على أنقاض قصر السلطان علي دينار، آخر سلاطين دارفور، تلوح اليوم أطلال مبنى كان يوماً شاهداً على سيادة إقليم كامل، قبل أن تتحوّل جدرانه إلى كتلة رماد تروي مأساة.
فقد أنهى الصراع المستمر في السودان ذاكرة دارفور وهويتها، حينما طال القصر الذي كان ينبض بالهيبة والسلطة في دارفور.
وبسبب العمليات العسكرية تحول القصر التاريخي إلى هدف مباشر للصراع بين الطرفين، بعدما كان قبل أبريل/نيسان 2023، واحداً من أهم حواضن الذاكرة التاريخية في دارفور، وعمره يتجاوز قرناً من الزمان، ويشكّل ركناً صلباً في تاريخ الإقليم بأكمله.
بدورها، أفادت مصادر موثوقة لـ"العربية/الحدث.نت"، بأن المعارك المحتدمة ألحقت أضراراً بالغة بالمتحف، مؤكدة أن جميع مقتنياته الأثرية نُهبت بالكامل.
وأشارت المصادر إلى أن السيوف التاريخية، والأوسمة والنياشين الملكية، والأواني المطلية بالذهب، اختفت تماماً، فيما تهشمت القطع الكبيرة التي استعصت على النقل، مثل الطبل النحاسي الشهير الذي كان يُقرع عند نشوب الحرب أو وقوع الأحداث الجسيمة.
كما دفعت هذه التطورات باحثين ومهتمين بالتراث والآثار في السودان إلى مطالبة الجهات المختصة بتعقّب أثر القطع المنهوبة واستعادتها، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة الوطنية.
ومع تصاعد القتال في شمال دارفور، تعرّض المتحف لقصف مباشر دمّر أجزاء واسعة من بنيته، فيما وثّقت مقاطع مصوّرة اقتحامه من قِبل عناصر مسلحة.
من جانبها، لم تُخفِ وزارة الثقافة والإعلام السودانية صدمتها، مؤكدة أن متحف علي دينار واحد من أكثر من عشرين متحفاً طالها التدمير والنهب، في اعتداء وصفته بأنه الأخطر على التراث السوداني منذ عقود.
كذلك قدّرت جهات مختصة خسارة كل مقتنيات المتحف، بعضها قطع فنية فريدة لا نظير لها في السودان.
في هذا السياق، أوضحت الدكتورة إخلاص عبداللطيف، نائبة مدير الهيئة القومية للآثار والمتاحف، لـ"العربية/الحدث.نت"، بأن السلطات لا تملك أية تقارير موثقة عن أوضاع المتحف.
ورغم الدمار الهائل، يظل اسم علي دينار محفوراً في الذاكرة السودانية، رمزاً للسيادة والكرامة قبل أكثر من قرن.
فقد كان علي دينار، المولود عام 1868، الرجل الذي وحّد دارفور بعد سنوات من الاضطراب، وأعاد بناء مؤسساتها، قبل أن يدخل التاريخ بصفته آخر السلاطين الذين واجهوا النفوذ البريطاني في المنطقة.
كما اختار خلال الحرب العالمية الأولى الانحياز للعثمانيين، فدفع حياته ثمناً لذلك في معركة عام 1916، إيذانا بضم دارفور إلى الحكم البريطاني.
وظلّ اسم السلطان علي دينار منذ ذلك الوقت رمزا للسيادة والكرامة، وظلّ قصره — حتى وقت قريب — شاهداً مادياً على تلك الحقبة.
وشُيّد القصر بين عامي 1871 و1912، بملامح معمارية تجمع بين الطراز الإسلامي والروح الأفريقية.
ومنذ تحويله إلى متحف وطني عام 1977 بقرار من الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، خضع المبنى لعمليات ترميم شاملة، حتى أدرجته اليونسكو ضمن قوائم التراث العالمي، ليصبح شاهدا على عبقرية العمارة والفن، وقيمة المكان قبل أن يطالها الصراع الدائر حاليا في السودان.
في حين لم تقتصر قيمته على ما يحتويه، بل امتدت إلى بنيته نفسها، إذ شهد الموقع عمليات ترميم شاملة عام 2021 بتمويل وإشراف وكالة "تيكا" التركية.
يذكر أنه وعلى الرغم من حجم الدمار، لا تزال أصوات الباحثين والمؤرخين تطالب بإطلاق خطة عاجلة لإنقاذ الموقع واستعادة ما تبقى من مقتنياته.
فالقصر بالنسبة لهم ليس مبنى أثريا فحسب، بل هو سجلّ لحقبة مفصلية من تاريخ السودان، ومركز لتراث طالما شكّل جزءاً من هوية دارفور الثقافية.
كما لخص أحد الباحثين المأساة بعبارة موجعة قائلاً: "قد ينهار الحجر، لكن الذاكرة لا تسقط. إنقاذ متحف علي دينار هو إنقاذ لجزء من وجدان السودانيين وهويتهم التاريخية"، قبل أن تتحول هذه الأطلال إلى ذكرى ضائعة للأجيال القادمة.
يشار إلى أن خسائر قطاع الآثار والمتاحف في السودان فادحة وغير مسبوقة، فقد دُمرت المخازن الرئيسية للمتحف القومي، وسُرقت مومياوات وتماثيل وقطع أثرية فريدة لا تُقدّر بثمن، بينما توالت الاعتداءات على المتاحف في دارفور، الخرطوم وأم درمان، حتى صارت بعض مقتنياتها تنتهي في الأسواق الدولية.
ورأت تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي أن ما حدث ليس مجرد تدمير لمبانٍ ومقتنيات، بل محاولة محو لوجدان سوداني كامل، يذكّر بأن التراث، مهما انهار الحجر، يبقى قلب الأمة النابض بالهوية والتاريخ.
المصدر:
العربيّة