انطلقت الحملة الوطنية لتطعيم الحيوانات ضد داء الكلب في تونس في الأول من سبتمبر الجاري. فما دور حملات التلقيح في حصر العدوى وما الذي يفسر تصاعد وتيرة الاعتداءات الوحشية ضد الحيوانات ؟ وما هي الحلول الممكنة لحماية الحيوان في تونس؟
على مدى أيام فقط نجح كلب الشوارع "روكي" بفروه البني في أن يستقطب انتباه التونسيين على مواقع السوشيال ميديا ويتصدر محرك البحث على الإنترنت، بينما كان يرقد بين حياة وموت.
تعرض "روكي" إلى اعتداء وحشي استخدم فيه الرجل المعتدي مسحة حديدية لينهال على الكلب بالضرب المتكرر على الرأس ما تسبب له في كسور في الجمجمة. وثق أحد المارة الاعتداء بهاتفه في مقطع فيديو لينتشر مثل النار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي، ويشعل موجة سخط وتعاطف واسعة مع "روكي".
وعلى الرغم من محاولات الإسعاف العاجلة للكلب إلا انه أصيب بشلل كامل ثم فارق الحياة، ليترك خلفه الكثير من الأسئلة والنقاش بشأن وضع الحيوانات السائبة في تونس وطريقة تعاطي السلطات معها.
لكن الشرطة وفي خطوة نادرة اعتقلت الرجل المعتدي بعد حملات ضغط قادها نشطاء مدافعون عن حقوق الحيوانات ليتم إيداعه السجن.
تونس سيدي ثابت، مأوى للقطط والكلاب الضالة صورة من: Soumaya Marzouki/DWلكن الإيقاف لم يحد من النزيف. ومأساة "روكي" لم تكن حالة معزولة فقد وقف التونسيون مشدوهين أمام حادثة أخرى مروعة في نفس الفترة، عندما ظهرت مشاهد لامرأة بصدد حرق قطط وسط كومة من النفايات، واختتم شريط الأحداث برقصة فتاتين على جسم حصان جريح في مقطع فيديو بأحد الأعراس سرعان ما تحول الى ترند.
أوقفت الشرطة المرأة المعتدية على القطط بينما حركت "جمعية رحمة للرفق بالحيوان " دعاوى قضائية ضد جميع المعتدين، بما في ذلك المعتدي على الكلب "روكي". وقد حوكم بالسجن لثلاثة أشهر.
أعادت هذه الحوادث تسليط الضوء على سوء معاملة الحيوانات وسط تساؤل عن جدوى القوانين الحالية في ملاحقة الجناة ومعاقبتهم.
لكن مع ذلك، يندد شق كبير من التونسيين بارتفاع أعداد الحيوانات السائبة ولا سيما الكلاب، داخل مناطق العمران وتكرر الهجمات على السكان على اختلاف أعمارهم وسط خوف كبير من انتشار عدوى داء الكلب بنسب أكبر.
بلغ عدد الوفيات لدى الإنسان جراء داء الكلب، في تونس عام 2024 عشر حالات، فيما تضاعف عدد الأشخاص الذين تلقوا علاجا وقائيا من 55 ألفا عام 2023 إلى أكثر من 100 ألف في 2024، وفق وزارة الصحة. وتشير المعطيات إلى أن 31% من الإصابات ناتجة عن هجمات كلاب سائبة.
يأتي ارتفاع عدد حالات العدوى، في الوقت الذي التزمت فيه تونس، سنة 2019، بتوقيع اتفاقية مع الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية تقضي بالوصول إلى "صفر وفيات بشرية بداء الكلب المنقول من الكلاب" بحلول 2030.
لكن الفشل في محاصرة العدوى وعدم نجاعة حملات التعقيم والإخصاء دفعا البلديات الى التجاء الى أسهل الطرق بالضغط على الزناد في حملات قنص ليلية بالرصاص. وعلى سبيل المثال، نشرت بلدية الزهراء في الضاحية الجنوبية للعاصمة، بلاغا للسكان تخطرهم بالشروع في حملة قنص بالليل، على امتداد شهر أيلول/سبتمبر.
وترى "جمعية أصدقاء الحيوان والبيئة" في بيان تنديد لها، أن سياسة القنص العشوائي للحيوانات في تونس، المعتمدة منذ عقود، لم تحقق أي نتائج إيجابية. وأشارت إلى أن هذه السياسة قد أثبتت فشلها في الحد من أعداد الحيوانات السائبة، وتسببت في معاناة قاسية لها، إضافة إلى خلل في التوازن البيئي.
تونس سيدي ثابت، مأوى للقطط والكلاب الضالة صورة من: Soumaya Marzouki/DWوتستنكر الطبيبة البيطرية ألفة عبيد في حديثها مع DWعربية حملات القنص مشيرة إلى أن "الهدف من إجراء القنص هو القضاء على المرض عند اكتشاف بؤر عدوى مؤكدة". وأضافت: "كثير من هذه العمليات تترك خلفها الكلاب تتألم وهي تسبح في دمائها في مشهد صادم وفظيع".
"تمثل الحيوانات الأليفة مرآة للعلاقات الاجتماعية بين الإنسان ومحيطه، وتعكس القيم والممارسات الأخلاقية في المجتمع"، هكذا عرف الباحث في علم الاجتماع، ممدوح عز الدين علاقة الإنسان بالحيوان لـDWعربية.
ويفسر الباحث أن الاعتداء على الحيوانات غالبا ما يكون مرآة لأزمات نفسية أو اجتماعية لدى الفرد، حيث "تشير الأبحاث النفسية إلى أن الانخراط في العنف ضد الحيوانات يرتبط بارتفاع مستويات العنف الأسري أو الاجتماعي، ويشكل مؤشرا على الفشل في إدماج القيم الأخلاقية داخل الأسرة والمجتمع".
وتؤكد الطبيبة ألفة عبيد نفس المقاربة بقولها: "ما الفرق بين شخص يعتدي بعصا على كلب وبين موظف بلدي يقنصه أمام أعين الجميع، العنف ذاته في الحالتين".
وتغيب برامج التوعية حول حقوق الحيوانات بشكل واضح في المناهج التعليمية ووسائل الإعلام التي تركز أكثر على ومضات إرشادية عن كيفية التعامل عند التعرض لهجمات الحيوانات والخطوات الواجب اتخاذها لتفادي العدوى.
كما أن بعض الموروثات الثقافية قد تُشجع على التعامل المادي مع الحيوان بدل التعامل الإنساني، خاصة في الأحياء الشعبية حيث تعاني الأسر من قلة الموارد، ويُنظر إلى الحيوانات الأليفة كتكلفة إضافية، مما يدفع إلى التخلص الوحشي منها أو سوء معاملتها، وفق الباحث ممدوح عزالدين.
على عكس ما يعتقده الكثيرون، تملك تونس قوانين ردعية لمرتكبي الاعتداءات ضد الحيوانات منذ فترة ما قبل الاستقلال، لكن الإشكال يكمن في تكييف القضاء للأفعال المرتكبة وما يلائمها من عقوبات، وفق اجتهادهم.
فمنذ 15 كانون الأول/ديسمبر عام 1896، أصدر باي تونس أمرا يقضي بمعاقبة من يقتل أو يعذب الحيوانات. القانون ينص على عقوبات بالسجن تتراوح من عام إلى خمسة أعوام وغرامات مالية، كما يفرض عقوبات أشد في حال تكرار الفعل أو الإساءة للحيوان علناً
لكن على أرض الواقع، يتم الالتفاف على العقوبات بتكييف الاعتداء على الحيوان في الغالب كمخالفة لا كجناية، ويطبق الفصل 317 من المجلة الجزائية الذي لا يتجاوز عقابه السجن 15 يوما. في المقابل، إذا اعتبرت المحكمة أن الحيوان ملكية خاصة، يمكن تطبيق الفصلين 304 و305 من المجلة الجزائية الذين يفرضان عقوبات مشددة بالسجن والخطايا المالية، خاصة إذا كان الضرر جسيما. لكن صياغة الفصلين جاءت فضفاضة ما يجعلها قابلة للتكييف أيضا.
ولتفادي هذا التباين، طرح نواب في البرلمان التونسي عام 2024، مقترحا من أجل حماية الحيوانات السائبة ومنع القتل بالرصاص أو تعريضها للإيذاء والتعذيب.
ويقترح القانون عقوبة بالسجن تتراوح بين عام وثلاثة أعوام مع خطية مالية تقدر بـ 600 يورو ضد كل من يتعمد الاعتداء على حيوان "إذا أفضى الاعتداء إلى عاهة مستديمة"، ويكون العقاب مدة خمسة سنوات في حال أدى الاعتداء إلى الموت.
تونس سيدي ثابت، مأوى للقطط والكلاب الضالة صورة من: Soumaya Marzouki/DW"علينا اليوم أن نعترف أن تزايد أعداد الكلاب السائبة في الشارع يمثل خطرا صحيا وبيئيا وسببا في انتشار الأمراض"، هكذا لخصت الطبيبة البيطرية ألفة عبيد لـDW عربية، خطورة الوضع في تونس. وأشارت إلى أن التخلي عن الكلاب بعد تربيتها هو السبب الرئيسي في تكاثر الحيوانات السائبة.
ويقترح الباحث ممدوح عز الدين في حديثه مع DW عربية، بعض الحلول لحماية الحيوانات الأليفة والحد من الاعتداءات، مثل التوعية المجتمعية وإدماج حقوق الحيوان ضمن المناهج التعليمية وإدراج حملات إعلامية مستمرة عبر التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز قيم الرحمة والمسؤولية، مع تدريب أفراد المجتمع على التعامل الإنساني مع الحيوانات.
كما تشدد "جمعية الزهراء لمحبي الحيوانات" على أن الرصاص ليس حلا. ودعت بدل ذلك إلى إنشاء مراكز للتلقيح والتعقيم و سنّ قانون وطني يمنع القنص العشوائي وإطلاق برامج توعية وتبني والتعاون مع منظمات محلية ودولية، وفق بيان لها.
تسعى تونس، كل سنة إلى مقاومة انتشار داء الكلب عبر حملة وطنية مجانية وإجبارية وتشرف مجموعة من المراكز المنتشرة في البلاد على تعقيم الكلاب للحد من تكاثرها وتعتمد البلديات، في كثير من الأحيان، على عمليات القنص لنفس الأغراض. ويؤدي هذا الى الإبقاء على معضلة الكلاب السائبة في حلقة دائرية.
وتفسر الطبيبة ألفة عبيد، أن تونس قامت بتجهيز مراكز كثيرة لتطعيم الكلاب وتعقيمها ولكن رغم ذلك ومع استمرار عمليات القنص على امتداد 45 سنة، لايزال الوضع يراوح مكانه، حيث فشلت السلطات في الحد من العدوى ومن تزايد أعداد الكلاب السائبة.
وتقول الطبيبة لـDW عربية "الحيوان لا يبادر بمهاجمة الإنسان بشكل مجاني إلا في حال الشعور بالخطر أو التهديد، وعلينا أن نفهم أنه حيوان تائه يبحث عن الأمان والطعام ورفقة الإنسان الذي يحترم حقوقه ويلبي حاجياته".
لكن وفي ظل غياب الوعي المواطني والافتقاد الى الردع القانوني الكافي للجناة، لا تزال السلطات تبحث عن استراتيجية مناسبة تجمع بين الحفاظ على صحة الإنسان وحماية الكائنات الحية بما في ذلك الكلاب السائبة.