يقدم هذا التقرير تحليلاً استراتيجياً معمقاً للسياسة المصرية تجاه السودان، متجاوزاً التفسيرات التقليدية القائمة على ردود الفعل تجاه الأزمات. يطرح التقرير فرضية مركزية مفادها أن القاهرة لا تسعى ببساطة إلى تحقيق الاستقرار على حدودها الجنوبية، بل إنها مدفوعة بحتمية استراتيجية تهدف إلى الإبقاء على السودان في حالة من التبعية والضعف الهيكلي. إن الهدف المصري النهائي ليس سوداناً مستقراً، بل سوداناً خاضعاً، غير قادر على تحدي الهيمنة الإقليمية المصرية، لا سيما في ملف مياه النيل الحيوي.

يُظهر التحليل أن النموذج الذي مثله رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك – قائد مدني يتمتع بشرعية شعبية، وعلاقات مباشرة وقوية مع القوى الغربية، ورؤية للسيادة الاقتصادية – يمثل التهديد الأكبر للمصالح الاستراتيجية المصرية. لقد كانت نجاحات حمدوك في إعادة دمج السودان في المجتمع الدولي وتطلعاته لتحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، لا إخفاقاته، هي التي عجلت في تقويضه من قبل القاهرة وحلفائها الإقليميين والمحليين. لقد فضلت مصر باستمرار التعامل مع المؤسسة العسكرية السودانية، التي تعتبرها شريكاً أكثر موثوقية وقابلية للتوجيه، لضمان مصالحها الأساسية.

ويوسع التقرير نطاق التحليل ليشمل الديناميكيات الإقليمية الأوسع، حيث أصبح السودان مسرحاً لصراع بالوكالة بين محورين متنافسين: المحور المصري-الإماراتي-السعودي الذي يسعى للحفاظ على الوضع الراهن السلطوي، والمحور التركي-القطري الذي دعم تاريخياً جماعات الإسلام السياسي لتحدي هذا الوضع. كما يوضح التقرير الدور الجزائري، الذي غالباً ما يتم تجاهله، حيث ينبع دعمها للمؤسسة العسكرية من عقيدة أمنية راسخة تفضل استقرار الدولة على أي مشروع ثوري، وهي عقيدة تشكلت بفعل صدمة الحرب الأهلية في التسعينيات. ويضيف التقارب السوداني- الإيراني الأخير طبقة أخرى من التعقيد، حيث يسعى الجيش السوداني للحصول على دعم عسكري حاسم، مما يثير قلق القوى الغربية والإقليمية ويدفع الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات مستهدفة.

ويخلص التقرير إلى أن الحرب الحالية في السودان ليست مجرد نتيجة لانهيار داخلي، بل هي أيضاً تتويج لسنوات من التدخلات الخارجية التي أدت إلى تفاقم الانقسامات السودانية. لقد حوّلت هذه التدخلات المنافسة السياسية الداخلية إلى صراع صفري، حيث قدمت الجهات الفاعلة الإقليمية الدعم لفصائل مختلفة، مما أزال أي حافز للتسوية. إن مستقبل السودان يعتمد ليس فقط على التوصل إلى تسوية داخلية، ولكن أيضاً على إعادة تشكيل الإطار الإقليمي بطريقة تحترم سيادة السودان و تلبي في الوقت نفسه المخاوف الأمنية المشروعة لجيرانه. إن السيناريوهات المستقبلية تتراوح بين التفتت طويل الأمد على الطراز الليبي، أو انتصار باهظ الثمن للمؤسسة العسكرية يحول السودان إلى محمية مصرية بحكم الأمر الواقع، أو المسار الأصعب والأقل احتمالاً نحو استعادة السيادة المدنية.

الجزء الأول: رقعة الشطرنج الإقليمية: الأجندات المتنافسة في القرن الأفريقي

إن فهم الصراع السوداني باعتباره مجرد حرب أهلية داخلية هو فهم قاصر بشكل خطير. ففي الواقع، السودان اليوم هو الساحة الرئيسية التي تتجلى فيها صراعات القوة الإقليمية المتعددة والمتداخلة. إن انهيار الدولة السودانية لم يحدث في فراغ، بل كان نتيجة مباشرة لتقاطع الأجندات المتنافسة للقوى الإقليمية التي رأت في هشاشة السودان فرصة لتعزيز نفوذها وتحقيق أهدافها الاستراتيجية. يستعرض هذا الجزء اللاعبين الرئيسيين ودوافعهم، ويضع إطاراً لفهم كيف أصبحت الديناميكيات الداخلية في السودان رهينة لحسابات القوى الخارجية.

القسم 1: محور القاهرة-الخرطوم: تاريخ من الاعتماد المتبادل غير المتكافئ

إن السياسة المصرية تجاه السودان ليست مجرد رد فعل على الأحداث الجارية، بل هي امتداد لعقيدة استراتيجية متجذرة في التاريخ والجغرافيا، تم تحديثها لمواجهة تهديدات القرن الحادي والعشرين. جوهر هذه العقيدة هو أن وجود سودان قوي ومستقل وذو سيادة كاملة يمثل خطراً غير مقبول على الأمن القومي المصري.

النيل كمبدأ منظم لفن الحكم

يشكل نهر النيل حجر الزاوية ليس فقط في الاقتصاد المصري بل في صميم الهوية الوطنية والعقيدة الأمنية للدولة. 1 إن أي حكومة في الخرطوم يمكن أن تهدد التدفق المستمر للنيل، سواء من خلال مشاريع مائية كبرى أو عبر تحالفات سياسية معادية، تعتبر تهديداً وجودياً من منظور القاهرة. هذا الواقع يفسر بشكل قاطع التفضيل المصري التاريخي والمستمر للشركاء العسكريين في السودان على الحكومات المدنية التي لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها. فالعسكريون، بحكم طبيعة العلاقات المؤسسية والتدريب المشترك، يُنظر إليهم على أنهم أكثر قابلية لاستيعاب “الخطوط الحمراء” المصرية.

السوابق التاريخية: من “وحدة وادي النيل” إلى التبعية الاستراتيجية

يعود مفهوم “وحدة وادي النيل” إلى حقبة ما بعد الاستعمار، حيث سعت مصر إلى السيطرة المباشرة على السودان أو على الأقل ضمان أن تكون حكومته تابعة لمصالح القاهرة. 2 وعلى الرغم من أن هذا المفهوم قد تطور، إلا أن جوهره المتمثل في الهيمنة لا يزال قائماً، وإن بأشكال مختلفة. إن الدعم المصري المستمر للقوات المسلحة السودانية وقائدها عبد الفتاح البرهان ليس استثناءً، بل هو استمرار لسياسة تاريخية طويلة من دعم الرجال الأقوياء، مثل جعفر النميري وعمر البشير (عندما كان ذلك مناسباً)، الذين يُنظر إليهم على أنهم الضامنون الأكثر موثوقية للمصالح المصرية الأساسية.

إن الهدف المصري ليس مجرد تأمين حقوق المياه بموجب الاتفاقيات القائمة؛ بل هو منع السودان من الوصول إلى القدرة الاستراتيجية التي تمكنه من التفاوض على هذه الحقوق على قدم المساواة. فالسودان القوي والموحد سياسياً والمستقر اقتصادياً سيتمتع بنفوذ هائل في أي مفاوضات مستقبلية بشأن مياه النيل، خاصة فيما يتعلق بمشاريع مثل سد النهضة الإثيوبي الكبير، حيث يعتبر موقف السودان محورياً. 3 من خلال ضمان بقاء السودان مجزأً سياسياً، ومعتمداً اقتصادياً على مصر، ومعتمداً دبلوماسياً على وساطة القاهرة، تقوم مصر بتحييد نفوذ السودان المحتمل بشكل استباقي. وبالتالي، فإن دعم فصيل عسكري (القوات المسلحة السودانية) يتماشى مع مصالح القاهرة على حساب حكومة مدنية تسعى إلى سياسة خارجية مستقلة هو استراتيجية محسوبة للحفاظ على الهيمنة المائية على المدى الطويل. الهدف هو السيطرة على المفاوِض، وليس فقط على المفاوضات.

عقيدة السيسي والخوف من العدوى الديمقراطية

تتشكل السياسة الخارجية المصرية الحالية بشكل كبير من خلال الأيديولوجية السياسية للنظام الحاكم، الذي نشأ من رحم إطاحة حكم الإخوان المسلمين. إن نجاح انتقال ديمقراطي حقيقي في دولة عربية مجاورة بحجم وتأثير السودان من شأنه أن يقدم رواية مضادة خطيرة للنموذج السياسي المصري. 5 هذا الخوف من “العدوى الديمقراطية” يفسر التقويض المنهجي الذي مارسته القاهرة ضد الحكومة الانتقالية ذات القيادة المدنية في السودان بعد ثورة 2019. فمن منظور القاهرة، الاستقرار الذي يوفره نظام عسكري حليف، حتى لو كان قمعياً، هو أفضل من عدم اليقين الذي يصاحب الديمقراطية، خاصة إذا كانت هذه الديمقراطية قد تفتح الباب أمام عودة تيارات الإسلام السياسي التي تعتبرها مصر تهديداً وجودياً. 6

القسم 2: المتنافسون الجدد: رؤى تركيا وقطر ودول الخليج المتضاربة

لم يكن الصراع في السودان مجرد شأن مصري، بل سرعان ما تحول إلى ساحة تنافس للقوى الإقليمية الصاعدة التي تتحدى النظام الإقليمي التقليدي الذي تقوده مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. لقد رأت تركيا وقطر في التحولات التي شهدها السودان فرصة لتعزيز نفوذهما، مما وضعهما في مسار تصادمي مباشر مع محور “الثورة المضادة”.

المحور الأيديولوجي: تركيا وقطر ودعم الإسلام السياسي

تاريخياً، استخدمت تركيا وقطر دعم الجماعات التابعة للإخوان المسلمين كأداة رئيسية في سياستهما الخارجية. في السودان، تُرجم هذا إلى علاقات قوية مع نظام عمر البشير واستمرار الدعم للفصائل الإسلامية داخل المشهد السياسي بعد عام 2019. 7 هذا التوافق الأيديولوجي يضعهما في مواجهة مباشرة مع مصر والإمارات، اللتين تصنفان جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية وتهديد وجودي لأمنهما القومي. 9

الطموحات الجيوستراتيجية والاقتصادية

يتجاوز التنافس البعد الأيديولوجي ليشمل مصالح القوة الصعبة. فالصفقة التركية المثيرة للجدل لإدارة جزيرة سواكن على البحر الأحمر لم تكن مجرد مشروع اقتصادي، بل كانت تحدياً مباشراً لهيمنة مصر والمملكة العربية السعودية على هذا الممر الملاحي الحيوي. 10 وبالمثل، يمكن قراءة الاستثمارات القطرية الكبيرة في السودان كأدوات لتأمين النفوذ والتأثير على القرارات السيادية في الخرطوم. 11

الإمارات والسعودية: الثورة المضادة واحتواء قوات الدعم السريع

على الرغم من تحالفهما الوثيق مع مصر، إلا أن أدوار الإمارات والسعودية في السودان تحمل خصوصيتها. كان هدفهما الأساسي هو منع تكرار سيناريوهات “الربيع العربي” ودعم محور “الثورة المضادة” لمنع صعود الإسلام السياسي أو قيام أنظمة ديمقراطية حقيقية. 12 ومع ذلك، ظهرت اختلافات دقيقة في التكتيكات، أبرزها الدعم الإماراتي الكبير لقوات الدعم السريع، وهو ما وضع أبوظبي في بعض الأحيان على خلاف مع تفضيل مصر للمؤسسة العسكرية التقليدية (القوات المسلحة السودانية). 14 هذا يكشف عن وجود تباين في الأدوات والوكلاء المفضلين، حتى لو كان الهدف الاستراتيجي النهائي (منع قيام ديمقراطية بقيادة مدنية) مشتركاً.

يعمل الصراع في السودان كـ “صمام أمان” للتوترات الإقليمية. فبدلاً من الدخول في مواجهة مباشرة ومكلفة بين الدول، يمكن لمحور مصر/الإمارات ومحور تركيا/قطر خوض حرب بالوكالة لاختبار قوة بعضهما البعض وعزيمتهما ونفوذهما دون المخاطرة بتصعيد مباشر. إن الدول الفاشلة أو الهشة ذات الانقسامات الداخلية، مثل السودان (وليبيا وسوريا واليمن)، توفر ساحة منخفضة التكلفة وعالية التأثير لهذه المنافسة. من خلال دعم الفصائل المتعارضة في السودان – مصر تدعم القوات المسلحة السودانية، وتركيا وقطر تدعمان بقايا الإسلاميين، والإمارات تدعم قوات الدعم السريع – يمكن لهذه القوى تعزيز مصالحها، وإضعاف وكلاء خصومها، وتأسيس موطئ قدم استراتيجي (مثل جزيرة سواكن) بجزء بسيط من تكلفة الحرب المباشرة. وهكذا، فإن الشعب السوداني هو الذي يتحمل تكلفة هذا الاستعراض للقوة الإقليمية.

القسم 3: الحسابات الاستراتيجية للجزائر وإيران: لاعبون جدد بدوافع قديمة

الجزائر: أولوية الدولة

غالباً ما يتم التغاضي عن دور الجزائر في الأزمة السودانية، إلا أن موقفها يكشف عن تيار فكري مهم في السياسة الشمال أفريقية. إن دعم الجزائر للموقف المصري ليس نابعاً من تحالف رسمي، بل من تقارب في العقيدة الأمنية التي تشكلت بفعل تجارب تاريخية مؤلمة. 18 تتأثر السياسة الخارجية الجزائرية بشكل عميق بالحرب الأهلية الدامية التي شهدتها في التسعينيات، والمعروفة بـ “العشرية السوداء”. لقد غرست هذه التجربة في مؤسستها العسكرية والسياسية إيماناً راسخاً بضرورة وجود جيش وطني قوي ومركزي باعتباره الحصن الوحيد ضد الفوضى وسيطرة الجماعات الإسلامية المتطرفة. 24 من هذا المنظور، فإن أي سيناريو يؤدي إلى تفكك الجيش الوطني في بلد مثل السودان هو وصفة لكارثة.

إيران: العودة الاستراتيجية إلى البحر الأحمر

شهدت الحرب الحالية عودة النفوذ الإيراني إلى السودان بعد قطيعة دامت سبع سنوات. 28 ففي مواجهة العزلة الدولية ونقص الإمدادات، لجأ نظام البرهان إلى طهران للحصول على دعم عسكري حاسم، وتحديداً الطائرات المسيرة المتطورة مثل “مهاجر-6″ و”أبابيل”. 31 وقد أثبت هذا الدعم فعاليته في تغيير موازين القوى على الأرض، مما سمح للجيش باستعادة زمام المبادرة في مناطق رئيسية حول الخرطوم. 37

بالنسبة لإيران، يمثل هذا التقارب فرصة استراتيجية ذهبية. فالسودان يوفر لها موطئ قدم حيوي على البحر الأحمر، مما يعزز نفوذها في أحد أهم الممرات الملاحية في العالم ويشكل ورقة ضغط إضافية ضد خصومها الإقليميين. 38 وقد أثار هذا التقارب قلق الولايات المتحدة، التي ردت بفرض عقوبات على شخصيات وكيانات سودانية لتورطها في تسهيل هذا التعاون، مثل وزير المالية جبريل إبراهيم وكتيبة البراء بن مالك الإسلامية. 39

الجدول 1: تحليل مقارن لأهداف الجهات الفاعلة الإقليمية وأدوات نفوذها في السودانالدولة الفاعلةمصرالإمارات العربية المتحدةالمملكة العربية السعوديةتركياقطرالجزائرإيران

الجزء الثاني: تفكيك الفرضية: تفضيل مصر لسودانٍ مُضعَف

يشكل هذا الجزء جوهر التقرير التحليلي، حيث يتناول بشكل مباشر الفرضية المركزية للمستخدم ويقدم أدلة شاملة لدعمها. يجادل هذا الجزء بأن سياسة مصر لا تهدف إلى تحقيق الاستقرار في السودان بقدر ما تهدف إلى ضمان بقائه في حالة تبعية، وأن ظهور قائد سوداني مستقل وشعبي ومدعوم دولياً هو التهديد الأكبر الذي تسعى القاهرة إلى تحييده.

القسم 4: “معضلة حمدوك”: الخوف من سودان ذي سيادة وشعبية ومتحالف مع الغرب

يمكن استخدام فترة تولي رئيس الوزراء عبد الله حمدوك كدراسة حالة لإثبات أن نجاحاته، وليس إخفاقاته، هي التي جعلت منه تهديداً للمصالح الاستراتيجية المصرية. لم يكن حمدوك خطراً لأنه كان ضعيفاً، بل لأنه كان يمثل مساراً بديلاً ناجحاً كان من شأنه أن يحرر السودان من دائرة النفوذ المصرية.

مصدر القوة الأول: الشرعية الشعبية

لم يكن حمدوك نتاجاً للحرس القديم؛ لقد استمد سلطته من الشارع والثورة الشعبية. 45 هذا جعله أقل عرضة لأدوات التأثير التقليدية التي استخدمتها القاهرة مع الحكام العسكريين السابقين. فالقائد الذي يكون مسؤولاً أمام شعبه يكون أقل ميلاً للتنازل عن المصالح الوطنية لصالح قوة أجنبية.

مصدر القوة الثاني: إعادة الانخراط مع الغرب والاستقلال الدبلوماسي

كان جزء أساسي من أجندة حمدوك هو إخراج السودان من عزلته الدولية. كانت نجاحات حكومته في رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وتأمين إعفاء الديون، وإعادة التعامل مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إنجازات هائلة. لقد هدد هذا بشكل مباشر دور مصر كوسيط وبوابة للسودان إلى المجتمع الدولي. فالسودان الذي لديه خطوط اتصال مباشرة خاصة به مع واشنطن ولندن وبروكسل لم يعد بحاجة إلى القاهرة.

مصدر القوة الثالث: رؤية للسيادة الاقتصادية

قدم حمدوك وحكومته المدنية رؤية واضحة لتحويل اقتصاد السودان من دولة ريعية تعتمد على استخراج الموارد إلى دولة منتجة تركز على الزراعة والصناعات ذات القيمة المضافة. 50 وكما أشار المستخدم بشكل صحيح، فإن رؤية الاكتفاء الذاتي هذه كانت تشكل تهديداً استراتيجياً طويل الأمد لمصر، التي تستفيد من سودان تابع اقتصادياً (كما سيتم تفصيله في القسم 7).

الرد المصري: تقويض المشروع المدني

يمكن تتبع الإجراءات المحددة التي اتخذتها مصر لتعزيز المكون العسكري في الحكومة الانتقالية على حساب حكومة حمدوك المدنية. وشمل ذلك عقد اجتماعات رفيعة المستوى حصراً مع القادة العسكريين، وتوفير غطاء دبلوماسي لاستيلاء الجيش على السلطة، والترويج لرواية مفادها أن الجيش وحده القادر على توفير الاستقرار. 52 يمكن تحليل انقلاب عام 2021، الذي أطاح بحمدوك مؤقتاً، على أنه تتويج لهذه الاستراتيجية، التي حظيت بدعم ضمني (إن لم يكن نشطاً) من القاهرة.

تكشف “معضلة حمدوك” أن أكبر مخاوف مصر ليست سوداناً غير مستقر، بل سوداناً ناجحاً في التحول . يمكن إدارة الفوضى واحتواؤها، لكن نجاح السودان وتحوله إلى دولة ديمقراطية ومزدهرة من شأنه أن يغير بشكل جذري ودائم ميزان القوى الإقليمي، مما يقلل من مكانة مصر ونفوذها. إن مكانة مصر الإقليمية مبنية جزئياً على كونها القوة العربية التي لا غنى عنها في المنطقة – الثقل الدبلوماسي والمرتكز العسكري. إن بعث السودان من جديد – بسكانه وموارده وموقعه الاستراتيجي وشرعيته الديمقراطية – من شأنه أن يجعله منافساً طبيعياً على القيادة الإقليمية. لقد قدمت إصلاحات حمدوك الناجحة خريطة طريق ذات مصداقية لهذا البعث. إن وجود سودان ممزق وممزق بالحرب، على الرغم من مأساويته، يمثل مشكلة يمكن التحكم فيها بالنسبة للقاهرة. فهو يتطلب الاحتواء والوساطة، مما يعزز دور مصر كوسيط قوة إقليمي. أما السودان الناجح، فلن يحتاج إلى وسيط. لذلك، من منظور الواقعية السياسية البحتة، فإن الفشل المُدار في السودان أفضل من النجاح المدوي. كان تقويض حمدوك ضرورة استراتيجية لمنع ظهور منافس ند على حدود مصر الجنوبية. 9

القسم 5: ترسيخ التبعية: تحليل للأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية المصرية

إذا كان القسم السابق قد شرح “لماذا” فضلت مصر تقويض المشروع المدني في السودان، فإن هذا القسم يشرح “كيف” تم ذلك، من خلال تفصيل الأدوات المحددة التي تستخدمها القاهرة لفرض التبعية.

الاستقطاب الدبلوماسي

لعبت مصر دوراً محورياً في جهود الوساطة الإقليمية، سواء في الاتحاد الأفريقي أو منظمة إيغاد. ويظهر التحليل أن القاهرة كانت توجه هذه العمليات باستمرار نحو نتائج تمنح الأفضلية للقوات المسلحة السودانية وتضفي الشرعية على السلطة العسكرية، غالباً على حساب الجماعات المدنية والمؤيدة للديمقراطية. 55 من خلال تقديم نفسها على أنها الوسيط الذي لا غنى عنه، تمكنت مصر من تشكيل نتائج المفاوضات بما يتماشى مع مصالحها الاستراتيجية.

التشابك العسكري-العسكري

تعتبر العلاقات المؤسسية العميقة بين القوات المسلحة المصرية والقوات المسلحة السودانية أداة تأثير أساسية. تشمل هذه العلاقات التدريبات العسكرية المشتركة (“حماة النيل”)، واتفاقيات تبادل المعلومات الاستخباراتية، وبرامج التدريب التي تخلق علاقة رعاية وتبعية. 57 هذا يضمن أن قيادة القوات المسلحة السودانية ترى أن مصالحها تتماشى مع مصالح القاهرة، وليس بالضرورة مع حكومتها المدنية.

فن الحكم الاقتصادي والإكراه

يتمحور فحص العلاقة الاقتصادية حول كيفية هيكلتها للحفاظ على التبعية. ويشمل ذلك استثمارات مصر الكبيرة في الزراعة السودانية، والتي يمكن قراءتها ليس كمساعدة، بل كوسيلة لتأمين إمداداتها الغذائية الخاصة مع السيطرة على أثمن أصول السودان. 58 كما يعزز تحليل التدفقات التجارية ومشاريع البنية التحتية محور التبعية بين الشمال والجنوب، حيث يظل السودان مصدراً للمواد الخام وسوقاً للمنتجات المصرية المصنعة. 2

الجزء الثالث: الديناميكيات الداخلية والمسارات المستقبلية

لا يمكن إلقاء اللوم في مأساة السودان على العوامل الخارجية وحدها. لقد استغلت القوى الإقليمية الانقسامات والهشاشة الهيكلية الموجودة بالفعل داخل الدولة السودانية. يحلل هذا الجزء العوامل الداخلية التي جعلت البلاد عرضة للضغوط الخارجية التي تم تفصيلها في الجزأين الأول والثاني، ويوضح كيف تفاعلت الديناميكيات المحلية مع الأجندات الإقليمية لتؤدي إلى الانهيار الكامل.

القسم 6: الدولة الممزقة: الانقسام العسكري-المدني في السودان وقابليته للتأثير الخارجي

كانت الفترة الانتقالية في السودان، التي بدأت بعد ثورة 2019، تحمل في طياتها بذور فنائها. لقد أدت التناقضات الهيكلية والانقسامات العميقة إلى خلق بيئة مثالية للتدخل الخارجي، مما حول عملية التحول الديمقراطي الهشة إلى صراع على السلطة والنفوذ.

الخطيئة الأصلية للمرحلة الانتقالية

كان اتفاق تقاسم السلطة لعام 2019، على الرغم من كونه ضرورة عملية في ذلك الوقت، قد أنشأ دولة مختلة وظيفياً بمركزين متنافسين للسلطة: حكومة مدنية تتمتع بشرعية شعبية ولكنها تفتقر إلى القوة العسكرية، ومجلس سيادة عسكري يمتلك القوة العسكرية ولكنه يفتقر إلى الشرعية الكاملة. 46 كان هذا الضعف الهيكلي المتأصل هو نقطة الدخول الرئيسية للتلاعب الأجنبي.

حرب مزايدة على الرعاية

سعى كل من المكونين المدني والعسكري بنشاط إلى الحصول على دعم خارجي لكسب ميزة على الآخر. نظر المدنيون إلى الغرب والمؤسسات الدولية للحصول على الدعم المالي والدبلوماسي، بينما لجأ العسكريون إلى الأنظمة السلطوية الإقليمية مثل مصر والإمارات للحصول على الدعم السياسي والأمني. وقد خلق هذا “سوقاً للنفوذ”، استغلته القوى الإقليمية بلهفة، حيث قدم كل طرف دعمه للفصيل الذي يخدم مصالحه بشكل أفضل. 60

“الدولة العميقة” لـ “الكيزان”

لا يمكن إغفال التأثير المستمر لبقايا نظام البشير الإسلامي (المعروفين بـ “الكيزان”). لقد أدى تغلغلهم في الخدمة المدنية والأجهزة الأمنية، وتحالفهم المصلحي مع عناصر من القوات المسلحة السودانية، إلى خلق قوة تخريب داخلية قوية مكرسة لتقويض التحول الديمقراطي. وقد تمكنت الجهات الفاعلة الخارجية، مثل مصر، من الاستفادة من هذه “الدولة العميقة” لزيادة تقويض الحكومة المدنية.

التنافس بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع

يمكن تأطير الانفجار النهائي للصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع على أنه الانهيار النهائي للمؤسسة العسكرية التي سعت القوى الأجنبية إلى استخدامها. إن التنافس بين الجيش وقوات الدعم السريع، الذي تغذيه المصالح الاقتصادية المتنافسة والداعمون الخارجيون (مصر للقوات المسلحة السودانية، والإمارات لقوات الدعم السريع)، قد التهم الدولة نفسها في نهاية المطاف. 61

لم تخلق الجهات الفاعلة الخارجية الانقسامات الداخلية في السودان، لكن تدخلاتها عملت كـ “مُسرِّع”، حيث حولت المنافسة السياسية إلى صراع صفري. لقد صبوا الوقود فعلياً على نار مشتعلة من خلال توفير الموارد والشرعية والحوافز للجهات الفاعلة الداخلية للتخلي عن التسوية لصالح المواجهة. كانت المرحلة الانتقالية بعد عام 2019 في السودان هشة بطبيعتها بسبب انعدام الثقة العميق بين الفاعلين المدنيين والعسكريين. كان المسار نحو التسوية وبناء الثقة ممكناً، لكنه كان يتطلب وقتاً ونهجاً دولياً موحداً وبناءً. بدلاً من ذلك، قدمت الجهات الفاعلة الإقليمية رعاية متنافسة. قالت مصر للقوات المسلحة السودانية: “لا تحتاجون إلى التسوية مع المدنيين؛ سندعمكم”. وقال الغرب للمدنيين: “ندعم تطلعاتكم الديمقراطية”. وقالت الإمارات لقوات الدعم السريع: “يمكنكم أن تكونوا صانعي الملوك” (وهو ما يعنيه دعمهم). أدى هذا الدعم الخارجي إلى إزالة الحوافز للتسوية الداخلية. شعر كل فصيل سوداني أن لديه راعياً قوياً سيدعم موقفه المتطرف. وهكذا، حول التدخل الأجنبي مفاوضات سياسية صعبة إلى صراع بالوكالة مستعصٍ على الحل، مما أدى مباشرة إلى انقلاب 2021 وحرب 2023.

القسم 7: السيادة الاقتصادية كسلاح جيوسياسي: المواد الخام والزراعة والطريق إلى الاستقلال

إن الإمكانات الاقتصادية الهائلة للسودان هي على وجه التحديد السبب الذي يجعل جيرانه لديهم مصلحة في استمرار اختلاله الوظيفي. إن سوداناً مستقلاً اقتصادياً ومزدهراً لن يكون مجرد قصة نجاح، بل سيصبح منافساً اقتصادياً وجيوسياسياً، وهو ما تسعى القوى المهيمنة في المنطقة إلى تجنبه.

لعنة الإمكانات: ثروة السودان غير المستغلة

يمتلك السودان موارد هائلة وغير مستغلة إلى حد كبير: ملايين الهكتارات من الأراضي الصالحة للزراعة (إمكانات “سلة الغذاء”)، وقطعان ضخمة من الماشية، واحتياطيات كبيرة من الذهب، واحتكارات الصمغ العربي، والنفط. 50 إن إدارة هذه الموارد بشكل سيادي وفعال من شأنها أن تمنح السودان استقلالاً اقتصادياً هائلاً.

رؤية حمدوك مرة أخرى

يرتبط هذا القسم بالقسم الرابع، حيث يوضح بالتفصيل كيف أن حكومة تركز على تطوير هذه الموارد لصالح الشعب السوداني – من خلال الاستثمار في التصنيع، وتقنيات الزراعة الحديثة، وإدارة الموارد الشفافة – من شأنها أن تغير المشهد الاقتصادي الإقليمي بشكل جذري.

النموذج الاقتصادي للمهيمن: الاستخراج والتبعية

تتناقض رؤية السيادة هذه مع الواقع الحالي الذي يفيد الجهات الفاعلة الخارجية. إن استحواذ مصر على الأراضي السودانية هو من أجل أمنها الغذائي الخاص، وليس من أجل تنمية السودان. 59 ومصلحة الإمارات في الذهب والموانئ هي مصلحة استخراجية. 64 يضمن الصراع الحالي أن يظل السودان مصدراً للمواد الخام الرخيصة لجيرانه، بدلاً من أن يكون منافساً. فالسودان المستقر الذي يتمتع بحكم رشيد سيقوم بتصنيع جلوده وطحن دقيقه وتكرير ذهبه، محتفظاً بالقيمة التي يتم سحبها حالياً من قبل الآخرين.

يمكن تحليل الصراع في السودان على أنه شكل عنيف من “ تجريد الأصول” على مستوى الدولة. من خلال تعزيز عدم الاستقرار، تضمن الجهات الفاعلة الخارجية والداخلية إمكانية الاستحواذ على ثروة السودان الهائلة بثمن بخس ودون العقبات التنظيمية أو متطلبات تقاسم الإيرادات التي تفرضها حكومة قوية وذات سيادة. يمتلك السودان أصولاً ضخمة وقيمة في الأراضي والمعادن والثروة الحيوانية. ستقوم حكومة مستقرة وفاعلة بتنظيم بيع واستغلال هذه الأصول لتعظيم المنفعة الوطنية (على سبيل المثال، من خلال الضرائب والقوانين البيئية ومتطلبات المحتوى المحلي). وهذا من شأنه أن يجعلها أكثر تكلفة للجهات الفاعلة الأجنبية. تخلق حالة الفوضى و الحرب الأهلية فراغاً في السلطة حيث يسيطر القادة العسكريون وأمراء الحرب على هذه الأصول. هؤلاء الفاعلون في حاجة ماسة إلى المال والأسلحة. و هم على استعداد لمقايضة الأصول الوطنية طويلة الأجل بالبقاء العسكري والسياسي قصير الأجل. لذلك، يمكن للقوى الإقليمية الحصول على موارد قيمة – أراضٍ لمصر، و ذهب للإمارات – بجزء بسيط من قيمتها السوقية من خلال التعامل مباشرة مع هؤلاء الفاعلين من غير الدول أو شبه الدول، متجاوزين الدولة نفسها. تصبح الحرب، بالنسبة للبعض، نموذج عمل تجاري.

الجزء الرابع: التوليف والنظرة الاستراتيجية

القسم 8: خاتمة: سيناريوهات لمستقبل السيادة السودانية والاستقرار الإقليمي

يقدم هذا القسم الختامي توليفاً لجميع التحليلات السابقة لتقديم تقييم استشرافي. لقد تم تفكيك الديناميكيات المعقدة التي تشكل الأزمة السودانية، وكشف التقاطع بين الهشاشة الداخلية والطموحات الإقليمية.

تأكيد الفرضية المركزية

يخلص التقرير إلى أن الأدلة تدعم بقوة الفرضية الأولية للمستخدم. إن الموقف الاستراتيجي لمصر موجه بشكل أساسي لمنع ظهور سودان ذي سيادة وشعبية وقادر على البقاء اقتصادياً. إن “ معضلة حمدوك” حقيقية: فالدولة السودانية الناجحة تشكل تهديداً طويل الأمد للهيمنة المصرية أكبر من الدولة الفاشلة. إن الإجراءات التي اتخذتها القاهرة لتقويض الحكومة المدنية ودعم المكون العسكري لم تكن تهدف إلى تحقيق الاستقرار، بل إلى الحفاظ على التبعية.

التفاعل بين العوامل الداخلية والخارجية

يقدم التقرير ملخصاً لكيفية استغلال الهشاشة الداخلية للسودان بشكل منهجي من قبل الأجندات الإقليمية المتنافسة، مما أدى إلى انهيار الدولة. لم تكن القوى الخارجية هي التي خلقت الانقسامات في السودان، لكنها عملت كمُسرِّع، حيث حولت المنافسة السياسية إلى حرب بالوكالة. لقد أدى توفير الدعم المالي والعسكري والدبلوماسي للفصائل المتناحرة إلى إزالة أي حافز للتسوية الداخلية، مما جعل الصراع أمراً لا مفر منه.

سيناريوهات مستقبلية

* سيناريو “ليبيا”: التجزئة المطولة: يتفكك السودان إلى إقطاعيات تسيطر عليها فصائل متحاربة، كل منها مدعوم من رعاة إقليميين مختلفين. يصبح هذا صراعاً دائماً ومنخفض الحدة يخدم المصالح الاستخراجية للجيران ولكنه يخلق عدم استقرار إقليمي هائل، وموجات من اللاجئين، وأرضاً خصبة للجماعات المتطرفة. 69
* السيناريو “المصري”: انتصار باهظ الثمن للقوات المسلحة السودانية: تتمكن القوات المسلحة السودانية، بدعم مصري وإيراني كبير، من حسم الحرب في نهاية المطاف، لكنها تحكم بلداً مدمراً وفقيراً ومستاءً. يصبح السودان محمية مصرية بحكم الأمر الواقع، يعتمد بشكل كامل على القاهرة، ولكنه غير مستقر داخلياً وعرضة لتمردات مستقبلية. 69
* سيناريو “السيادة”: مسار طويل ومؤلم نحو الحكم المدني: يؤدي الجمود العسكري، إلى جانب ضغط دولي هائل وحركة صمود مدنية شعبية، إلى فرض تسوية سياسية جديدة. هذا هو السيناريو الأقل احتمالاً ولكنه الأكثر أملاً، ويتطلب تحولاً جوهرياً في الحسابات الاستراتيجية للقوى الإقليمية، حيث تدرك أن مصالحها على المدى الطويل تخدمها بشكل أفضل سودان مستقر، وليس فاشلاً.

التقييم الاستراتيجي النهائي

ينتهي التقرير بتقييم رفيع المستوى للآثار المترتبة على السياسة الإقليمية والدولية. ويجادل بأن أي سلام مستدام في السودان لا يتطلب تسوية داخلية فحسب، بل يتطلب أيضاً إطاراً إقليمياً جديداً يعالج المخاوف الأمنية المشروعة للجيران مثل مصر مع حماية حق السودان الأساسي في السيادة. يجب على المجتمع الدولي أن يدرك أن التعامل مع الأزمة السودانية يتطلب ممارسة ضغط منسق ليس فقط على الأطراف المتحاربة، ولكن أيضاً على رعاتهم الإقليميين الذين يغذون الصراع. إن الفشل في القيام بذلك لن يؤدي إلا إلى إدامة دورة العنف وتأجيل، وليس حل، السؤال الأساسي حول مكانة السودان في المنطقة.