بينما تتجه أنظار القارة السمراء والعالم نحو الملاعب المغربية يبرز “الكان” كحدثٍ يتجاوز في جوهره حدود المستطيل الأخضر، فالبوصلة هنا لا تشير فقط إلى التنافس الرياضي، بل نحو إستراتيجية كبرى لصناعة الصورة الذهنية للمملكة. لقد تحولت الملاعب، بضجيج جماهيرها وزخم أضوائها، إلى “سفارات مفتوحة” وفضاءات رحبة لتسويق “العلامة التجارية للمغرب” على الصعيدين الإقليمي والدولي، في تكريسٍ جلي لسطوة الرياضة كأداة ضاربة ضمن مفهوم “القوة الناعمة”.
والمغرب يحتضن هذا العرس القاري، تبدو المملكة عازمة على تحويل البطولة إلى “رافعة جيوسياسية” و”واجهة تسويقية” تعيد تعريف مكانة البلاد القارية؛ فالرهان المغربي لم يعد محصوراً في الظفر باللقب الكروي فحسب، بل يمتد لبناء “سمعة دولية” استثنائية تستثمر بذكاء في إرث “ملحمة قطر 2022”.
وبين أرقامٍ تكشف عن طفرة سياحية مرتقبة تكسر ركود المواسم “الفارغة”، وبين ملايين العمليات الرقمية التي جعلت من “المغرب” كلمة السر الأكثر بحثاً عالمياً، تتجلى ملامح رؤية إستراتيجية بعيدة المدى، تزاوج بين “دبلوماسية الملاعب” وتعزيز الجاذبية الاقتصادية والثقافية، لتجعل من كل صافرة حكمٍ خطوةً إضافية نحو ترسيخ مغرب الحداثة والريادة في الأذهان.
في هذا الإطار قال منتصر حمادة، الباحث في مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث، إن “الرياضة ليست مجرد رياضة، على الأقل ابتداء من النصف الثاني من القرن الماضي، فالأحرى ما نعاينه في السنوات الماضية، وفي الحالة المغربية”، وتابع ضمن تصريح لهسبريس: “عندما فاز الثنائي سعيد عويطة ونوال المتوكل في دورة لوس أنجلس، تخصص ألعاب القوى، صرّح الملك الحسن الثاني بعبارة دالة في سياقنا هذا، على الأقل في السياق الذي يُزكّي عدم اختزال هذه الأحداث في شأن رياضي صرف، ومما جاء في التصريح ما مفاده أن نسبة من الرأي العام الأمريكي لم تكن تعرف أين يوجد المغرب، ولا توجد لديها معرفة عن ثقافته وهويته وقضاياه”.
وأردف حمادة: “أما تبعات الإنجازات التي حققها المنتخب المغربي لكرة القدم في نهائيات كاس العالم بقطر (نوفمبر 2022) فقد وصلت إلى القطاع السياحي، حتى إنه أعلن رسميا أنه بعد سنة بالضبط من المونديال ارتفعت نسبة السياح بـ33 في المائة، كما أعلن رسميا أيضا في منتصف شهر يوليوز الماضي أنّه لأول مرة تتفوّق السياحة المغربية على نظيرتها المصرية من حيث عدد السياح”.
وواصل الباحث ذاته: “هذه بعض التطبيقات العملية لتأثير القوة الناعمة في الشق الاقتصادي، وتحديدا في الشق السياحي، موازاة مع قطاعات أخرى، إضافة إلى تبعات في الحقول السياسية والجيوسياسية والثقافية وغيرها؛ وبالنتيجة ثمة عوائد مادية ورمزية لهذا الاستثمار المغربي في حقل الرياضة، من خلال الرياضة الأكثر شعبية في العالم، التي تساهم في ترويج صورة المغرب إقليميا وعالميا”.
ويوضح المتحدث نفسه أن “هناك رهانات جيوسياسية كبيرة، فبحكم الأزمات التي تمر منها العديد من الدول العربية منذ عقد ونيف على الأقل فإن صناع القرار يبحثون عن أي منفذ من شأنه المساهمة في تجاوزها، أو على الأقل مواجهة آثارها الآنية والمفتوحة؛ فيما يتضح أنه في الشق الرياضي، الكروي الصرف، حقق المغرب قفزات نوعية مقارنة مع باقي دول المنطقة”.
من جانبه قال الزوبير بوحوت، الخبير في المجال السياحي، إن هذا الزخم الذي تعرفه البلاد اليوم “يعيد إلى الأذهان ما شهدناه خلال تجربة قطر”، موردا ضمن تصريح لهسبريس أنه “لا ينبغي أن ننسى أن كرة القدم، بما تجذبه من جماهير واسعة، أصبحت عنصرًا أساسيًا في الترويج للمغرب؛ فالأرقام المسجلة بعد المشاركة في مونديال قطر بينت استفادة البلاد من إشعاع وسمعة دولية كبيرة”.
وتابع بوحوت: “للتذكير فقد سُجلت في قطر خلال شهر واحد فقط حوالي 13 مليون عملية بحث على محرك ‘غوغل’ حول المغرب، في حين أن عدد عمليات البحث السنوي عن اسم المغرب كان لا يتجاوز، في المعدل، 500 ألف، وهو رقم دال على قوة التأثير”.
وحسب الخبير ذاته “تكتسي مسألة التنظيم أهمية خاصة لأنها تأتي في فترة لا تُعد موسمًا سياحيًا قويًا، كما هو الحال في شهور يوليوز أو غشت أو أكتوبر، أو حتى أبريل خلال فصل الربيع، التي تعوض مرحلة يكون فيها النشاط السياحي ضعيفًا نسبيًا”.
كما قال المتحدث نفسه إنه “من المنتظر أن تكون أعداد الوافدين كبيرة، بالنظر إلى حضور مواطني دول إفريقية وازنة”، مشيرا إلى أن “الدول الكبرى، مثل مصر ونيجيريا، التي يفوق عدد سكانها 100 مليون نسمة، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، إلى جانب مجموعة من الدول التي يتجاوز عدد سكانها 30 و40 مليون نسمة، تجعل التوقعات تشير، في الحد الأدنى، إلى استقبال ما لا يقل عن 700 ألف وافد، مع إمكانية بلوغ مليون وافد، وهو ما سيوفر مداخيل مالية مهمة”.
وتابع بوحوت: “تكمن الأهمية أيضًا في البعد الإستراتيجي للقطاع السياحي، إذ إن حصة الدول الإفريقية من السياحة الوافدة على المغرب لم تكن تتجاوز حوالي 2.5 في المائة، مقابل أكثر من 75 في المائة من الدول الأوروبية، فيما تتوزع النسب المتبقية بين الشرق الأوسط، وأمريكا الشمالية والجنوبية، وآسيا”، مردفا: “تشكل هذه التظاهرة فرصة حقيقية للترويج للمغرب داخل القارة الإفريقية، خاصة مع حضور 23 دولة، من بينها دول تتوفر على دخل مهم”.
وخلص الخبير ذاته إلى أن “الانضباط الجماهيري، وروح التعاون التي أبداها المغاربة، سواء من طرف المهنيين أو من خلال سلوك المواطنين، كما توثقها الصور ومقاطع الفيديو المتداولة، مما يروج أيضا لصور المغرب”، مفيدا بأن “الانبهار الذي تبديه وفود عدد من الدول الإفريقية، وهي توثق زيارتها إلى المغرب، يشكل إشعاعًا إضافيًا للبلاد”.
وذكر المتحدث نفسه بأنه “لا ينبغي أن ننسى أن هذه التظاهرة تمثل محطة اختبار مهمة للعرس الكروي الأكبر، المتمثل في تنظيم كأس العالم 2030؛ لذلك فإن منافع كأس الأمم الإفريقية تظل كبيرة بالنسبة للمغرب، مع الأمل في أن يستمر هذا الزخم الإيجابي”.
المصدر:
هسبريس