أكد باحثون مغاربة على أهمية إشراك المواطنين أثناء صياغة الجيل الجديد من برامج التنمية التي دعا إليها الملك محمد السادس خلال خطاب العرش الأخير، مشددين على أن “الانتقال من المقاربات التقليدية للتنمية الاجتماعية إلى مقاربة للتنمية المجالية المندمجة ينطلق بشكل أساسي من الإصغاء المباشر إلى الساكنة المستهدفة لمعرفة خصوصية حاجياتها الترابية”.
كما أشار الباحثون أنفسهم إلى أن “تفعيل هذه الرؤية الملكية يقتضي تجاوز الحلول المركزية والنمطية، واعتماد آليات تشاركية تُمكّن المواطن من أن يكون فاعلًا أساسيًا في بلورة السياسات العمومية، لا مجرد متلقٍ لها”، مع التأكيد على أن “نجاح أي مشروع تنموي رهين بمدى انبثاقه من الواقع المحلي واستجابته لمتطلبات الفئات الاجتماعية المختلفة، مع ضرورة تمكين الجماعات الترابية من الوسائل والصلاحيات الكفيلة بتحقيق العدالة المجالية وتعزيز دولة القرب”.
بدر بوخلوف، أستاذ جامعي بكلية الحقوق بمكناس ومنسق الشبكة الدولية للباحثين، أكد أهمية التشاور العمومي لتفعيل التعليمات الملكية الواردة في خطاب العرش، التي دعا فيها الملك محمد السادس إلى إطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية، مبرزًا “دور المواطن والمجتمع المدني في إرساء برامج شمولية ومتكاملة تنطلق من خصوصية كل منطقة وحاجياتها الترابية”.
وأورد بوخلوف، ضمن تصريحه لجريدة هسبريس، أن “البرامج التنموية كي تنجح وتُحدث الأثر ينبغي أن تُبنى من القاعدة وفق مقاربة تشاركية تعطي للمواطنين والمواطنات في المناطق المعنية حقّ صياغة السياسات التي تستهدفهم”، مضيفاً أن “أنسنة التنمية ليست شعارًا، بل مقاربة متكاملة تُعيد الاعتبار للعنصر البشري، وتجعل من المواطن الفاعل الأول في تحديد حاجياته”.
وأكد الأكاديمي عينه أن “الرهان اليوم لم يعد فقط على التخطيط المركزي أو القرارات الفوقية، بل على إشراك فعلي وواسع للمواطن المغربي في بلورة السياسات العمومية التي تلامس واقعه المعيش وتبلي حاجياته الضرورية”، مسجلا أن “الخطابات الملكية ما فتئت تؤكد على أهمية إشراك جميع الفاعلين، وخصوصًا المجتمع المدني وعموم المواطنين والمواطنات”.
وأشار المتحدث إلى أن “إحداث تحول تنموي حقيقي لا يمكن أن يتحقق من دون فتح قنوات الإنصات والتشاور العمومي، وإدماج الساكنة المحلية في مختلف مراحل بلورة وتتبع وتقييم المشاريع”، مشددا على أن “المرحلة الراهنة تفرض إعادة النظر في منطق إعداد السياسات العمومية”، وداعيًا إلى “تجاوز المقاربة التقنية البيروقراطية نحو منطق تشاركي يُعيد توزيع الأدوار ويُعزّز من ديمقراطية القرار التنموي”.
وخلص الأستاذ الجامعي نفسه إلى أن “نجاح الورش الملكي الكبير المتعلق بالدولة الاجتماعية يتوقف، في جزء كبير منه، على مدى قدرة الفاعلين الرسميين على الانفتاح على الجامعة والمجتمع المدني، وعلى إتاحة المجال أمام كل شرائح المجتمع ليكونوا شركاء حقيقيين في صناعة المستقبل التنموي لمجالاتهم، وجعل الإنسان المغربي أينما كان محورا للتنمية البشرية والمستدامة لخدمته حاضرا ومستقبلا”.
كريمة غراض، الباحثة في العلوم السياسية والقانون الدستوري، قالت إن برامج التنمية الجديدة تحتاج بالفعل إلى مقاربة تشاركية تمنح المواطنين في المناطق المعنية حقّ صياغة السياسات التنموية التي تستهدفهم، بما ينسجم مع روح دستور 2011 الذي جعل من الديمقراطية التشاركية أحد مرتكزات تدبير الشأن المحلي، خاصة في ظل ورش الجهوية المتقدمة.
وأضافت غراض، ضمن تصريحها لجريدة هسبريس، أن “اعتماد مقاربة جديدة لتنزيل البرامج التنموية أضحى ضرورة ملحة، ولاسيما في ضوء التوجيهات الواردة في خطاب العرش الأخير”، الذي اعتبرته بمثابة “وثيقة مرجعية تحمل دلالات واضحة بشأن واقع التنمية المجالية غير المتكافئة، حيث مازالت بعض الأقاليم تعاني من تعثرات متراكمة تؤثر على مناحٍ متعددة من حياة المواطنين”.
وأكدت الباحثة في العلوم السياسية أن “اللقاءات التي أعقبت الخطاب الملكي، التي جمعت وزارة الداخلية بالولاة والعمال، سلطت الضوء على أولويات المرحلة، وعلى رأسها إنعاش التشغيل، وتعزيز الخدمات الاجتماعية الأساسية المرتبطة بورش الحماية الاجتماعية، بالإضافة إلى تدبير مستدام للموارد المائية، وإطلاق مشاريع تنموية تراعي خصوصيات كل مجال ترابي”، مشددة على “الإصغاء إلى صوت الساكنة كفئات معنية ومستهدفة بهذه البرامج”.
وأردفت المتحدثة ذاتها بأن “تحقيق العدالة المجالية والتنمية المندمجة يمرّ عبر إشراك فعلي للساكنة المحلية من خلال ممثليها المنتخبين، الذين يقع على عاتقهم الإنصات لمطالب المواطنين، وتوجيه السياسات العمومية نحو القطاعات الحيوية مثل التعليم، الصحة، الشغل، والسكن، بدل الانشغال باقتناء معدات وممتلكات غير ذات أولوية ترهق ميزانيات الجماعات والجهات”، داعية إلى “ضرورة القطع مع اختلالات التدبير السابقة، التي أعاقت مسار التنمية”.
وذكرت غراض أن “المجتمع المدني، وخاصة الجمعيات الجادة، مدعو اليوم للمساهمة بفعالية في تنفيذ البرامج التنموية، في إطار من التتبع والمساءلة والنجاعة”، مبرزة أن “مغرب اليوم يحتاج إلى كل طاقاته”، وأن “على كل الفاعلين المعنيين بالتنمية أن يتحلوا بالروح الوطنية العالية، ويضعوا نصب أعينهم المصلحة العامة، لأن المرحلة لا تحتمل مزيدًا من التراخي أو التكرار”.