أكد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أن الحديث عن الثوابت الدينية اليوم لم يعد مجرد “رد فعل في وقت غير ذي خطورة”، بل أصبح اجتهادا حقيقيا لمواصلة تحديات العصر، مضيفا أن هذا الاجتهاد يتطلب الصبر والمثابرة “صابر قابض على الجمر”، خصوصا في وقت ساء فيه استعمال الحرية، مشددا خلال كلمته في ندوة نظمها اليوم الأحد، المجلس العلمي الأعلى حول المذهب المالكي في ظل تطورات المجتمع المغربي، على أن هناك “أشخاصا يدل تصرفهم على العداء المبدئي الصارخ للحرية”، مؤكدا أنهم “ليس لهم ولا لأمثالهم أي نصيب في إقامة صحة هذه الحرية”.
وأشار التوفيق إلى أن حاجة الأمة اليوم للإمام مالك تتجاوز الجانب العلمي المعروف لتصبح “حاجة خلقية وسياسية”، موضحا أن هذه الحاجة كانت محل إدراك لدى الشيخ عبد الواحد بن العاشر منذ أكثر من أربعة قرون، حين بدأ منظومته بقوله: “وبعد فالعون من الله المجيد في نظم أبيات للؤمية تفيد بعقد الأشهري وفقه مالك وفي التصوف الجليل الصادق”.
ولفت الوزير إلى أن أهمية الإمام مالك تكمن في “باب التعريف به من جهة ما يهمنا في حياة ديننا، وما يهددنا في حال من الجهل والغلو والانتحال”، مشيرا إلى أن الإمام نقل “فقه العبادات بالسند”، وأن الاقتداء بهذا النقل يمثل اليوم حماية ليقين عامة المتدينين، والذين تقع العهدة على العلماء في حمايتهم، مؤكداً أن “هذه الحماية من مسؤولية العلماء المؤتمنين”.
وحذر وزير الأوقاف من مخاطر ضعف احترام التعدد في اجتهادات الفقهاء، لا سيما في الجزئيات التي قد تثير الفتنة، مشيرا إلى وجود “أطراف تتشوق إلى الخوض السياسي من خلال التشويش المذهبي”، مضيفا أن الإمام مالك قدم “اختيارات في فقه المعاملات”، وقد بذل تلاميذه على مر العصور جهودا كبيرة لخدمة مذهبه في هذا المجال، وأسّس بذلك ركنا أساسيا في تعليم الكتاب والحكمة عبر الفقه المالكي وقواعده ونوازله واجتهاداته.
وأبرز الوزير الأوجه التي تجعل الإمام مالك “سابقا لوقته”، فكان أولا إماما سابقا في التصنيف، إذ أسهم في مرحلة القراءة بعد القرآن الكريم في زمن طغى فيه النقل الشفوي للعلم، وثانيا في تبسيط علم الدين لفائدة العموم، كما يستشف من تسمية كتابه “الموطأ”. أما ثالثا، فكان سابقا لوقته في اعتماد المعاينة والممارسة العملية للجمهور كمرجع، مستفيداً من عمل أهل المدينة كأصحاب السيرة العملية للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما يقدره المختصون في مناهج العلوم الإنسانية اليوم.
رابعا، كان الإمام سابقاً لوقته في تعزيز الاقتداء بالعمل، حيث استثمر علماء المذهب عبر القرون البيئات الثقافية المختلفة، بما فيها خارج العالم العربي، لإدراج عوائد الناس في الشرع، ما لم يكن مخالفا للنصوص القطعية. وخامسا، كان إماما في القول باعتماد المصلحة، حيث تبنى الفقهاء من بعده هذا المفهوم في عدد من الحالات، مستثمرا إياه كأساس لبعض مقاصد الشريعة، وغنّى بذلك دائرة اشتغال الفقه الشرعي، مشدداً الوزير على أن الحاجة إلى هذا المفهوم اليوم “ماسة”، لا سيما مع المستجدات في واقع الناس، وإلى تعزيز مصطلح “المصلحة العامة”.
ووصف التوفيق الإمام مالك بأنه “إمام رباني يقتدى به” في مواقفه التي اتسمت بالابتعاد عن احتكار الحقيقة، مشيرا إلى عدم استجابته لاقتراح الخليفة باعتماد كتابه مرجعا رسميا للأمة، وحرصه على إقامة الدروس في داره بدل المسجد، مؤكداً أن الحقيقة في النقل يجب أن تكون موازية، ولا يجوز الاحتكار. وأضاف أن موقف الإمام أعظم من مجرد الميل الشخصي إلى التواضع، وأنه يمثل نموذجاً بـ “أخلاق العلم”، حيث ضرورة معرفة المطلوب من سؤال الدين قبل الإجابة عنه، والحرص على عدم تملق العوام.
وتابع المسؤول الحكومي أن الحاجة اليوم للإمام مالك تكمن في قبوله للاختلاف في جزئيات المعرفة الدينية، لا على أساس اختلاف النصوص، بل على أساس قبول تصور تعدد الصور في النقل والأصل، مشيراً إلى أنه يمثل نموذجاً في الحرية كشرط للتدين، ونبذ الإكراه، والتواضع، وعدم طلب الشهرة، وفي إنفاق الجهد والوقت للتعليم لوجه الله.
في غضون ذلك، دعا التوفيق إلى نشر أعمال هذه الندوة بأقرب وقت ممكن، وترجمتها إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، لضمان وصولها إلى إخواننا في البلدان الإفريقية، مشيرا إلى أن المعاهد المغربية تستقبل طلابا من بلدان تعتمد المذهب الشافعي أو الحنفي، حيث يتم تدريس المعاملات والعبادة وفق مذاهبهم، بما يعكس التزام المغرب بالمذهب المالكي في سياق عالمي متعدد المذاهب.
المصدر:
العمق