلك المتعلقة بـ”تجديد الحافلات”.
بالمقابل، وقف التقرير على اختلالات وشبهات مالية لدى الشركة بمدينة مراكش، بحيث أنها تعيد صب الأموال في شركات فرعية لها إما عن طريق عقد الصيانة والدعم التقني كما فعلت مع شركتها الفرعية IVAM والتي ضخت فيها مبالغ مالية تتراوح بين 16 مليون درهم إلى 20 مليون درهم بين عامي 2010 و2015، أو عن طريق منح قروض لشركات فرعية مثل IVAM وCFTPT المحدث بموجبها مركز لتكوين السائقين المهنيين بما فيهم سائقي ألزا، وألزا أكادير وألزا طنجة ألزا للنقل الحضري السياحي.
المبالغ الذي ضختها “ألزا” في فروعها عن طريق قروض دون موافقة السلطات المانحة للامتياز، انتقلت من 10 ملايين درهم عام 2010 لتصل إلى غاية 61 مليون درهم عام 2015. فيما تتكتم الشركة عن معاملاتها المالية من هذا النوع ولم تقم بالإشارة لها بعد 2015 في أي من تقاريرها السنوية سواء في المغرب أو في تقاير الشركة الأم البريطانية.
التقارير الدولية تقرع “ألزا”
ولم يعد موضوع تدبير “ألزا” لقطاع النقل الحضري في المغرب موضوعا محليا، بل أصبح مادة دسمة لعدة تقارير دولية، أجمعت كلها على تقديم جملة من الملاحظات السلبية تخللتها نقاط إشادة قليلة تتعلق بمقارنة وضعية الأسطول والذي لعب المغرب دورا مهما في تحسينه وتطويره، بحيث باتت “ألزا” تسير نحو تدبير النقل الحضري دون امتلاك الحافلات.
وفي هذا الشأن سجل تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، حول سياسات الاستثمار في المغرب لعام 2024، أن تجربة ألزا “أبانت عن صعوبات مرتبطة بالتوازن المالي وبالتوافق مع الجماعات الترابية”، وأكد أن “قطاع النقل الحضري بالمغرب يواجه تحديات مرتبطة بالتمويل، الحكامة، والجودة”، وهو القطاع الذي تعتبر ألزا “الفاعل الرئيسي في تدبيره” حسب ما جاء في الوثيقة التي تتوفر جريدة “العمق” على نسخة منها.
وسجل التقرير أن مدينة مراكش على سبيل المثال تعرف إكراهات متعددة في النقل الحضري الذي تدبره “ألزا” منذ 20 عاما، أبرزها “الاكتظاظ، وضعف التغطية في الأحياء البعيدة، وصعوبة ولوج الأشخاص في وضعية إعاقة”، وأن 20 في المائة من ساكنة المدينة الحمراء تعاني صعوبة ولوج خدمات النقل.
وأبرز تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية أن قطاع النقل الحضري مازال يواجه صعوبات على مستوى الحكامة والتمويل وجودة الخدمة، رغم الاستثمارات العمومية التي كلفت الدولة ما يناهز 4 ملايير درهم في إطار عقود التدبير المفوض”.
مقال علمي منشور في مجلة Public Transport قبل أشهر قليلة، سجل عدم رضا زبناء شركة “ألزا” في عدة مدن وفي مقدمتها مراكش على الأسعار التي تفرضها عليهم الشركة.
وأبرز المقال المنشور في المجلة العلمية المذكورة، المتخصصة في النقل الحضري والنقل العمومي، أن “المستخدمين في مراكش وأكادير وطنجة وخريبكة، عبّروا عن تحفظات مرتبطة بالقدرة الشرائية”، وشدد على أن “أسعار التذاكر أو عبء التكلفة على المستعملين ظل يمثل نقطة ضعف بالنسبة لألزا”.
في مارس 2024 تسببت الرياح في انتزاع سقف حافلة تابعة لشركة ألزا في الطريق الرابط بين مراكش وبنجرير
خدمات المغرب أقل جودة من دول أخرى
وفي الوقت الذي تقدم شركة “ألزا” نفسها على أنها “رائدة في النقل عالميا”، إن الأرقام المتاحة على المواقع الرسمي للشركة أو لشركتها الأم، تشير إلى فوارق كبيرة جدا في مستوى جودة الخدمات المقدمة في المغرب وفي دول أخرى.
ففي الوقت الذي تعلن شركة ألزا في موقعها الرسمي بالمغرب أنها تتوفر على 1745 حافلة في 6 مدن مختلفة، فإن توفر في مدينة برمنغهام البريطانية لوحدها على ما يزيد عن 1000 حافلة.
المعطيات ذتها تشير إلى فوارق كبيرة في عدد الحافلات مقارنة بعدد الخطوط بحيث أنها توفر لـ 40 خطا في مدريد قرابة 500 حافلة، في حين أنها في المغرب توفر 350 حافلة فقط لـ40 خطا بالرباط، و257 حافلة فقط لـ 42 خطا في مراكش، و192 حافلة فقط لـ 44 خطا في طنجة و206 حافلات فقط لـ 40 خطا في أكادير، وهو ما يفسر طول مدة انتظار الركاب للحافلات وحالات الاكتظاظ في النقل الحضري بالمدن التي تدبرها “ألزا”.
أما على مستوى جودة الحافلات، لا تخفى على عين المتتبع الفوارق الكبيرة بين نوعية الحافلات التي تقل بها “ألزا” الركاب المغاربة، وبين نظيراتها في المدن الأوروبية، حيث مازال الأسطول المغربي في معظمه مكون من حافلات لا تصل مستوى الاستجابة إلى معايير “أورو 5” للانبعاثات الغازية، وحتى الحديثة منها تقف عند سقف الجيل الخامس من المعايير، في حين في جميع المدن الأوروبية تحرص “ألزا” على أن تستجيب حافلاتها إلى معايير “أورو6”.
ففي المغرب مثلا معظم الأسطول مكون من حافلات Mercedes Conecto، وأخرى من نوعية Scania، مع “تجارب فاشلة” في مراكش مثلا مع حافلات من نوعية Mahindra الهندية ذات الجودة المنخفضة. ومازالت التقارير الإعلامية ترصد بشكل مستمر الأعطاب المستمرة في حافلات ألزا بالمغرب، وأدخنتها الكثيفة، بل ومشاكل تهدد سلامة الركاب كما وقع عند اقتلاع سقف حافلة بفعل الرياح في الخط الرابط بين مراكش وبنجرير.
وبالمقارنة يتكون أسطول ألزا في إسبانيا من حافلات Mercedes Citaro Euro VI, Scania CityWide، وفي المملكة المتحدة Alexander Dennis, Volvo Euro VI، وفي البرتغال من حافلات Mercedes Euro VI وأخرى بتقنيات هجينة (Hybride)، أما معيار الانبعاثات الغازية “أورو6” فتحترمه ألزا في أوروبا بشكل إلزامي منذ عام 2014.
فوارق الجودة في خدمات “ألزا” بين المغرب وغيره من الدول يظهر من خلال أنظمة التكوين للسائقين الجدد وتدبير الموارد البشرية، ففي الوقت الذي تفرض الشركة، وفق المعطيات التي حصلت عليها جريدة “العمق” من مصادر من داخل الشركة، ما بين 40 إلى 60 ساعة كأقصى تقدير من التكوين الأساسي على السائقين الجدد، فإنها في أوروبا تخضع السائقين الجدد لما لا يقل عن 130 ساعة من التكوين.
أما التكوين المستمر الذي يعد من أهم معايير السلامة الطرقية الموصى بها عالميا، فإن “ألزا” تخضع سائقيها في المغرب إلى تكوين سنوي من 8 إلى 12 ساعة في العام فقط، فيما توفر لنظرائهم الأوروبين تكوينا مستمرا إلزاميا مدته 35 ساعة كل عام.
أما على مستوى تدبير الموارد البشرية والتحفيزات المالية وخلق الثروة، فلا مجال للمقارنة بين ما تنفقه ألزا على أجرائها في المغرب وزملائهم الأوروبيين، بحيث أن أجور السائقين تتراوح في المغرب بين 3500 و5500 وفي أوروبا تتراوح بين 2000 أورو 28 ألف أورو سنويا.
وعندما يتعلق الأمر بمعايير السلامة والأمان، فإن الفوارق تزيد اتساعا بين المغرب وأوروبا فيما تقدمه “ألزا”، وهي الفوارق الذي تؤكدها الشركة نفسها من خلال المعطيات المنشورة على مواقعها الرسمية والتقارير السنوية الصادرة عن الشركة الأم Mobico Group.
ففي الوقت الذي تخضع “ألزا” حافلاتها في المغرب إلى الصيانة الدورية بعد قطعها مسافة تتراوح بين 15 ألف إلى 20 ألف كيلومتر، فإنها في أوروبا تقلص المسافة اللازمة تسجيلها في عدادات المركبات للخضوع للصيانة الدورية إلى ما يتراوح بين 10 آلاف كيلومتر و12 ألف كيلومتر.
وفي الوقت الذي جهزت حافلاتها في المغرب بكاميرتين إلى 3 لمراقبة سلوكات السائقين والأحداث داخل الحافلات، فإنها في المدن الأوروبية تجهز كل حافلة بـ 8 إلى 12 كاميرا عالية الدقة.
وتوفر الشركة شهادات جودة “ISO 39001” أحيانا وليس دائما، فإنها توفر بصفة إلزامية في المدن الأوروبية شهادات الجودة شهادات الجودة: ISO 39001, 14001, 45001.
أما أنظمة الأداء والدفع فتجعلها في المغرب محصورة في الأداء نقدا أو عن طريق بطاقة “إخلاص” التي يتم تعبئتها نقدا في الحافلات، أو بعض الاشتراكات الخاصة بالتلاميذ والطلبة التي تدفع هي الأخرى نقدا ويضطر أصحابها للانتظار في طوابير طويلة في بعض الأحيان.
بالمقابل، توفر “ألزا” خيارات أداء متعددة في المدن الأوروبية التي تدبر فيها النقل الحضري، مثل الدفع “بدون تلامس”، أو عن طريق تطبيقات الهاتف، وبعض الأنظمة المصرفية المتكاملة.
وتخصص الشركة ذاتها قنوات تواصل دائمة للزبناء في أوروبا عن طريق مراكز اتصالات تشتغل 24/7 وتطبيقات ذكية للشكايات والتواصل وكذا تتبع مسار الحافلات ووقت الوصول، في حين أنها في المغرب تضع رقما هاتفيا واحدا أو رقمين لكل مدينة.
وكثير من الملاحظات التي تسجل على أداء الشركة الإسبانية، كانت هي الأخرى ضمن توصيات تقرير المجلس الجهوي للحسابات برسم 2016-2017، ورغم ذلك بقيت دار لقمان على حالها في ظل استفادة الشركة من عدم تنصيص دفتر التحملات على جزاءات واضحة ومعايير جودة دقيقة لمراقبتها ومعاقبتها.
أما بمقارنة عدد الرحلات التي تشرف عليها حافلات ألزا في كل خط، تظهر فجوة كبيرة في المقارنة بين المغرب وأوروبا، الأمر الذي ينعكس على جودة الخدمات ووقت الانتظار بين الحافلة والموالية، ويساهم في منسوب الاكتظاظ في الحافلات.
ففي الوقت الذي يترواح المعدل في المغرب بين 40 و125 رحلة في اليوم، باستثناء الرباط التي تعرف تحسنا نسبيا بارتفاع المعدل إلى 166 رحلة في اليوم بالنسبة لكل خط، فإن هذا المعدل في المدن الأوروبية لا يقل عن 200 رحلة ويصل في حالة مدريد إلى 375 رحلة في اليوم الأمر الذي يعني مدة انتظار لا تكاد تصل 5 دقائق بين الحافلة والأخرى.
هيمنة رغم تراكم الفشل
هيمنة شركة “ألزا” على قطاع النقل الحضري بالمغرب، كان موضوعا لتقرير نشره مجلس المنافسة عام 2022، والذي سجل أن الشركة الإسبانية أصبحت تستحوذ على ما يقارب 70 في المائة من سوق النقل الحضري والنقل بين المدن بالحافلات.
وأرجع المجلس هذه الهيمنة (إلى جانب شركة سيتي باص التي هيمنت على ما يقارب 20 في المائة)، إلى فرض شروط تقنية ومالية لولوج السوق لا تحفر إلا الشركات كبيرة الحجم، وتحول دون دخول فاعلين جدد، ولا تشجع على الابتكار والإبداع كمعايير للانتقاء، إضافة إلى العدد الضئيل لطلبات العروض المتعقلة بالعقود طويلة الأمد، ثم ضعف نسبة مشاركة الفاعلين في طلبات العروض بالحواضر الكبرى بسبب محدودية قدراتهم المالية والتقنية.
وأوصى المجلس في رأي حول “تحليل مدى احترام قواعد المنافسة في سوق التدبير المفوض للنقل الحضري والنقل الرابط بين المدن بواسطة الحافلات”، بإعادة النظر في القانون الأساسي والإطار القانوني المنظم لشركات التنمية المحلية، وذلك بعدما رصد تسبب إنشاء هذه الشركات في مشاكل متعلقة بالتنسيق والحكامة بين الفاعلين، وشجع على تنصلهم من مسؤولياتهم، وتضاعف عبء تكاليف الاستغلال.
كما أوصى مجلس المنافسة بإعادة النظر في القانون الأساسي والإطار القانوني المنظم لشركات التنمية المحلية بهدف إضفاء الطابع المهني عليها وإمدادها بالوسائل القانونية والمادية قصد الاضطلاع الأمثل بدورها في تقنين السوق، وأن تتم المراجعة بطريقة تمكن من تقوية الجماعات الترابية وهيئاتها باعتبارها سلطة مفوضة، وكذا ضبط مسار التدبير المفوض بدءا من تحديد الحاجيات، مرورا بطرح الدعوة إلى المنافسة والتفاوض والتعاقد، وانتهاء بتنفيذ العقود وتتبعها.
في أكتوبر 2022 تعرضت حافلة ألزا بطنجة لاحتراق كامل جراء مشاكل تقنية كادت أن تودي بحياة عشرات التلاميذ