هل تصدق.. أن هامش أرباح بعض الأدوية في المغرب يفوق 300% مقارنة بدول أخرى؟
قد تبدو هذه النسبة صادمة، لكنها تستند إلى معطيات موثقة وأرقام رسمية تُظهر أن سوق الدواء في المغرب لا يخضع فقط لقوانين العرض والطلب، بل تحكمه أيضا اعتبارات اقتصادية وتجارية تضع أرباح المختبرات فوق صحة المواطن.
في صيدليات المغرب، لا يُقاس المرض فقط بشدته، بل أيضًا بقدرة المريض على الدفع. فبينما تباع بعض الأدوية في أوروبا بثمن لا يتجاوز 5 يورو، يجد المواطن المغربي نفسه مطالبًا بأداء ما يعادل ثلاثة أضعاف السعر لنفس التركيبة، دون أن يحصل بالضرورة على تعويض مجزٍ من صندوق التأمين.
تتعدد الروايات وتتضارب التبريرات، لكن الثابت أن أسعار الأدوية في المغرب لا تعكس لا القدرة الشرائية للمواطن، ولا واقع السوق العالمية. هذه الفجوة السعرية، التي طالما نُظر إليها باعتبارها شأناً تقنياً صرفاً، تتحول اليوم إلى تهديد مباشر لمبدأ الحق في العلاج، وتضع منظومة التغطية الصحية الشاملة أمام معضلة مالية واجتماعية متصاعدة.
وبينما ترفع الحكومة شعار تعميم التغطية الصحية الشاملة، تظل أسعار الدواء المرتفعة أحد أكبر التحديات التي تُهدد استدامة هذا الورش الوطني، وتُثقل كاهل صناديق التأمين الاجتماعي، وتُبعد ملايين المغاربة عن حقهم الدستوري في العلاج.
فهل يتعلق الأمر بسوق منفلت؟ أم بغياب آليات فعالة للمراقبة والتفاوض؟ من المستفيد من هذا الوضع؟ ومن يدفع فاتورة الثمن الحقيقي؟
رغم التزام الدولة بتعميم الحماية الاجتماعية، تُظهر وثائق حصلت عليها “العمق” أن أسعار عدد من الأدوية المستوردة بالمغرب تفوق مثيلاتها الأوروبية بشكل صادم. شركات أجنبية تستفيد من تسهيلات ضخمة، وتُصرّح بأرباح هزيلة، بينما تتحمل صناديق التأمين والمواطن المغربي الفاتورة كاملة.
بينما تضع المملكة المغربية مشروع تعميم الحماية الاجتماعية ضمن أولوياتها الاستراتيجية، تُسجَّل اختلالات عميقة في منظومة الأدوية، سواء من حيث الأسعار أو شروط الإنتاج والاستيراد والتوزيع.
تحقيق استقصائي لجريدة “العمق الالكترونية”، يكشف بالبيانات والوثائق الرسمية كيف تتحول صحة المغاربة إلى مورد ربح خالص لشركات أجنبية تتهرب من الضرائب وتُصدّر الأرباح.التحقيق يكشف عن فوارق صادمة بين أسعار الأدوية في المغرب ونظيرتها في دول مرجعية، ويُظهر تأثير هذه الفوارق على ولوج المواطنين للعلاج وعلى مالية صناديق التأمين الصحي.
في هذا التحقيق، تسعى “العمق المغربي” إلى كشف المستور في منظومة تسعير الأدوية، من خلال مقارنة دقيقة بين أسعار بيع الأدوية في المغرب وتلك المعتمدة في دول مرجعية مثل فرنسا وبلجيكا. تكشف الوثائق التي حصلنا عليها عن فوارق مهولة في الأسعار، وأرباح قد تصل إلى مستويات غير مبررة، تضع المرضى أمام خيارين أحلاهما مُرّ: إما التضحية بالعلاج أو الاستدانة من أجل البقاء.
من خلال هذا التحقيق، نحاول تفكيك بنية تسعير الدواء في المغرب، ونرصد من يربح ومن يخسر في سوق حيوية تتحكم فيها اعتبارات اقتصادية وطبية وسياسية معقدة، بعيداً عن أعين الرأي العام.
ينظم القانون رقم 17-04، المتعلق بالأدوية والصيدلة، إنتاج وتسويق الأدوية بالمغرب، وتحرص أجهزة الدولة المختصة على السهر على تطبيق هذا القانون. ويخضع إنشاء شركة صناعية صيدلية لمنح موافقة مسبقة، وترخيص نهائي للافتتاح، الذي تمنحه الأمانة العامة للحكومة، بعد موافقة وزارة الصحة والمجلس الوطني لهيأة الصيادلة. وأغنى المغرب ترسانته القانونية من أجل ضمان حقوق المستثمرين في هذا المجال، خاصة بعد توقيع المغرب على اتفاقية منظمة التجارة العالمية بشأن الجوانب المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية والتجارية.
وحسب المرسوم المتعلق بشروط وكيفيات تحديد سعر بيع الأدوية المصنعة محليا أو المستوردة للعموم يحدد سعر المصنع دون احتساب الرسوم (PFHT) لدواء أصلي يعرض في السوق لأول مرة، سواء كان مصنعا محليا أو مستوردا، في أدنى سعر من أسعار المصنع دون احتساب الرسوم لنفس الدواء، المحددة أو المصادق عليها من قبل السلطات المختصة في البلدان التالية: المملكة العربية السعودية وبلجيكا وإسبانيا وفرنسا وتركيا والبرتغال وفي بلد المنشأ إذا كان سعره مختلفا عن هذه الأخيرة، وذلك بعد تحويله إلى الدرهم المغربي.
إذا كان الدواء غير مسوق في أي بلد من البلدان المذكورة أعلاه باستثناء بلد المنشأ، فإن سعر المصنع دون احتساب الرسوم يساوي سعر المصنع دون احتساب الرسوم لبلد المنشأ بعد تحويله إلى الدرهم المغربي.
يتم تحويل السعر إلى الدرهم بناء على السعر المعمول به لبيع الدرهم كما حدد من قبل بنك المغرب في أول يوم عمل من الشهر الذي يسبق يوم تحديد سعر المصنع دون احتساب الرسوم.
دواء مكلف.. أرقام صادمة
تكشف البيانات الرسمية والتصريحات المهنية عن واقع صادم لأسعار الأدوية في المغرب، مقارنة بدول مجاورة وأخرى أكثر تقدماً اقتصادياً.
فرغم الحديث المتكرر عن “المراقبة الصارمة” للأسعار، يشير تقرير صادر عن مجلس المنافسة إلى أن ثمن الدواء في السوق الوطنية غالباً ما يتجاوز نظيره في بلدان أوروبية مثل فرنسا وإسبانيا، وحتى في دول عربية كالأردن وتونس.
ويؤكد التقرير نفسه أن أسعار البيع للعموم (PPA) تخضع لتقديرات غير دقيقة، وأن المقارنة المرجعية التي تعتمدها وزارة الصحة لا تُراعى فيها تقلبات العملة، ولا الأوضاع الاقتصادية الداخلية، ما يؤدي إلى استمرار ارتفاع الأسعار حتى بعد انخفاضها في بلد المنشأ.
من جهتها، أفادت الفيدرالية الوطنية لنقابات صيادلة المغرب أن الدواء في المغرب قد يكون أغلى بنسبة تفوق 30% مقارنة بنفس المنتج في فرنسا، رغم أن الفارق في الدخل الفردي وقدرة المواطن على الإنفاق شاسع بين البلدين.
هذا الوضع يضع المواطن المغربي، خصوصاً من ذوي الأمراض المزمنة أو محدودي الدخل، أمام معادلة غير متكافئة: إما اقتناء الدواء بسعر يفوق إمكاناته، أو الاستغناء عنه، وهو ما يسجله الأطباء بشكل متزايد في حالات الانقطاع عن العلاج أو التداوي بطرق بديلة
رغم تنصيص الدستور المغربي في (الفصل 31) على ضمان الحق في العلاج والتغطية الصحية، إلا أن أكثر من 50% من كلفة العلاج يتحمّلها المواطن، حسب الأرقام. وتُظهر مقارنة بسيطة أن العلاج في المصحات الخاصة يُكلّف المريض حوالي خمس مرات أكثر من نظيره في المستشفيات العمومية، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى أسعار الأدوية.
خلال السنوات العشر الأخيرة، تراجعت نسبة تصنيع الأدوية بالمغرب من 80% إلى 51%. في المقابل، ارتفعت واردات البلاد من الأدوية من 5.1 مليار درهم سنة 2014 إلى 13.1 مليار درهم سنة 2021، أي بزيادة بلغت 175%.
وكشفت بيانات حصلت عليها جريدة “العمق” الالكترونية أن أسعار الأدوية المستوردة بالمغرب قد تفوق مثيلاتها في فرنسا بـ12 مرة، كما هو الحال مع دواء “Plavix”، أو بنسبة 50% مع”Recormon”. .وتُعزى هذه الفوارق إلى غياب آلية لتسقيف الأسعار بناء على مقارنة دولية. بينما يُمنح المستوردون هامش ربح إضافي بنسبة 10% يُحمَّل في النهاية على المستهلك.
في المقابل، تصرّح الشركات متعددة الجنسيات التي تسوّق هذه الأدوية بأرباح منخفضة في المغرب لا تتجاوز 3%، مقارنة بـ11% للشركات الوطنية التي تصنع محليا، ما يطرح علامات استفهام حول التهرب الضريبي وتحويل الأرباح نحو الخارج.
الفاعلون المغاربة يمثلون 65% من رقم معاملات إنتاج الأدوية محليا ويساهمون بـ82% من الموارد الضريبية. بينما الأجانب يصرحون بهوامش ربح ضئيلة، رغم الأسعار المرتفعة، ويحوّلون الأرباح للخارج.
الأدوية الجنيسة.. فرصة ضائعة
رغم فعاليتها وكلفتها المنخفضة، فإن الأدوية الجنيسة لا تغطي سوى 38% من سوق الدواء المغربي، مقابل أكثر من 80% في دول مثل ألمانيا والبرازيل. إدماج هذه الأدوية كان سيوفر بين 2.5 و3 مليار درهم سنويا (2015-2021)، حسب تقديرات رسمية.
كشف تقرير صادر عن الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحياة، أن أسعار الأدوية في المغرب هي أعلى من مثيلاتها في دول أخر. ويعد ثاني أكبر هامش ربح في دول شمال أفريقيا ودول البحر الأبيض المتوسط.
ويتراوح هامش الربح حسب التقرير ما بين 30 الى 250 % كأدوية السكري والربو وضغط الدم وامراض القلب والشرايين والسرطانات.
ويبلغ على سبيل المثال سعر دواء التهاب الكبد الفيروسي ما بين 3000 درهم و6000 درهم، فيما لا يتجاوز سعره 800 درهم في مصر، وهناك اختلاف كبير بين أثمنة نفس الدواء المستورد تحت علامات تجارية مختلفة بل إن بعض الأدوية الجنيسة سعرها يفوق سعر دواء أصيل في بعض الدول.
ووصف التقرير المغرب بجنة الأسعار الباهظة للدواء التي تستفيد منها الشركات متعددة الجنسيات، وهو ما يعمق نزيف احتياطات المملكة من العملة الصعبة، ويعرقل مسيرة البلاد نحو التغطية الصحية الشاملة حسب دراسة قامت بها الكنوبس وإدارة الجمارك المغربية.
وسجل التقرير أنه رغم إعفاء الأدوية والمواد الأولية التي تدخل في تركيبها، وكذا اللفائف غير المرجعة من الضريبة على القيمة المضافة 7% منذ فاتح يناير 2024، ظلت شركات صناعة الأدوية في المغرب تواصل مراكمة الأرباح على حساب جيوب المواطنين وصحة وحياة المرضى، وظلت تفرض عبئا ثقيلا سواء عند شرائها مباشرة من الصيدليات أو من خلال تغطيتها بتعويضات صناديق الحماية الاجتماعية.
مثال دال: دواء “SSB400” لعلاج التهاب الكبد C المُنتج في المغرب، أرخص بـ100 مرة من نظيره الأصلي، دون أن يُعمم اعتماده.
من الأسباب: تأخر منح التراخيص، غياب المساطر السريعة، وضعف التشجيع المؤسسي.
من يتحمل فاتورة الأدوية “المبتكرة”؟
تُظهر معطيات الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي ” CNOPS” أن 10 أدوية فقط، توصف بأنها “مبتكرة”، تمثل وحدها 14% من كلفة التعويضات، رغم أنها لا تمثل سوى 1.1% من الكميات المعوض عنها. علبة دواء من بين الأغلى (PERJETA) قد تُكلف 25,164 درهما، بينما سعر العلبة الأكثر تداولا لا يتجاوز 24.21 درهما.
النتيجة: ضغط متزايد على صناديق التأمين الصحي
احتكار وتلاعب وتسعير غامض..
في حال التعميم الكلي للتغطية الصحية، قد تصل الكلفة الإضافية الناتجة عن أسعار الأدوية المرتفعة إلى 10 ملايير درهم سنويا. وهو رقم ينذر بتأزيم مالية منظومة التأمين الصحي، خصوصا في ظل غياب بروتوكولات علاجية واضحة وسقف محدد للتعويضات.
رشيد حموني رئيس فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب، أكد أن الأزمة الدوائية في المغرب ليست فقط قضية أسعار، بل هي تجلٍّ لاختلالات أعمق في السياسات الصحية والتجارية والجبائية.
ويرى البرلماني حموني المهتم بتسويق وتصنيع الأدوية بالمغرب ضمن حديثه لجريدة “العمق” أن الإصلاح الجذري يتطلب جرأة سياسية، وعدالة في الوصول إلى الدواء، من أجل حماية الحق في الصحة كأحد أعمدة العدالة الاجتماعية.
وتؤكد معطيات وزارة الصناعة والتجارة المغربية، أن الإنتاج المحلي من الصناعة الدوائية، يغطي 53.8% من احتياجات السوق من حيث القيمة، ونحو 75% من حيث الوحدة.
وبلغة الأرقام، يحقق قطاع صناعة الأدوية بالمغرب رقم معاملات يصل إلى 22 مليار درهم سنويا، ويضم 56 مؤسسة صيدلانية صناعية، توفر 6500 منصب شغل.
وحسب معطيات حكومية رسمية، واجه المغرب خلال السنة الماضية نقصا في 30 نوعًا من الأدوية، إلا أن هذا العدد انخفض إلى 6 أدوية فقط بحلول عام 2025، وهو تحسن نسبي لكنه لا يخفي التحديات العميقة التي تواجه المنظومة.
إحدى أبرز الإشكالات التي تعيق تطور الصناعة الدوائية المغربية، وفق وزارة الصناعة والتجارة، تتعلق بتحديد أسعار الأدوية من قبل الجهات الوصية، وهو ما يجعل بعض المنتجين غير قادرين على الاستمرار عند ارتفاع تكاليف الإنتاج، علاوة على التعقيدات الإدارية، حيث يتطلب تسجيل دواء جديد ما بين سنة ونصف وسنتين، مع الحاجة إلى توفير كميات هائلة من الوثائق، ما يعرقل الابتكار والمنافسة.
واعتبر النائب البرلماني، أن المشكل المطروح على مستوى الأدوية يعود بالأساس إلى اللوبيات والسماسرة من خلال الشركات المتعددة الجنسيات. وتحدث حموني عن وجود تلاعبات في القطاع، حيث تتوفر شركات متعددة الجنسيات على مكاتب بالمغرب تضم فقط خمسة موظفين، لكنها تحصل على تراخيص أدوية مصنعة محليًا، مما يضر بالصناعة الوطنية.
الوزير المنتدب لدى وزيرة الاقتصاد والمالية المكلف بالميزانية، فوزي لقجع، حذر مؤخرا من الهوامش الربحية المبالغ فيها التي تحققها شركات استيراد الأدوية، والتي تصل أحيانًا إلى 300% بين السعر المصرح به لدى الجمارك والسعر النهائي للمستهلك.
هذا الوضع دفع الحكومة إلى إدراج إصلاح شامل ضمن أولوياتها، يهدف إلى ضبط السوق، تخفيف العبء عن المواطنين، ودعم الإنتاج المحلي لتعزيز السيادة الدوائية للمملكة.
وتشمل الإصلاحات التي تدرسها الحكومة، تقليص الضرائب المفروضة على الأدوية، وإلزام المستوردين بالالتزام بهوامش أرباح لا تتجاوز 10% بعد خصم التكاليف.
وسط تصاعد الأصوات المنتقدة لارتفاع أسعار الأدوية وتهديدها لاستدامة صناديق التغطية الصحية، خرج وزير الصحة والحماية الاجتماعية، أمين التهراوي، ليؤكد أن إصلاح نظام تسعير الأدوية أضحى أولوية قصوى ضمن ورش إصلاح المنظومة الصحية الوطنية.
التهراوي، وفي مداخلة أمام مجلس النواب يوم الاثنين 26 ماي، أقر بأن نظام التسعير المعتمد حالياً يحتاج إلى مراجعة عميقة، مشدداً على أن مشروع مرسوم جديد بلغ مراحل متقدمة، ويهدف إلى تحقيق توازن دقيق بين القدرة الشرائية للمواطنين، وضمان ولوج الأدوية المبتكرة، واستدامة نظام التأمين الصحي.
يأتي هذا الإعلان في سياق وطني يطغى عليه قلق متزايد بشأن كلفة الدواء، خاصة في ظل معطيات رسمية تشير إلى أن المغرب يستورد أدوية بأسعار تفوق نظيرتها في دول مرجعية، أحياناً بأكثر من 300%، ما يُثقل كاهل المواطنين وصناديق التأمين على حد سواء.
لكن في غياب إجراءات فعالة لتسقيف الأسعار، وربط التسعير بمقارنات دولية شفافة، يظل الشك قائماً حول قدرة هذا الإصلاح المرتقب على كبح جشع بعض الفاعلين في القطاع، ووقف نزيف صناديق التأمين، التي تُنذر التقارير الرسمية بقرب اختلال توازنها المالي في حال استمرار الوضع على ما هو عليه.
وحسب معطيات وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، فإن أسعار الأدوية لا تزال تمثل عبئاً ثقيلاً على كاهل الأسر وعلى منظومة الحماية الاجتماعية، مشيراً إلى أن نفقات تعويض الأدوية ارتفعت بنسبة 31% ما بين سنتي 2022 و2024، وهو ما يشكل ضغطاً مباشراً على الميزانيات العمومية، خاصة بعد تعميم التأمين الإجباري الأساسي عن المرض.
نظام تسعير الأدوية
وانطلاقاً من هذا المعطى، تؤكد الحكومة أنها جعلت من إصلاح نظام تسعير الأدوية خياراً سيادياً ومسؤولاً، يتجاوز الطابع التقني نحو بُعد اجتماعي واقتصادي عميق، يرمي إلى تعزيز القدرة الشرائية للمواطنين، وتحقيق الإنصاف في الولوج للدواء، وتحفيز الاستثمار الوطني في قطاع استراتيجي.
وأوضح الوزير أمين التهراوي في يوليوز 2025 أمام البرلمان، أن الوزارة اشتغلت على هذا الورش في إطار مقاربة تشاركية واسعة شملت أكثر من 30 اجتماعاً مع الفاعلين المعنيين، من فيدراليات صناعية وهيئات الصيادلة وصناديق التأمين، وتم التوصل إلى صيغة توافقية لمرسوم جديد سيسمح، عند المصادقة عليه، بخفض ملموس في أسعار الأدوية، وتحقيق نوع من التوازن بين حماية المستهلك وتحفيز التصنيع المحلي.
فهل يكون المرسوم الجديد بداية حل جذري؟ أم مجرد خطوة تنظيمية أخرى دون أثر فعلي على فاتورة الدواء في المغرب؟
في ظل الفوارق الصادمة بين أسعار الأدوية في المغرب ونظيرتها في دول مرجعية، سألنا رئيس كونفدرالية نقابة صيادلة المغرب عن هامش الربح الممنوح للصيدليات، خاصة مع اتهامات ببلوغ أرباح بعض الأدوية أكثر من 300%؟ وهل هناك استعداد من المهنيين لإعادة النظر في هذه الهوامش في إطار إصلاح شامل للمنظومة؟
كما تساءلنا عن تفسيرات حول ضعف ولوج الأدوية الجنيسة إلى السوق، رغم فعاليتها وثمنها المنخفض، علما أن استعمالها لا يتجاوز 38% من إجمالي استهلاك الأدوية في المغرب؟ وهل تتحمل الصيدليات جزءا من المسؤولية في ضعف تسويقها أو وصفها؟
محمد لحبابي رئيس كونفدرالية نقابة صيادلة المغرب، أن الصيدلي لا يتحمل مسؤولية ارتفاع أسعار الأدوية بالمغرب وأن هامش ربح الصيدلي لا يتجاوز 8%، داعيا لسن سياسات تسعير منصفة للمواطن.
وأكد لحبابي جوابا على أسئلة جريدة “العمق المغربي”، وردا على ما وصفها بـ”المغالطات” بخصوص أرباح الصيادلة والتي تصل إلى 300%، أن الهامش الربحي للصيادلة محدد بمرسوم وزاري تدخلت فيه عدة وزارات دون أي تدخل من الصيادلة كما أن الهامش الربحي الصافي للصيادلة، حسب المديرية العامة للضرائب، لا يتجاوز 8%، مقرا بوجود فوارق في الثمن في مجموعة من الأدوية مع دول المقارنة.
ويطالب الصيادلة، حسب المتحدث ذاته، بخفض أثمنة الأدوية التي تثقل كاهل المواطن المغربي وصناديق الائتمان الاجتماعي لأقصى درجة، عكس ماتروج له بعض الصفحات دون استقصاء الخبر، على حد قوله، متأسفا للفوارق التي تعرفها أثمنة الأدوية بدول أخرى، فبحسب رئيس الكونفدرالية “لا يعقل أن تكون في المنظومة الصحية المغربية أثمنة تفوق 300 أو 400% مقارنة بدول أخرى”، داعيا لتخفيض أسعارها لأقصى درجة.
رئيس كونفدرالية نقابة صيادلة المغرب، جدد التأكيد على أن الهامش الربحي للصيادلة محدد من طرف الدولة، مبرزا أن الهامش الربحي للأدوية الباهضة والتي يفوق ثمنها 3000 درهم، حدد المرسوم الوزاري ربحا جزافيا لها في 400 درهم كربح صافي.
ورفض لحبابي تحديد المسؤول عن ارتفاع أسعار الأدوية بالمغرب، داعيا لطرح السؤال على المصنعين والمستوردين ووزارة الصحة الذين يحددون الأثمنة للأدوية المطروحة في الصيدليات، مشيرا إلى أن إحدى النقاط في الملف المطلبي للمركزيات النقابية التي اشتغلوا عليها مع لجنة مشتركة ووزارة الصحة، تتمثل في انخراطهم في الترويج للأدوية الجنيسة وتمكين الصيادلة من آلية الرفع من الاستهلاك المغربي لهذه الأدوية عن طريق الحق في استبدال الدواء، الأمر الذي لم تستجب له الوزارة ولازال حبيس الرفوف، على حد تعبيره.
تكلفة دوائية تفوق 1.1 مليار درهم سنويا
وبإجراء مقارنة دقيقة بين أسعار عدد من الأدوية في المغرب وأسعارها في فرنسا، نجد أن المغرب يدفع مبالغ أكبر بكثير لبعض الأدوية مقارنة بفرنسا، رغم أن هذه الأخيرة تتفاوض عادة مع المختبرات للحصول على أسعار أقل من تلك المعلنة رسميا.
ويجعل هذا المعطى الأرقام المصرحة بها وفق بيانات حصلت عليها “العمق” مرشحة لأن تكون أقل بكثير في الواقع الفرنسي. ويعني ذلك أن الأرقام المتعلقة بالفوارق المالية التي تتكبدها الدولة المغربية، والمبنية على مقارنة مع أسعار فرنسا، تظل رغم ذلك أقل من الخسائر الحقيقية الممكنة.
وفي هذا الصدد، تشير الأرقام إلى أدوية بعينها تُمثل عبئا ماليا كبيرا، مثل دواء JANUMET” ” الخاص بمرض السكري، الذي يبلغ سعره في المغرب 437 درهما مقابل 257 درهما فقط في فرنسا، أي بزيادة تفوق 70%. ورغم أنه دواء بسيط متاح بصيغ جنيسة منذ سنوات، إلا أن استمراره بهذا السعر المرتفع يشكل استنزافا غير مبرر للميزانية.
كما تظهر البيانات أن بعض الأدوية الموجهة لعلاج السرطان والمناعة، مثل “PERJETA “أو” KEYTRUDA”، تُباع في المغرب بأثمان تتجاوز نظيرتها في فرنسا بأكثر من 90% في بعض الأحيان، مما يؤدي إلى ارتفاع كبير في نفقات الصناديق، خاصة وأن هذه الأدوية تُستهلك بانتظام وبكميات معتبرة.
وفق نفس البيانات، كلّف تعويض دواء” PERJETA” وحده صندوق” CNOPS” أكثر من 91 مليون درهم سنة 2021، بفارق سنوي يقدر بـ21 مليون درهم عن السعر الفرنسي. وتزيد قيمة هذا الفارق عند تعميم الأثر على مجموع الساكنة لتتجاوز 211 مليون درهم.
ويظهر أن دواء “JANUMET ” استُهلك منه ما يقرب من 70 ألف علبة خلال عام واحد، مما جعل الفارق المالي الذي تحمّله الصندوق يصل إلى 12 مليون درهم سنويا، بينما يصل إلى أكثر من 125 مليون درهم عند احتساب التأثير العام على كل المواطنين.
وتصل الخسائر السنوية المقدرة نتيجة ارتفاع أسعار الأدوية في المغرب، حسب الوثيقة، إلى ما يفوق 1.14 مليار درهم، وهو رقم ضخم يمثل ضغطا مباشرا على مالية التأمين الصحي العمومي.
ورغم أن الأسعار الفرنسية نفسها مأخوذة من بيانات رسمية وقد تكون أعلى من الأسعار الحقيقية المدفوعة من طرف الدولة الفرنسية، إلا أن هذا المبلغ يبقى الحد الأدنى الممكن احتسابه كفارق سنوي.
وهو ما يدفع نحو إثارة تساؤلات حقيقية حول آليات التسعير في السوق الدوائي المغربي، ودور المختبرات، وإمكانية مراجعة السياسة الدوائية بهدف ترشيد النفقات وضمان عدالة في الولوج إلى العلاج دون تحميل ميزانية الدولة تكاليف غير مبررة.
تعرض الوثيقة المشار إليها أعلاه، لائحة بأكثر 10 أدوية تم تعويضها في المغرب من حيث الحجم خلال سنة 2021، مع التركيز على أسعارها وطبيعتها الصيدلانية. يتراوح سعر هذه الأدوية بين 6.80 و49.60 درهما، وهو ما يشير إلى أن معظم الأدوية المعوضة من طرف الصناديق العمومية للتغطية الصحية، لا تتعدى أسعارها عتبة 50 درهما.
هذا المعطى قد يبدو إيجابيا حسب الخبراء في مجال تسويق وبيع الأدوية من حيث الكلفة الفردية، لكنه يُخفي جانبا مقلقا يتعلق بعدم اللجوء إلى الأدوية الجنيسة، رغم أنها تمثل حلا استراتيجيا لتقليص نفقات التعويض والضغط على ميزانيات التأمين الصحي.
وباستقراء جميع الأدوية المذكورة في الجدول نجد أنها أدوية مسجلة “براءة اختراع” أو ما يُعرف بـ”الأدوية الأصلية” (princeps)، دون وجود أي دواء جنيس من بين العشرة، وهو مؤشر سلبي يعكس تعثر إدماج الأدوية الجنيسة في منظومة التعويض، رغم أن المغرب يتوفر على ترسانة قانونية تُشجع استعمالها. ففي غياب وجود جنيس لهذه الأدوية، تبقى كلفة التعويض أعلى من الإمكانيات المتاحة على المدى البعيد، ما يفرض ضرورة إعادة النظر في سياسات اقتناء الأدوية المعوضة أو على الأقل تشجيع المختبرات على توفير صيغ بديلة أقل كلفة بنفس الفعالية.
تنوعت مجالات استعمال هذه الأدوية ما بين علاجات السكري، ومضادات التجلط، ومضادات الالتهاب، والفيتامينات، ما يعكس طبيعة الأمراض المزمنة والشائعة في المغرب. فعلى سبيل المثال، دواء “GLUCOPHAGE” المستعمل لعلاج داء السكري، يُعد الأكثر استهلاكا، ما يعكس انتشار هذا المرض في المجتمع المغربي والحاجة الماسة إلى سياسات وقائية موازية. كما يظهر حضور دواء “SINTRON 4MG”، المضاد لتخثر الدم، والذي يستخدمه عدد كبير من المرضى خصوصا كبار السن أو المصابين بأمراض القلب والشرايين.
إن هذه الأرقام، رغم أنها لا تمثل الجانب المالي المباشر كما في الجدول السابق، إلا أنها تسلط الضوء على اتجاهات استهلاك الأدوية، وعلى العوائق البنيوية التي تواجه إصلاح المنظومة الدوائية، وخاصة ما يتعلق بمحدودية إدماج الأدوية الجنيسة، وضعف الحافز للمختبرات وللمهنيين على تشجيع وصف هذه البدائل، ما يفرض تحركا مؤسساتيا لإعادة التوازن بين الجودة والكلفة في سياسة التعويض الدوائي.
تكلفة إضافية تثقل كاهل “AMO”
بناء على تحليل دقيق للوثائق التي حصلت عليها “العمق المغربي”، يتضح أنها تقدم حجة اقتصادية متكاملة حول نفقات التأمين الصحي، مدعومة ببيانات محددة من جدول الأدوية. وتفند هذه البيانات فكرة شائعة مفادها أن خفض أسعار الأدوية الأكثر مبيعا ومنخفضة التكلفة هو السبيل لتحقيق توازن مالي في منظومة التأمين الصحي.
وتؤكد الوثائق أن هذا الطرح “مغلوط ومضلل” ، ما يعني أن العبء المالي الأكبر على أنظمة التأمين الصحي، مثل نظام التأمين الإجباري عن المرض (AMO) في المغرب، لا يأتي من الأدوية التي تباع بكميات كبيرة، بل من الأدوية المتخصصة والباهظة الثمن، حتى وإن كانت أقل حجماً من حيث المبيعات.
يقدم الجدول أمثلة حية تدعم هذه الفرضية. فمن خلال استعراض الأدوية المدرجة، نجد أدوية متخصصة مثل “Perjeta” لعلاج السرطان بسعر يصل إلى 25,900 درهم، و”Humira” المستخدم كمثبط للمناعة بسعر 6,290 درهم، و”Enbrel” بسعر 3,910 درهم.
هذه الأدوية، التي تنتمي إلى فئات علاجية معقدة مثل علاج الأورام وتعديل المناعة، تمثل تكلفة فردية هائلة على نظام التأمين. على الرغم من أن عدد المرضى الذين يحتاجونها قد يكون أقل مقارنة بالأمراض الشائعة، إلا أن التكلفة العالية للجرعة الواحدة تجعلها تشكل العبء المالي الأهم الذي يتحمله التأمين الصحي.
في المقابل، نجد دواء مثل “Janumet”، المستخدم لعلاج مرض السكري، والذي يبلغ سعره 437 درهما فقط. هذا النوع من الأدوية، التي تعالج أمراضا مزمنة وواسعة الانتشار، يباع بكميات كبيرة جدا، ولكنه يصنف ضمن “المنتجات الصغيرة” من حيث التكلفة.
وهنا تكمن النقطة المحورية في حجة المعطيات التي تقدمها البينانات المتحصل عليها، حيث إن تخفيض سعر هذا الدواء، حتى لو تم بشكل كبير، لن يحقق وفورات مالية تذكر مقارنة بالتكلفة الباهظة لجرعة واحدة من الأدوية المتخصصة المذكورة.
ويمكن من خلال معطيات الوثيقة، الوصول إلى استنتاج مفاده أن أي سياسة تهدف إلى تحقيق استدامة مالية لنظام التأمين الصحي يجب أن تركز على إدارة تكاليف الأدوية المتخصصة والباهظة الثمن، بدلا من التركيز على تخفيض أسعار الأدوية الشائعة والرخيصة. وهو ما يتطلب إعادة توجيه النقاش والسياسات الصحية نحو المصدر الحقيقي للإنفاق المرتفع، وتقدم البيانات كدليل ملموس على أن الحلول الفعالة تكمن في التعامل مع الأدوية التي تشكل العبء الأكبر، وليس الأكثر انتشارا.
وتثير بيانات الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي، (CNOPS) قضية استراتيجية وحيوية للاقتصاد الوطني والنظام الصحي في المغرب، وهي الارتفاع المستمر في واردات الأدوية والمنتجات الصيدلانية. و تشير البيانات بوضوح إلى أن هذه الواردات شهدت تطورا هائلا، حيث ارتفعت قيمتها من 5.1 مليار درهم في عام 2014 إلى 13.1 مليار درهم في عام 2021، وهو ما يمثل نموا بنسبة 175%. هذا الرقم لا يعكس مجرد زيادة عادية، بل يشير إلى تضاعف العبء المالي الذي يتحمله الاقتصاد الوطني لتلبية احتياجاته الدوائية.
عند تفحص الرسم البياني، نلاحظ أن هذا الارتفاع لم يكن مفاجئا، بل جاء نتيجة مسار تصاعدي متواصل على مدى العقد الماضي. فمنذ عام 2012، الذي سجلت فيه الواردات 4.8 مليار درهم، استمرت الأرقام في الارتفاع بشكل مطرد، لتصل إلى 6.9 مليار درهم في عام 2018، ثم 7.7 مليار درهم في عام 2020. هذا النمو المستمر يعكس تزايد الاعتماد على الأدوية المستوردة، ربما نتيجة لزيادة الطلب المحلي، أو ظهور علاجات جديدة ومبتكرة يتم استيرادها، أو توسيع منظومة التغطية الصحية التي مكنت عددا أكبر من المواطنين من الوصول إلى العلاج.ومع ذلك، فإن القفزة الأكبر والأكثر دراماتيكية حدثت في عام 2021، حيث ارتفعت قيمة الواردات إلى 13.1 مليار درهم.
تقدم الوثيقة تفسيرا جوهريا لهذه الزيادة الاستثنائية، حيث تشير إلى أن هذا الرقم يشمل النفقات المتعلقة بلقاحات كوفيد-19. هذا التوضيح بالغ الأهمية، فهو يضع الزيادة الهائلة في سياقها الصحيح، حيث إن الجائحة العالمية فرضت على المغرب، كغيره من دول العالم، تخصيص ميزانيات ضخمة لتأمين اللقاحات، مما أدى إلى تضخم فاتورة الواردات بشكل غير مسبوق في ذلك العام.
في المحصلة، تحمل هذه المعطيات تحذيرات واضحة حول ضرورة تعزيز السيادة الدوائية للمغرب. فالنمو المستمر في فاتورة الواردات، حتى قبل جائحة كوفيد-19، يشكل عبئا ماليا واقتصاديا على المدى الطويل، ويثقل كاهل ميزانية الدولة وأنظمة الحماية الاجتماعية. وبالتالي، فإن هذه الأرقام تدعو إلى التفكير في حلول استراتيجية، مثل تشجيع الصناعة الدوائية المحلية، وتوطين إنتاج الأدوية الحيوية، وتعزيز البحث والتطوير، بهدف تقليل الاعتماد على الخارج وضمان استدامة النظام الصحي الوطني.
بناءً على تحليل دقيق ومعمق للوثيقة الصادرة عن الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي (CNOPS)، يتضح أننا أمام دراسة نقدية ومفصلة تكشف عن وجود تكلفة إضافية باهظة يتحملها نظام التأمين الإجباري عن المرض (AMO) في المغرب.
تستند الوثيقة إلى منهجية تحليلية مقارنة، حيث تضع أسعار الأدوية وأسس التعويض المعتمدة في المغرب في مواجهة مباشرة مع أسعارها في دول مرجعية أوروبية، وتحديدا فرنسا وبلجيكا. الهدف الأساسي من هذه المقارنة هو تحديد الفجوة السعرية وقياس حجم العبء المالي الإضافي الذي يثقل كاهل المنظومة الصحية، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول سياسة تسعير الأدوية واستدامة نظام التأمين الصحي على المدى الطويل.
تكشف الجداول عن حقيقة مقلقة مفادها أن هذه التكلفة الإضافية ليست ظاهرة هامشية، بل هي مشكلة هيكلية ومنهجية تؤثر على مجموعة واسعة من الأدوية، سواء تلك المخصصة للأمراض النادرة والباهظة الثمن أو تلك المستخدمة لعلاج الأمراض المزمنة والشائعة.
فجوى صارخة..
على سبيل المثال، يظهر دواء “Gilenya” لعلاج التصلب اللويحي، الذي يبلغ سعره في المغرب 15,588 درهم، بينما لا يتجاوز سعره في فرنسا 13,163 درهم. هذه الفجوة، عند تطبيقها على عدد العلب التي تم استهلاكها في عام 2021، ينتج عنها تكلفة إضافية تزيد عن 3.4 مليون درهم.
مثال آخر صارخ هو دواء “Tysabri” الذي يصل سعره في المغرب إلى 18,464 درهم مقابل 14,282 درهم في فرنسا، مما يولد تكلفة إضافية تتجاوز 3.1 مليون درهم لـ 500 علبة فقط، وهو ما يبرز الأثر المالي الهائل للأدوية المتخصصة ذات التكلفة المرتفعة.
إن المشكلة لا تقتصر على الأدوية البيوتكنولوجية الحديثة فقط، بل تمتد لتشمل الأدوية ذات الاستهلاك الواسع، وهو ما يجعل الأثر المالي أكثر خطورة. دواء “Janumet” المستخدم لعلاج مرض السكري، والذي بيعت منه أكثر من 91 ألف علبة في عام 2021، يكلف في المغرب 437 درهما، بينما يبلغ سعره في فرنسا 265 درهما فقط.
هذا الفارق، الذي قد يبدو بسيطا على مستوى العلبة الواحدة، يتحول إلى تكلفة إضافية إجمالية ضخمة تتجاوز 14.5 مليون درهم بسبب حجم الاستهلاك الهائل. وبالمثل، دواء “Plavix” الذي يعالج أمراض القلب والشرايين، يظهر فجوة سعرية واضحة بين سعره في المغرب (199.4 درهم) وسعره في فرنسا (115.81 درهم)، مما نتج عنه تكلفة إضافية تقارب 5 ملايين درهم.
عند التعمق في تحليل بيانات (CNOPS) نلاحظ وجود فرق دقيق بين “السعر العمومي للبيع” (PPV) و”السعر الأساسي للتعويض” (PBR)، وهو ما يكشف عن معطيات إضافية من التحليل. في حالة دواء “Humira”، يبلغ السعر العمومي 7,763 درهما، بينما السعر المعتمد للتعويض هو 6,290 درهما.
هذا يعني أن التكلفة الإضافية المباشرة على صندوق التأمين، والمحسوبة على أساس PBR، تبلغ حوالي 3.1 مليون درهم. لكن التكلفة الإضافية على النظام الصحي ككل (بما في ذلك ما قد يتحمله المريض)، والمحسوبة على أساس PPV، تصل إلى 9.3 مليون درهم. هذه الفجوة بين “Surcoût PPV” و “Surcoût PBR” تظهر أن سياسة التسعير لا تثقل كاهل الصندوق فحسب، بل قد تضع عبئا ماليا إضافيا على المواطن المؤمن، مما يحد من قدرته على تحمل تكاليف العلاج.
في المحصلة، تقدم هذه البيانات دليلا ملموسا ومبنيا على الأرقام، مفاده أن سياسة تسعير الأدوية الحالية في المغرب تفرض على نظام التأمين الصحي تكاليف إضافية بملايين الدراهم سنويا. وهي دعوة صريحة ومباشرة من هيئة مؤمنة (CNOPS) إلى مراجعة شاملة لآليات تحديد أسعار الأدوية، وضرورة اعتماد مقارنات سعرية أكثر صرامة مع الدول المرجعية.
وتحمل هذه الوثائق في طياتها بعدا استراتيجيا يتجاوز مجرد عرض الأرقام، فهي تسلط الضوء على تحد كبير يواجه استدامة منظومة الحماية الاجتماعية، وتؤكد على أن تحقيق السيادة الدوائية والتحكم في النفقات الصحية يمر حتما عبر سياسة تسعير عادلة وشفافة تضمن حصول المواطن على الدواء بأفضل سعر ممكن، وتحافظ على التوازنات المالية للنظام الصحي الوطني.
بناء على تحليل دقيق ومعمق للبيانات التي تتضمنها الوثيقة أعلاه، يتضح أننا أمام معطيات تكشف عن وجود تكلفة إضافية باهظة يتحملها نظام التأمين الصحي في المغرب.
مقارنة تكشف الخلل
تحليل معطيات الوثيقة يضع مقارنة بين أسعار الأدوية وأسس التعويض المعتمدة في المغرب في مواجهة مباشرة مع أسعارها في دولة مرجعية هي فرنسا. الهدف الأساسي من هذه المقارنة هو تحديد الفجوة السعرية وقياس حجم العبء المالي الإضافي الذي يثقل كاهل المنظومة الصحية، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول سياسة تسعير الأدوية واستدامة نظام التأمين الصحي على المدى الطويل، خاصة في ظل تعميم التغطية الصحية الشاملة (CSU).
تكمن أهمية هذه المقارنة، في أنها لا تستند إلى عينة عشوائية من الأدوية، بل تركز على الأدوية السبعة الأكثر استنزافا لميزانية التعويضات في المغرب من حيث القيمة المالية. هذا الاختيار المنهجي يجعل نتائج التحليل أكثر خطورة وتأثيرا. تكشف البيانات أن أسعار البيع في المغرب لهذه الأدوية السبعة، التي هي جميعها مستوردة، أعلى بشكل منهجي ومنتظم من أسعارها في فرنسا، بفروقات تتراوح بين 17% و81.6%.
هذا الفارق الهائل ليس مجرد أرقام مجردة، بل هو دليل قاطع على وجود خلل هيكلي في سياسة التسعير المعتمدة. على سبيل المثال، يظهر دواء “Lantus Solostar”، المستخدم لعلاج مرض السكري، فارق سعر يصل إلى 81.6%، حيث يباع في المغرب بسعر 744 درهما مقابل 409.9 درهمًا في فرنسا. وبالمثل، دواء “Jaumet”، الذي يعالج نفس المرض، يباع بسعر أعلى بنسبة 70% في المغرب.
عند تحليل الأثر المالي لهذه الفجوة السعرية، يتضح حجم العبء الذي يتحمله النظام الصحي. فالتكلفة الإضافية المقدرة (Surcoût estimé) لهذه الأدوية السبعة وحدها تشكل نزيفا ماليا هائلا. دواء “Janumet” وحده، على سبيل المثال، يكلف النظام الصحي تكلفة إضافية تقدر بأكثر من 179 مليون درهم، بينما يكلف دواء “Recormon” لعلاج فقر الدم أكثر من 125 مليون درهم إضافية.
هذه الأرقام تبرز أن المشكلة لا تقتصر على الأدوية ذات التكلفة المرتفعة مثل “Gilenya” (تكلفة إضافية 43 مليون درهم) و”Humira” (تكلفة إضافية 37 مليون درهم)، بل تمتد لتشمل الأدوية ذات الاستهلاك الواسع، مما يضاعف من الأثر المالي السلبي على استدامة منظومة التأمين.
سيادة دوائية على المحك
غير أن النقطة الأكثر إثارة للقلق في هذه الوثيقة هي استشرافها للمستقبل. فالتحليل لا يكتفي بتشخيص الوضع الحالي، بل يقدم تحذيرا استراتيجيا واضحا بشأن تداعيات هذه السياسة السعرية في سياق تعميم التغطية الصحية الشاملة.
تشير الوثيقة إلى أن التكلفة الإضافية الإجمالية التي ستتحملها منظومة التأمين الصحي لهؤلاء الأدوية السبعة فقط ستبلغ 607.4 مليون درهم. هذا الرقم الهائل، الذي يمثل عبئا إضافيا ناتجا عن سبعة أدوية فقط، يهدد بشكل مباشر الاستدامة المالية لمشروع الحماية الاجتماعية بأكمله. إنه دليل على أن استمرار هذه السياسة السعرية سيجعل من الصعب تحقيق التوازنات المالية للنظام الصحي، وقد يؤدي إلى استنزاف موارده بشكل سريع.
في المحصلة، تقدم هذه الوثيقة حجة قوية ومبنية على الأدلة، مفادها أن سياسة تسعير الأدوية في المغرب تحتاج إلى مراجعة جذرية وعاجلة. إنها دعوة صريحة لإعادة النظر في آليات التسعير، وضرورة اعتماد مقارنات أكثر صرامة مع الأسعار الدولية، وتفعيل أدوات التفاوض لخفض تكلفة الأدوية المستوردة.
الوثيقة لا تسلط الضوء على مشكلة مالية فحسب، بل تطرح قضية سيادة دوائية وأمن صحي، وتؤكد على أن حماية المال العام وضمان استدامة ورش الحماية الاجتماعية يمر حتما عبر سياسة دوائية عادلة وشفافة تخدم مصلحة المواطن والنظام الصحي على حد سواء.
في ظل ما كشفه هذا التحقيق من فجوات صارخة في تسعير الأدوية، وتلاعبات محتملة في هوامش الأرباح، وتكاليف إضافية تثقل كاهل الدولة والمواطن، تتضح معالم إشكالية مركبة لا تقف عند حدود الاقتصاد الدوائي، بل تتجاوزها إلى سؤال سيادي: من يحكم سوق الدواء في المغرب؟
إن استمرار هذا الوضع دون تدخل حازم، سيُجهض أهداف مشروع التغطية الصحية الشاملة، ويُحول الحماية الاجتماعية من رافعة للعدالة إلى آلية لتغذية أرباح شركات دولية على حساب المال العام وصحة المواطنين.
وتُظهر الوثائق والمعطيات التي اعتمدها التحقيق أن الإصلاح ليس مستحيلا، لكنه يتطلب إرادة سياسية صلبة، وشجاعة في مواجهة لوبيات المصالح، ووضع استراتيجية دوائية وطنية تُعلي مصلحة المواطن على منطق السوق.
فبدون تسقيف الأسعار، وتعزيز إنتاج الأدوية الجنيسة، وربط التعويضات ببروتوكولات علاجية صارمة، ستظل الدولة تدفع الثمن مرتين: مرة من ميزانيتها، ومرة من صحة مواطنيها. مما يستدعي فتح الملف على وجه الاستعجال لأن الحق في الدواء ليس امتيازا، بل حق دستوري لا يقبل التسويف ولا التلاعب.
توصيات التحقيق: