آخر الأخبار

مسرحية "لكلّ قبره" لمحمد نبيل .. طقوس الدفن تتحول إلى صراع الهوية

شارك

في السادس من دجنبر 2025 شهدت مدينة دوسلدورف الألمانية عرضًا استثنائيًا لمسرحية “لكلّ قبره”، في أمسية امتزج فيها الحضور العربي والألماني والمغربي، ليشكّل جمهورًا نوعيًا من عشّاق المسرح والباحثين عن تجارب جمالية جديدة.

كان هذا العرض مناسبة لاكتشاف عمل مسرحي اشتغلت عليه فرقة ENSEMBLE FLASCHENGEIST “روح القارورة” والمخرج على امتداد أكثر من عامين من البحث والتجريب والبناء الدرامي. النص الذي كتبه محمد نبيل، وأخرجه بالتعاون مع طاقم فني عربي–ألماني، جاء ليقدّم رؤية مسرحية متعددة الطبقات، تُحاور الراهن، وتستنطق الذاكرة، وتفتح أسئلة الوجود والهوية أمام المتلقّي. هكذا وجد الجمهور نفسه أمام تجربة مسرحية نادرة، ذات حمولة فكرية وجمالية، تُعيد للمسرح دوره بوصفه مساحة للتفكير ومختبرًا للإنسان.

لم يعد المسرح المعاصر مجالًا لتمثيل الوقائع بقدر ما صار فضاء لاختبار الوجود نفسه. فالعرض المسرحي، في صيغته الجديدة، لم يعد يعنى بما يحدث فوق الخشبة، بل بما يحدث داخل الوعي. ضمن هذا الأفق، تندرج مسرحية “لكلّ قبره” باعتبارها عملًا لا يكتفي بتشخيص صراع أسري أو حدث موتي، بل ينهض بوصفه أطروحة مسرحية في مصير الهوية الإنسانية حين تفقد يقين المكان.

العمل من تأليف وإخراج محمد نبيل، ويشكّل امتدادًا واضحًا لانشغاله بالسؤال الوجودي المرتبط بالمنفى، والذاكرة، والانتماء، لا من زاوية سردية مباشرة، بل من داخل بنية فلسفية تتخذ من الجسد، والفضاء، والصمت، أدوات تفكير لا مجرد أدوات عرض.

إن هذه المسرحية لا تقف عند حدود الدفن بوصفه طقسًا، بل تحوّل القبر إلى استعارة أنطولوجية عليا، تتقاطع فيها أسئلة الأصل، والقطيعة، والمصير، ومعنى الاستقرار في عالم لم يعد يعترف بالثبات.

منطلقات القراءة

تنطلق هذه القراءة من الإشكالية المركزية الآتية:

كيف تتحول مسرحية “لكلّ قبره” من صراع حول الجسد إلى صراع حول معنى الهوية؟

وكيف يوظّف محمد نبيل البنية الدرامية، والفضاء، والشخصيات، والروح، لتحويل الموت من واقعة بيولوجية إلى سؤال فلسفي مفتوح؟

وتتفرع عن هذه الإشكالية الأسئلة التالية:

• هل تمثل فاطمة وأحلام نموذجين نفسيين أم صورتين أنطولوجيتين للذات المعاصرة؟

• ما الوظيفة الفلسفية لشخصية مولر داخل البناء؟

• كيف تتحول الروح من عنصر جمالي إلى جهاز تأويلي موازٍ للنص؟

• وبأي معنى يصبح القبر في هذا العمل مفهومًا لا مكانًا؟

منهجية القراءة

تعتمد هذه القراءة مقاربة تحليلية تركيبية تقوم على:

تحليل البنية الدلالية للشخصيات بوصفها تمثيلات فلسفية لا وظائف سردية فقط.

قراءة الفضاء المسرحي بوصفه جهاز مساءلة رمزيًا لا إطارًا بصريًا محايدًا.

تفكيك حضور الجسد والروح والصمت بوصفها أنماطًا من الخطاب غير اللفظي.

استنطاق الرؤية الإخراجية باعتبارها بناءً فكريًا لا تقنية عرض فقط.

والغاية ليست وصف العرض، بل تفكيك منطقه الوجودي، والكشف عن كيفية اشتغال المسرح بوصفه أداة تفكير في الانتماء، لا مرآة له فقط.

محددات التحليل

مصدر الصورة

فاطمة وأحلام: انقسام الهوية بين الأصل والقرار

فاطمة لا تمثل الحنين بوصفه حالة نفسية، بل بوصفه بنية فكرية مغلقة ترى أن المعنى لا يُستعاد إلا بالرجوع إلى نقطة البدء. إنها تمثل ميتافيزيقا الأصل: حيث تصبح الذاكرة سلطة، ويغدو الماضي معيارًا أخلاقيًا يُحاكَم به الحاضر.

أما أحلام، فهي لا تمثل القطيعة بوصفها تمرّدًا، بل بوصفها إرادة وجودية واعية. إنها لا تنفي الذاكرة، لكنها تجردها من سلطتها. تختار أن تخسر جزءًا من ذاتها القديمة كي تحافظ على إمكان الاستمرار. وهنا يتكوّن الطباق الفلسفي الحاسم في العمل:

• فاطمة = هوية تُعاد من الخلف.

• أحلام = ذات تُصاغ من الأمام.

الصراع بينهما ليس حول مكان دفن الجسد، بل حول كيفية تعريف الذات بعد انهيار المرجع المكاني.

الجثمان: الصمت بوصفه مركز التأويل

الجثمان هو الشخصية الغائبة الحاضرة. لا يتكلم، لكن كل الخطاب يصدر عنه. وهو يتحول من مادة عضوية إلى علامة رمزية جامعة:

• فاطمة تقرأ فيه صورة العودة.

• أحلام تقرأ فيه ضرورة القطيعة.

• مولر يقرأ فيه موضوعًا إداريًا.

هنا تتحول الجثة إلى مرآة دلالية تتكسر عليها تصورات الجميع. الصراع لا يدور حول الجسد، بل حول المعنى الذي سيُدفن معه.

شخصية مولر: العقل الأداتي في مواجهة المأساة

مولر ليس شخصية نفسية، بل تجسيدًا للعقل الإجرائي الحديث الذي ينزع عن الموت بعده الوجودي، ويحوله إلى وظيفة. إنه يمثل النقلة الفادحة من:

الموت بوصفه لغزًا → إلى الموت بوصفه ملفًا.

في حضوره يتكشف الانفصال الجذري بين الألم والمعنى، وبين الإنسان والنظام. وبهذا تتحقق واحدة من أعنف مفارقات المسرحية:

كلما اشتد الوجع الإنساني، ازداد النظام برودة.

الروح: الجسد بوصفه وسيطًا فلسفيًا

الروح في هذا العمل ليست زينة بصرية، بل لغة موازية للفكر. الغناء لا يؤدي وظيفة موسيقية فقط، بل يعيد تشفير الفقد في جسد متحرك، والرقص لا يجمّل، بل يترجم التمزق إلى حركة.

الروح تمثل المستوى الذي يفلت من منطق العقل الصراعي:

حيث لا تُحل الأزمة جدليًا، بل تُعاش جسديًا.

الفضاء المسرحي: المكان بوصفه قفصًا أنطولوجيًا

الفضاء منزوع الخصوصية، معتم، بارد. لا يحتضن الشخصيات، بل يضعها في مواجهة مباشرة مع هشاشتها. الضوء قاسٍ، والجدران صامتة، والمكان خالٍ من الانتماء. وهنا تتجلى دلالته الكبرى:

المنفى ليس مكانًا خارجيًا فقط، بل حالة داخلية من عدم التطابق الوجودي.

مصدر الصورة

محمد نبيل: الإخراج بوصفه تفكيرًا

محمد نبيل لا يتعامل مع الإخراج بوصفه تنظيمًا للحركة، بل بوصفه بناءً معرفيًا للأزمة الوجودية. كل شيء عنده يخضع لمنطق السؤال لا لمنطق الإبهار:

• الصمت: أداة تفكيك.

• الحركة: ترجمة للجروح الداخلية.

• الإيقاع: ميزان لتصاعد القلق.

إنّ المخرج محمد نبيل لا يصنع عرضًا للفرجة، بل يصنع جهازًا لتقويض اليقين. لا تقدم مسرحية “لكلّ قبره” جوابًا، بل تؤسس فضاءً دائمًا للسؤال. ولا تحسم الانتماء، بل تعريه في هشاشته. ولا تطمئن المتلقي، بل تدخله في مأزق التفكر في قبره الرمزي الخاص.

إن القبر في هذا العمل لا يعود مكانًا لدفن الجسد، بل موضع انهيار التعريفات الجاهزة للذات. وهنا تبلغ المسرحية أقصى طاقتها الفلسفية، إذ تجعل من الموت لحظة انكشاف للهوية، لا خاتمة لها. وبهذا المعنى، لا يقدم محمد نبيل مسرحًا عن الفقد فقط، بل مسرحًا عن هشاشة المعنى في زمن بلا جذور ثابتة، حيث لا يعود السؤال: أين ندفن؟ بل: كيف نعيش بعد أن فقدت الهوية أرضها؟

• كاتب من ديوسبورغ – ألمانيا

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا