من كل حدب وصوب يتوافد مشجعو المنتخبات المشاركة في نهائيات كأس إفريقيا للأمم لكرة القدم، المقامة بالمغرب، على المدينة العتيقة بالرباط، التي أضحت المقصد النابض الذي يقتفون من خلاله أثر التراث وعراقة التاريخ والثقافة في تجلياتها الماثلة، ولعيش تجربة فريدة تمزج بين حماس التشجيع ومتعة الاستكشاف.
هنا حيث لا يتوقف الزمن لا ينفك يتقاطر سيل المشجعين، يتعالى حماسهم وهتافهم، إذ تآلفت قلوبهم على عشق كرة القدم، ووجدوا في المدينة العتيقة ملاذا لاستجلاء قصص التاريخ ومد جسور التعارف، وتعزيز الروابط مع أمم وشعوب القارة الإفريقية.
ومع هطول الغيث وتلبد السماء بالغيوم تحولت برودة المكان إلى دفء يسري بين أزقة المدينة العتيقة، حيث تنبعث روائح التوابل والخشب والجلد والأطباق المغربية الشهية لتملأ المكان عبقا وتفيض بالتراث، وينغمس المشجعون في رحلة تأخذهم بين ثنايا صفحات كتاب تاريخ مفتوح، تحيلهم على ذاكرة حية زاخرة بالحكايات والأحداث.
وفي كل دروب المدينة العتيقة، التي تتشابك أوصالها، تجسد كل زاوية قصة وحكاية تراث مغربي أصيل، حيث تعلو القبب الخشبية منقوشة الأسقف، ويزين الزليج المغربي السقاية البديعة، كلها تفاصيل تجسد أصالة المعمار وبراعة الصانع التقليدي المغربي. ويتوسط “الكراب” بتقاسيم وجهه البشوشة وقبعته المتميزة، حاملا قربته الجلدية وأكوابه النحاسية، الأزقة لاستقبال المشجعين ويروي العطشى منهم بماء عذب.
وغير بعيد بمحاذاة الأسوار تؤثث المنسوجات التقليدية والزرابي والحلي وأعلام البلدان بألوانها الزاهية والقمصان الرياضية الدكاكين، وهي معروضات ليست مجرد تذكار يقتنيه الزوار، بل قصة تجربة حية يخطون فصولها.
يغتنم الشابان محمد عبد الله وأحمد عثمان، وهما سودانيان قدما من المملكة العربية السعودية، خصيصا لمؤازرة “صقور الجديان”، الفرصة لاستكشاف المغرب وثقافته، حيث آثرا الإقامة مع أسرة مغربية بين جدران رياض تقليدي داخل قصبة الأوداية، حتى يعيشا تجربة ذات أبعاد ثقافية وإنسانية ووجدانية، مبديين إعجابهما بالمطبخ المغربي، ولا سيما بعد تذوق فطور الصباح.
ويحكي المشجعان كيف قادتهما رحلتهما إلى استكشاف تفاصيل الحضارة المغربية وهما يتجولان في معالم مدينة الأنوار ويصولان وسط أزقة المدينة العتيقة، حيث لاحظا تنوع الجنسيات والأعراق التي تتقاطر على “السويقة” لزيارتها؛ فهنا التقيا بالمشجعين من دول إفريقية وأوروبية ومن الشرق الأوسط، ما أضفى على أجواء البطولة طابعا عالميا وثقافيا متنوعا.
أما سالو ديالو، الشاب القادم من السنغال، فحل قاصدا مدينة طنجة التي تستقبل مباريات “أسود التيرانغا”، لكنه توقف بالمدينة العتيقة ليستكشف تاريخ العاصمة، وقد أبهره التنوع وألق المعمار المغربي.
يتحدث ديالو في تصريح مماثل، بإعجاب، عن قدرة المغرب على جمع أمم إفريقيا عبر كرة القدم، بفضل البنية التحتية التي تسمح باستقبال هذا العدد الكبير من الناس، مشيرا إلى أنه حرص خلال سفره على التعرف على الشعب المغربي وعلى باقي شعوب إفريقيا الحاضرة في البطولة؛ كما يخطط لتذوق أطباق من المطبخ المغربي الذي سمع عنه الكثير، واقتناء تذكارات ثقافية على أمل العودة مجددا لزيارة المملكة.
أما حليم، الذي قدم برفقة صديقيه من فرنسا وكندا، لتشجيع المنتخب الجزائري “ثعالب الصحراء”، فليس حديث عهد بزيارة الرباط، فقد خبر المدينة العتيقة جيدا، وأبرز أنه يستمتع بتجربة التجول فيها واكتشاف الثقافة والأسواق التقليدية، وبساطة السكان وكرم الضيافة.
وأكد المتحدث حرصه المتجدد على اقتناء هدايا تذكارية ذات طابع ثقافي لأفراد عائلته ليحمل معه عبق المكان، معتبرا أن كل زيارة للمدينة العتيقة تتحول بالنسبة له إلى تجربة تجسد لحظة احتفالية ثقافية من خلال لقائه بجنسيات أخرى.
ومن تونس اعتبر إبراهيم أن قدومه من فرنسا لمؤازرة “نسور قرطاج” يعد تجربة سفر مميزة بالنسبة له، ولا سيما أنه يزور المغرب لأول مرة، مبرزا أنه بحث عن طريق الأنترنيت عن أبرز المعالم والأماكن والأسواق التاريخية التي تنبغي زيارتها ليتمكن من تنظيم جولاته في المدينة العتيقة بالرباط ومراكش قبل أن يعرج على فاس التي لا يريد أن يهدر فرصة التجول في أزقتها الأسطورية.
وأبرز إبراهيم أن كأس إفريقيا للأمم المقامة بالمغرب شكلت فرصة سانحة له لاستكشاف الثقافات والصناعة التقليدية وتجربة المطبخ المحلي، مشيرا إلى أن أكثر ما استرعى انتباهه وهو يتجول بين معالم مدينة الأنوار هو النظافة وتحديث البنية التحتية.
ولا يقتصر تهافت المشجعين نحو المدينة العتيقة على الأجانب، فقد شكلت بطولة إفريقيا للأمم فرصة سانحة لعدد من المغاربة المقيمين بالخارج لشد الرحال إلى العاصمة لتشجيع “أسود الأطلس”، وتجديد العهد مع الثقافة المغربية؛ فقد قدمت رفيقة، وهي مغربية مقيمة بفرنسا، برفقة طفليها أدم وعادل، لدعم المنتخب الوطني.
تلاحظ رفيقة بسعادة وفخر أن المدينة القديمة بالرباط، على غرار باقي المدن التاريخية بالمغرب، مازالت محافظة على طابعها الأصيل، إذ تمثل قلب الهوية المغربية، مؤكدة أنه لا يوجد ما هو أكثر أصالة من هذه الفضاءات الثقافية، سواء في الرباط أو مراكش أو مكناس أو فاس.
وأكدت المتحدثة أهمية صون هذا التراث الغني، مشيرة إلى أنها كمغربية مغتربة لا تفوت أي فرصة للانغماس في الثقافة والروائح والعطور والألوان وتفحص تعابير الوجوه والابتسامات التي تعلو محيى الناس، حيث تضفي هذه التفاصيل على الفضاءات التاريخية خصوصية تجربة فريدة لا مثيل لها.
مع تنظيم هذه النسخة من كأس إفريقيا للأمم في المغرب تتجاوز فلسفة كرة القدم حدود الملعب لتصبح جسرا ثقافيا تنساب فيه مشاعر المشجعين، شعوبا وأمما إفريقية، لتنصهر في بوتقة واحدة تنتصر لشغف المستديرة.
المصدر:
هسبريس