آخر الأخبار

تأخر سن الزواج ـ ظاهرة تغير ملامح الأسرة التونسية

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

تأخر الزواج والتحفظ في إقامة علاقات ثابتة: أزمة تغير خصائص الأسرة التونسية.صورة من: Soumaya Marzouki

يحاول لسعد تاجر لوازم الأعراس إقناع خطيبين وهو يسوق لبضاعته داخل محله بسوق العطارين ولكن السعر لا يبدو جاذبا لهما رغم إقراره بوضع تخفيضات خاصة لموسم الزيجات.

وبينما يطوي فصل الصيف آخر أيامه تتضاءل معها الجلبة بسوق العطارين الذي بدى شبه خاويا من الزائرين إلا من السياح القاصدين الى جامع الزيتونة الشهير المحاذي للسوق.

غادر الخطيبان المحل دون أن يقتنيا أي من مستلزمات الفرح، في مشهد تكرر أكثر من مرة في اليوم نفسه. ويقول لسعد بحسرة لـDW عربية "قبل عشر سنوات كنا نبقى في العمل لفترة ما بعد المغيب. الوضع تغير كثيرا. نحن نتواجد في الصف الأول لموسم الأعراس ولذلك نحن أول من يشعر بوجود تراجع فعلي في الإقبال على الزواج".

ومع ان الضغوطات الاقتصادية التي يعشيها التونسيون بسبب الأزمة التي تضرب اقتصاد البلاد منذ نحو عقد، القت بظلالها على أولياتهم في المعيشة اليومية إلا أن بيانات المعهد الوطني للإحصاء قد تشير أيضا الى انعكاس فعلي على الارتباطات الاجتماعية بتراجع عقود الزواج سنة بعد سنة.

وفق البيانات تراجعت الزيجات إلى ما يقدر بـ30 بالمئة، حيث انخفض عدد عقود الزواج ليصل إلى 78 ألف عقد سنة 2022 بعد أن كان في حدود 110 ألف عقد سنة 2014. فما هي أسباب هذا التراجع وهل هناك حالة عزوف لدى الشباب عن الارتباطات الرسمية وما هي انعكاسات ذلك على المجتمع؟

صيف أقل صخبا

يقترن فصل الصيف في تونس بموسم حفلات الزفاف التي تزين الليالي الصيفية بالأهازيج والأنغام والزغاريد وألوان الزينة في الأحياء الشعبية والأحياء الراقية على حد سواء. لكن على مدى الأخير أصبح واضحا أن الصيف بات أقل صخبا.

إحصاءات عن الزواج ومعدلات الخصوبة في تونسصورة من: Source: National Institute of Statistics, Photographer: Soumaya Marzouki

بدأت ملامح العزوف عن الزواج تتضح يوما بعد يوم داخل المجتمع التونسي. وفق البيانات الرسمية الاجتماعية لمعهد الوطني للإحصاء، أصبح الشباب يؤجلون التخطيط للارتباط إلى سن الـ34 سنة للرجال و29 سنة للنساء، بعد أن كان متوسط سن الزواج لا يتجاوز العشرينات خلال السبعينات.

وخلال السنوات الماضية، كان يتعين على المقبلين على الزواج الحجز قبل أشهر وأحيانا سنة كاملة للظفر بموعد لإحياء حفل الزفاف داخل قاعات الاحتفال بالأعراس. وكانت محلات بيع تجهيزات العروس، لاسيما تلك الموجودة داخل الأسواق التونسية المتخصصة في بيع لوازم حفلات العرس والحناء، تكتظ طوال موسم الصيف حتى تكاد لا تجد موطئ قدم لتعبر من أمامها.

لا تشهد سوق العطارين العتيقة، وسط العاصمة تونس، الاكتظاظ ذاته اليوم. والى جانب لسعد يشكو باعة آخرين للوازم الأفراح هناك من تراجع مبيعاتهم ونقص حاد في عدد الزبائن.

ويقول لسعد الذي يزاول مهنته منذ ما يقرب من 35 عاما لـDW عربية "كل سنة أسوء من السنة التي تسبقها، نحن أكثر القطاعات تأثرا بتراجع عدد الزيجات في تونس".

ويقول بلحسن سويد بائع لوازم المناسبات والأفراح بسوق العطارين منذ 25 سنة لـDW عربية: "لو اقتصرنا على بيع مستلزمات الزفاف فإن الوضع كان سيكون كارثيا أكثر لكننا صامدون إلى اليوم لأننا نبيع البخور والعطورات والفواكه الجافة ولوازم حفلات الطهور أيضا".

ترجع المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك هذه الأزمة، إلى ارتفاع كلفة الزواج في تونس لتبلغ في المتوسط حوالي 50 ألف دينار (15 ألف يورو)، يشمل ذلك لوازم حفل الزفاف وخاتم الخطوبة وجهاز العروس وحليها وتجهيزات بيت العروسين، وهي موازنة لم تعد في متناول شريحة واسعة من التونسيين في بلد تناهز فيه بطالة الشباب 37 بالمئة مع فرص محدودة في سوق الشغل بسبب ضعف النمو.

ويقول عمار شلبي، الذي يعمل صائغا بـ"حي الخضراء" وهي منطقة شعبية بأحواز العاصمة تونس، في حديثه لـDWعربية: "كانت الشابة تشترط اقتناء الحلي بنوعيه الذهب الأصفر والأبيض، وكانت أم الزوج وأم الزوجة ترافقان أبنائهما لاختيار المصوغ. اليوم يقتصر الخطيبان على نوع واحد وأصبحنا نراهما بمفردهما ويبحثان عن الأقل سعرا مع الحفاظ على مظهر جميل للقطع".

الزواج حلم مؤجل

يعمل نصري بن بلقاسم سائق "مترو خفيف" ويملك بيتا بالطابق السفلي لبيت أهله وهو ميسور الحال لكنه مع ذلك لا يميل لفكرة الزواج حتى مع تقدمه في السن ويفضل البقاء الى رفقة والدته، وهي ما تبقى له في الحياة كما يقول.

وبمجرد سؤاله عن سبب عزوبيته إلى هذه السن رغم بلوغه عتبة الـ45 عاما رد قائلا لـDW عربية "وما الذي سأجنيه من الزواج غير المشاكل ووجع الرأس".

يستعرض الأربعيني الأعزب قصة خطوبته الفاشلة: "لقد كنا نتخاصم حتى على قلة اتصالي بها. ثم تحول الأمر شيئا فشيئا لضغط شديد طوال الوقت. لست أول من فسخ ارتباطه، شقيقي بدوره انفصل عن زوجته الفرنسية مؤخرا".

يخشى نصري الفشل ويشعر أن الأمر لا يستحق المجازفة بحريته وأكد أن اقتصار الطريق منذ فترة الخطوبة ساعده على تفادي ما قد ينجر عنه الطلاق من مصاريف وأعباء.

وتعد تونس من بين الدول التي تشهد ارتفاعا ملحوظا في أحكام الطلاق التي زادت من 13 ألف حالة في 2013، إلى 14 ألف حالة، سنة 2022، وفق ما توفر من بيانات لوزارة العدل التونسية.

كثيرون مثل نصري قد يؤجلون خطوة الزواج خوفا من الفشل و"تقييد الاستقلالية والحرية الشخصية"، وفق تعبير الباحث في علم الاجتماع، فؤاد الغربالي، في حديثه لـDWعربية.

ويفسر الباحث أن التأخر في سن الزواج هو انعكاس لتغيرات اجتماعية وتحولات قيمية تسببت في تراجع مؤسسة الزواج وظهور الفردانية. وهذا يعني أن الشباب اليوم يريدون أن يعيشوا فردانيتهم بكل حرية بعيدا عن ضغط المؤسسات وخاصة مؤسسة الزواج.

ومع مسارات متقطعة بين إتمام الدراسة والبطالة والبحث عن عمل، يجد الشاب نفسه في علاقة غامضة مع مستقبل مجهول وغير آمن. ونتيجة لكل ذلك في تقدير الباحث، خلق الشاب التونسي لنفسه أطرا أخرى أكثر مرونة وتحررا خارج أطر الزواج مثل المساكنة وأصبحت العلاقة مع الجنس الآخر أكثر سهولة وتحررا.

لكن الأمر يبدو أقل مرونة داخل الجهات والمحافظات العميقة في تونس، حيث تتميز هذه المناطق بعلاقات محافظة أكثر وتساهم الأسر في التجهيز للزواج وتنفق أموالا باهضة في حفلات الأعراس. مع ذلك يتأخر الشباب في هذه المناطق في الارتباط وأصبح أغلبهم يفضلون الهجرة أو الانتقال إلى العاصمة.

"أعمل في خياطة الثياب وحياكة الزرابي ولست بحاجة لمن يعيلني ماديا كل ما أرجوه من الزواج أن أصبحا أما يوما ما"، عبرت صابرين ذات الـ37 عاما من مكثر من محافظة سليانة شمال غربي تونس، عن مخاوفها من تأخرها في الزواج وما قد ينجر عنه من حرمان من الإنجاب.

تونس العاصمة، بلحسن سويد: تاجر يبيع مستلزمات الزفاف في سوق العطارينصورة من: Soumaya Marzouki

وأضافت صابرين لـDW عربية: "سافر العديد من قريتي إلى أوروبا وكل أقاربي متزوجون وأنا اليوم أعيش بمفردي مع والدي نشرف على قطيع من المواشي وببعض أشجار الزيتون".

مجتمع بملامح متغيرة

تراجع عدد الزيجات من أكثر من 110 ألف زيجة سنة 2014 إلى 78 ألف زيجة سنة 2021 أثر بشكل مباشر على تركيبة المجتمع التونسي الذي صار ينحو نحو التهرم. ويظهر ذلك في تراجع مؤشر الخصوبة لدى المرأة التونسية من 6 أبناء خلال منتصف سبعينات القرن الماضي إلى أقل من طفلين حاليا وتراجع عدد الولادات من 225 ألف ولادة سنة 2014 إلى 147 ألفا سنة 2022، وفق المعهد الوطني للإحصاء.

وبالنتيجة تراجع حجم الأسرة التونسية بشكل ملحوظ من 5 أفراد في منتصف تسعينات القرن الماضي إلى 8ر3 فرد فقط في 2024.

تساهم كل هذه العوامل، مع تنامي معدلات الهجرة في تراجع الفئة النشيطة للسكان التي تتراوح أعمارها بين 15 و60 سنة، وهو ما قد يزيد العبء على الاقتصاد ومدخرات البلاد.

وعلى الرغم من ذلك، لم تكشف الدولة عن استراتيجية وطنية لمكافحة ظاهرة تأخر الزواج أو إيجاد حلول فعالة مثل وضع برامج دعم للشباب اقتصاديا واجتماعيا لتسهيل الزواج، مثل مساعدات أو قروض ميسرة للسكن أو حملات توعية لتعزيز ثقافة الزواج دون إسراف في الإنفاق.

وبين أحلام الشباب وقيود الواقع، يظل الزواج في تونس تحديًا متناميًا. فهل ستجد الدولة حلولا عميقة وعاجلة لإعادة توازن العلاقة بين الشباب والزواج؟

DW المصدر: DW
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار