آخر الأخبار

بوعرعار "كبير المترجمين".. سفير لغوي متجول بارع ودبلوماسي "فوق العادة"

شارك

انتقل إلى عفو الله ورحمته وبشكل مفاجئ بمدينة جنيف يوم الخميس 13 نونبر 2025 المترجم الدولي المغربي كريم بوعرعار، عن عمر يناهز 70 سنة. شكل رحيل بوعرعار صدمة كبيرة لعائلته وزملائه المترجمين الدوليين الإنسانيين، عبر العالم ووسط موظفي اللجنة الدولية للصليب الأحمر بجنيف. ولم تتوقف شهادات التقدير والتنويه والعرفان في حقه منذ إعلان خبر وفاته، فقد كانت للفقيد مكانة خاصة وسط زملائه وأصدقائه ومعارفه بجنيف وعبر العالم.

يوم الاثنين 17 نونبر 2025، استقبل السيد بيير كراهنبول، المدير العام للجنة الدولية للصليب الأحمر بجنيف، أسرة الفقيد وقدم لها التعازي باسم اللجنة الدولية. ووري جثمان الفقيد عبد الكريم بوعرعار الثرى في أرض وطنه يوم الخميس 20 نونبر 2025 بجانب قبر والده بإقليم بركان وبمقبرة سيدي مسعود قريبا من أولاد داوود ازخانين، وبحضور أقارب الراحل وأصدقائه (بعضهم قدم خصيصا من جنيف) ومجموعة من الباحثين والأساتذة الجامعيين التابعين لجامعة محمد الأول.

رائد الترجمة الفورية

الراحل من مواليد 10 غشت 1955 في بيئة أمازيغية ريفية، حصل على شهادة الباكالوريا تخصص الآداب العصرية عام 1977 وعلى شهادة الإجازة في اللغة الإنجليزية آداب ولسانيات في يونيو 1981 من جامعة محمد الخامس بالرباط. اشتغل في إطار الخدمة المدنية مترجما لسنتين بإدارة الدفاع الوطني بالرباط، ثم توجه إلى جنيف عاصمة الترجمة والمحافل الدولية ليتابع دراسته في مدرسة الترجمة التحريرية والشفهية بجنيف (École de traduction et d’interprétation (ETI)) (ستتحول عام 2011 إلى كلية الترجمة بجامعة جنيف، وهي إحدى أعرق وأقدم مراكز التدريب والبحث في الترجمة في العالم وتتمتع بمكانة فريدة بين كل مراكز الترجمة عبر بقاع العالم). وتخرج منها في شتنبر 1985 بحصوله على شهادة الماجستير. اشتغل، ابتداء من 1986، باللجنة الدولية للصليب الأحمر كمراجع ومترجم رئيسي يتنقل ويترجم ويحرر بسلاسة من وإلى ثلاث لغات العربية والإنجليزية والفرنسية. وفي بداية التسعينيات ولمدة خمس سنوات، كان هو الناطق الرسمي للجنة الدولية للصليب الأحمر (القسم العربي)، وكان مسؤولا عن الترجمة الفورية في العديد من المؤتمرات الدولية حول القانون الدولي الإنساني وقانون اللاجئين والقانون الدولي الجنائي. وما بين 2015 و2022، سيعمل أستاذا مساعدا بكلية الترجمة بجامعة جنيف.

هو أحد أعلام ورواد المترجمين في مجال القانون الدولي الإنساني والعمل الإنساني عبر العالم. لغته الأم هي الأمازيغية الريفية، خبير دولي في الترجمة الشفهية والتحريرية من وإلى أربع لغات هي اللغة العربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية، مع إجادة متقدمة للغة الألمانية والروسية. أصبح، بعد تقاعده المهني، مرجعية دولية لا غنى عنها في مجال التكوين والتأطير الأكاديمي في الترجمة الفورية والمراجعة اللغوية وتوفير الترجمة في المحافل والأنشطة الدولية. وعلى الرغم من توديعه لغرف الترجمة الفورية، فإن الرجل استمر وظل يتعلم ويتتلمذ، حيث عمق معرفته باللغة الروسية للتمكن من إتقانها. كما بدأ في تعلم اللغتين العبرية والفارسية. له تجربة ممتلئة فريدة من نوعها، فسمحت له الترجمة التحريرية والشفهية في سياق العمل الإنساني الولوج والمغامرة في عوالم الترحال المستمر من جنيف نحو جل الدول وكل ثقافات العالم.

على المستوى الأكاديمي، أشرف الأستاذ عبد الكريم بوعرعار على ترجمة مجموعة من الكتب؛ منها: دراسة القانون الدولي العرفي لجان ماري هينكيرتس ولويز دوسوالد بك. دار النشر كمبردج، وكيف يحمي القانون الدولي الإنساني للبروفيسور ماركو ساسولي والسيد أنطوان بوفييه، تقنيات جراحة الحرب للدكتور الجراح مايكل كوبلاند.

ويشهد الأستاذ بوعرعار بأن للمغاربة باعا طويلا وشأنا في عالم الترجمة بالمحافل الدولية؛ فهم متمكنون من الترجمة بدقة ووفق قواعدها وضوابطها ويتحدثون اللغات بفصاحة قل مثيلها، وأصبحت لهم مكانتهم الدولية المحفوظة في عالم الترجمة والمراجعة اللغوية.

الترجمة في خدمة العمل الإنساني

في أحيان كثيرة خلال قيامه بواجبه في الترجمة الفورية في العمل الإنساني وفي قضايا حساسة، كان عليه أن يحرص أشد الحرص على الالتزام بمبادئ اللجنة الدولية للصليب الأحمر في احترام الإنسانية والحياد وعدم التحيز، مع إلمام بالأنظمة الثقافية والسيميائية لكل لغة ودولة وشعب. يؤمن عبد الكريم بوعرعار بأن الغاية من الترجمة في مجال العمل الإنساني هو في العمق الإسهام “بصمت وفي الظل” حسب قوله في “إنقاذ الأرواح والتخفيف من المعاناة وضمان كرامة الإنسان، فهي بمثابة وساطة لمد الجسور لزرع الأمل وبناء الثقة لتفادي الأسوء”.

الترجمة في سياق العمل الإنساني لها خيوطها الدقيقة والرفيعة والتي تتجاوز مجرد الأمانة على نقل معاني الكلمات: كيف وهل يمكنك أن تنقل المشاعر، الإيماءات، الإيحاءات لتضخ في الكلمات معان متدفقة بالألم والمعاناة والأمل؟ كان يحكي لي كيف كان يصاب لأيام وشهور بأرق وإرهاق نفسي شديد لهول ما سمعه من آلام ومعاناة، لم تكن قدراته اللغوية تعينه على تجسيد مكنونها وضخ الروح فيها، كانت ترجمة الكلمات تخونه أمام مشاعر وأحاسيس لا تضاهيها كل المصفوفات اللغوية. يتذكر تعابير وجوه أناس لا يمكن نسيانها، ثمة نظرات ألم ويأس لا يمكن أن تترجمها أية لغة ولا يمكن أن تتركك محايدا لا مباليا، المسألة أبعد من مجرد جمل منتقاة بعناية للتخفيف من وطأة المواقف الإنسانية الصعبة، هناك حدود نفسية وعاطفية فوق الطاقة، وقد تجعلك تعيش اضطرابات نفسية ولا تخلد للنوم أياما وشهور عديدة ويطاردك شعور عميق بالحيرة أمام خذلان الكلمات، العجز عن القيام بشيء ما، أمام الصمت، في حين كانوا ينتظرون منك فعل شيء، فعل أي شيء.

في الاتجاه الآخر، كان يمتلئ فرحا وانشراحا حين تتحول ترجمة الكلمات والتفاوض إلى جسر أمل لنهايات سعيدة لنزاعات وأزمات وأوضاع إنسانية، فتستعيد حياة الناس البسطاء مجراها لترسم الابتسامة في وجوه نساء وأطفال عاشوا فظائع الحرب والنزوح واللجوء.

الترجمة في بؤر التوتر والنزاعات

طوال ثلاثين سنة تقريبا من مساره المهني الحافل كمبعوث من لدن اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى مختلف بلدان العالم، كان عبد الكريم بوعرعار “بطلا في الخفاء”، اشتغل مترجما في أكثر المناطق سخونة وتوترا وعايش الكثير من الحروب الأهلية بأمريكا اللاتينية (خصوصا بالسالفادور). وكان عليه أن يتعامل مع الكثير من المخاطر والتحديات، مهمته التطويع اللغوي للكلمات مع السياقات المختلفة والمتحولة بتركيبة ونبرات وخلفيات ثقافية مختلفة وفق المخاطب والسياق والثقافة.

باعتباره كبير مترجمي ومراجعي القسم العربي للجنة الدولية للصليب الحمر بجنيف كانت له الفرصة للالتقاء برؤساء دول وحكومات ووزراء وكبار المسؤولين بالمنظمات الدولية؛ بما فيها منظمة الأمم المتحدة، وقضاة المحاكم الجنائية الدولية وكبار العسكريين ورجال الشرطة والأطباء والأكاديميين والشخصيات السياسية العالمية. وقد قام بزيارة السجناء والأسرى في الكثير من مناطق العالم، وزار في إطار عمله كمترجم العديد من المعتقلات في العالم (معتقل غوانتنامو، أفغانستان، فلسطين…).

كما شارك في مهمات ميدانية في كل القارات بالعالم ومعظم المناطق الجغرافية؛ بما فيها مناطق الحرب والتوتر. وشارك كمترجم في مفاوضات ووساطات دولية عالية المستوى. وكان حاضرا بالسالفادور وفلسطين في 2001، وأفغانستان في 2002. وأشرف على دورات تكوينية في الترجمة الإنسانية في العراق ومصر وفرنسا وبريطانيا وروسيا. وكان تخصصه الرئيسي هو أعمال الإغاثة الإنسانية وأسسها القانونية في زمن النزاعات.

دائما مستعد للسفر

دائما ما يكون على أهبة الاستعداد للسفر، وحقيبة ملابسه وأغراضه مفتوحة على الدوام؛ ففي كثير من الأحيان كان هاتفه يرن في ساعات متأخرة من الليل أو في الصباح الباكر ويُطلب منه جمع أغراضه بشكل مستعجل والاستعداد للسفر للقيام بالترجمة خلال عمليات الإغاثة الإنسانية أو زيارة أماكن الحرمان من الحرية أو لتغطية الترجمة في لقاءات دولية بعد أن وقع رفض أو سوء تفاهم المنظمين مع مترجمين آخرين، فيستقر رأيهم ويصرون على حضوره للقيام بمهمة الترجمة لمعرفتهم السابقة به.

في مقابلة مع الأستاذ عبد الكريم بوعرعار، سُئل عن ماذا تعني له الترجمة؟ كان جوابه: “أن تكون مترجما ومراجعا هي مهنة نبيلة؛ ولكنها أيضًا مليئة بالتحديات. إنها وظيفة تتطلب الكثير من المهارات والصبر والثقافة العامة الموسوعية والمهارات اللغوية. لهذا السبب نصحت طلابي والمترجمين التابعين لي دائما بالقراءة بجميع لغات العمل الخاصة بهم. ليس فقط الصحف والمجلات، ولكن قبل كل شيء الكتب. عليك أيضًا أن تكون فضوليًا ومهتمًا بموضوعات مختلفة (…) سمح لي هذا باكتشاف الشعوب الأخرى والثقافات الأخرى والحضارات الأخرى. لطالما كان تعلم اللغات الأجنبية والسفر هما شغفي الكبير. ومع ذلك، لم يكن من السهل دائما أن أنغمس في ذلك أثناء عملي بدوام كامل، على الرغم من رحلاتي العديدة حول العالم”.

بالنسبة لعبد الكريم حتى يواجه المترجم التوتر عليه “الحفاظ على الوتيرة، أخذ وتدوين النقط، البقاء مركزا والتوفر على خزان من المصطلحات، دون نسيان الجوانب الانفعالية والنفسية في السياقات الأكثر حساسية كما هو الأمر في مخيمات اللاجئين والنازحين والسجون. وللقيام بمهام الترجمة بفعالية، ينبغي التوفر على ثروة لغوية غنية، وعلى معرفة ثقافية تسمح بتناول أي موضوع وتسمح بتفادي حالات سوء الفهم الثقافي، أولا وأخيرا نحتاج إلى الدقة والمسؤولية؛ فالمترجمون يساهمون في إنقاذ الأرواح وتخفيف الآلام عبر تيسير التواصل والتفاهم بين المكلفين بالعمل الإنساني والساكنة المستهدفة”.

دبلوماسي لغوي “فوق العادة”

الأستاذ عبد الكريم إنسان محبوب ومرح ومحل ثقة الجميع في الملتقيات والمحافل الدولية، له مكانته الخاصة وسط أصدقائه الموظفين الدوليين بجنيف، حيث يحظى بالكثير من الاحترام لكفاءته وسخائه ونزاهته وهدوئه ونبله وتواصله وروحه المرحة وحسه الإنساني.

ينتمي الراحل عبد الكريم بوعرعار إلى فصيلة “الديناصورات” الفكرية التي هي في طريقها إلى الانقراض، فهو ذو ثقافة موسوعية عابرة للتخصصات تجمع بين التمكن من اللغات والثقافات المرتبطة بها والقانون والجغرافيا والتاريخ، وعلم اجتماع اللغة، والقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي، والقانون الدولي للجوء، وله خبرة في المحاكم الجنائية الدولية (المحكمة الجنائية الدولية، المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا سابقا).. وليس غريبا أن يردد أمامك فصولا بأكملها من نظام روما بمختلف اللغات، أو أن يكون على علم بأشهر القضايا القانونية الدولية التي طرحت أمام القضاء الدولي، وملما بالتباينات الموجودة بين مختلف الأنظمة التشريعية بالعالم العربي. وله اطلاع عميق بالقانون الدولي الإنساني وعمليات الإغاثة الإنسانية، ودائما ما يتم استدعاؤه في الدورات التكوينية المتخصصة في هذا المجال.

كان مرحا، نشيطا وراقيا في تعامله، نقي الروح، سمته التواضع الرفيع، لا تفارق الابتسامة محياه، ويتسع قلبه لكل الناس، كان عفيفا، وديعا ولا يعبأ كثيرا بالمظاهر. كلما سمع إطراء أو كلاما يشير إلى مكانته وخبرته أو ذكرا لمناقبه و… و… يردف بسرعة قائلا: “أستغفر الله”، وكلما لقي تصفيقا من الحاضرين بعد نهاية مهمة ما أو خروجه من غرفة الترجمة عند انتهاء المؤتمرات واللقاءات الدولية إلا وانحنى انحناء خفيفا وأيديه مشبوكة عند الحضن على طريقة التحية اليابانية “أوجيكي”.

خلال إلقائه محاضرة متميزة حول “تحديات الترجمة القانونية” يوم الثلاثاء 23 ماي 2023 بجامعة محمد الأول بوجدة، اقترحت عليه فكرة عقد لقاء ومقابلة صحافية مع أحد المواقع الإعلامية الإلكترونية أو تنظيم مائدة مستديرة بكلية الحقوق بوجدة للتعريف بمساره وما راكمه من تجارب، لكنه وبكل أدب اعتذر موضحا لي بهدوء بأن “الظهور لا يشغله بتاتا وهو غير آبه بالأضواء ولا تستهويه الشهرة، فهو عابر وعليه البقاء في الخلفية وفي الظل، وأن اشتغاله باللجنة الدولية للصليب الأحمر لسنوات عديدة والتزامه باحترام مبادئها وخصوص الحياد وعدم التحيز، علمته البقاء دائما في الخطوط الخلفية والإسهام في صمت وترك أثر طيب والقيام بعمله بمسؤولية وبصدق والتزام أخلاقي”.

كلما التقيت به في جنيف كان دائما ما يخاطبني بـ”ميس نتمورث”، ويبادلني كلمات باللغة الأمازيغية معبرا عن شوقه الدائم إلى العودة إلى الوطن وإلى الأرض وإلى الأهل في كل ربوع المغرب، وحنينه إلى العيش في بلدته على ضفاف وادي ملوية، وفي أحضان جبال الريف بين جبال كبدانة وبني يزناسن وتربة أولاد داوود ازخانين. يحكى لي دائما أنه يشعر بالكآبة من أشهر الخريف والشتاء بجنيف، من السماء الملبدة، من الغيوم الكثيفة، والضباب، والبرودة، وأنه يحن دائما إلى فصل الربيع على ضفاف ملوية حيث الشمس الوهاجة والنسيم الوديع والظلال الوارفة.

أحد أقرب أصدقائه والذي عاشره لما يقارب أربعين عاما أصر على القدوم من سويسرا لحضور جنازته في المغرب، إنه الأستاذ عامر الزمالي، الخبير الدولي في القانون الدولي الإنساني والشؤون الإنسانية والذي تحمل مسؤوليات رفيعة عديدة باللجنة الدولية للصليب الأحمر. يقول عنه في شهادته: “كان من أنبل وأكرم من عرفت، وتعارفنا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وكان آخر حديث بيننا مساء التاسع من نونبر الجاري. لا يمكن اختزال الحديث عن الراحل العزيز في كلمات أو صفحات، ونكتفي بالإشارة إلى عمله باللجنة الدولية للصليب الأحمر في المقر بحنيف وفي بعثاتها بالخارج، وقد التحق بقسم الترجمة فيها، بعد تخرجه من كلية الترجمة بجنيف. عمل مترجما بالمنظمة المذكورة طوال ثلاثة عقود تقريبا، ومتحدثا باسمها سنوات عديدة. وإلى جانب العربية، كانت يجيد الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية وعلى إلمام بالألمانية والإيطالية. وكان متمكنا من ترجمة النصوص القانونية وغيرها من العربية إلى اللغات المذكورة، ومنها الإنجليزية والفرنسية خاصة. وبعد تقاعده المبكر، ظل يقوم بمهام للمؤسسة المذكورة وانضم إلى هيئة التدريس بكلية الترجمة بجنيف. أما الترجمة الفورية والترجمة المتتالية، فقد كان رحمه الله من المبرزين فيهما، ولم تكن تجربته الميدانية أقل شأنا من العمل الكتابي والشفهي؛ فقد قام بمهام ميدانية في العالمين العربي والإسلامي وأوروبا وآسيا وإفريقيا وأمريكا. ومن أهم ذلك زيارة السجون والمعتقلات ومقابلة المحرومين من حريتهم بسبب الحروب وغيرها والتفاوض مع ممثلي الحكومات والمسؤولين الرسميين وغيرهم من عسكريين وأمنيين وعلماء ودبلوماسيين وجامعيين. تحلى الراحل الكبير بصفات؛ أبرزها الصدق والإخلاص والحلم والصفح والجود والكرم والإباء والثبات على الحق والتواضع. وقد عشنا معا حالات رأيت كل ذلك مجتمعا في شخصه. قلما عرفت من يشبهه في تحمل مشاق العمل وأعباء الوظيفة، وكثيرا ما عاتبته على تحميل نفسه فوق طاقتها، مكررا على مسمعه عبارة “إن لبدنك عليك حقا”؛ لكن الأولوية المطلقة في عرفه كانت للعمل والاستزادة من العلم والمعرفة. سعة ثقافة زميلنا وصديقنا الفقيد العزيز ومواكبة الأحداث الإقليمية والعالمية كانتا من أسس عمله وحواره وتفاوضه مع المسؤولين والدارسين والباحثين والمحرومين من حريتهم والمهتمين بالقضاء والعدالة وتنفيذ القانون”.

من جانبه، قال محمد البزاز، أستاذ القانون الدولي الإنساني بجامعة مولاي إسماعيل مكناس، الذي تعامل عن قرب مع الراحل: “تعود معرفتي بالفقيد عبد الكريم بوعرعار إلى أكثر من عشرين سنة؛ وذلك خلال زياراته ذات الطبيعة الأكاديمية إلى المغرب ضمن وفد اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وكذا بمناسبة مساهمته في تأطير دورات تكوينية في مجال القانون الدولي الإنساني بتعاون مع جمعية الهلال الأحمر المغربي أو بعض المؤسسات الجامعية المغربية. وما كان يثير الاهتمام هو وجود خبير مغربي من بين الموظفين السويسريين العاملين في هذه المنظمة الإنسانية، والذي كان موضوع احترام وتقدير كبير من قبل زملائه في المنظمة، وفي الوقت ذاته له إلمام واسع بمضامين وتطورات القانون الدولي الإنساني وسرد لأهم العمليات الإنسانية والتحديات التي يواجهها العاملون في المجال الإنساني. كان دائما يتحدث بحنين عن نشأته المغربية في أحضان منطقة بني يزناسن، ثم الانتقال إلى الرباط؛ وبالضبط إلى جامعة محمد الخامس في الثمانينيات من القرن الماضي لاستكمال دراسته الجامعية، فكان معتزا بمساره التعليمي كخريج للمدرسة العمومية. وفي الوقت ذاته كان مؤمناً بالرسالة الإنسانية التي يؤديها، فالاستماع إليه في محاضراته أو عند مجالسته تشعر بإنسانيته العميقة التي تنبع من أعماق قلبه وطيبوبته التي تجعلك قريبا منه كأنك تعرفه منذ مدة طويلة، فتكون معجبًا بشخصيته التي تجمع بين البساطة والتواضع الكبير وبين علو كعبه في مجال الترجمة بمختلف أشكالها وإلى لغات متعددة. الفقيد على المستوى المعرفي ترك إرثاً غنياً في مجال القانون الدولي الإنساني، باعتباره كان من المترجمين الرئيسيين الذين نقلوا العديد من الكتب المرجعية في مجال القانون الدولي الإنساني من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية. وعلى رأس هذه الكتب أكتفي بالإشارة إلى الكتاب المهم بالنسبة لكل دبلوماسي أو رجل قانون أو باحث في مجال القانون الدولي الإنساني وهو: “دراسة القانون الدولي العرفي” الذي أشرف على تحريره جان ماري هينكيرتس ولويز دوسوالد بك وصدر في الأصل باللغة الإنجليزية عن دار النشر كمبردج سنة 2005 في ثلاثة مجلدات تتناول القواعد والممارسات. وتم نقل المجلد الأول وملخصه إلى اللغة العربية سنة 2007″.

من جهته، يشهد الأستاذ الحسن حراگ، أستاذ اللغة الإنجليزية والترجمة بجامعة محمد الأول بوجدة وخريج كلية الترجمة بجامعة برشلونة المستقلة وكان أيضا قريبا من عبد الكريم بوعرعار، بأن الراحل “خدم الإنسانية خدمة جليلة، وعبر اللغات والترجمة أسهم في التعريف ببلاده وبناء الأواصر بين اللغات والشعوب، وجعل اللغات جسرا لتخفيف الآلام وبناء الثقة والحد من التوترات. لقد اشتغل في تسع وأربعين دولة؛ فخبر ثراء الثقافات وخصائص العقليات. إنه مترجم من الطراز الرفيع، إنسان صادق يحمل هموما. كان يحب أن يرى الناس سعداء من حوله ولا يبخل في العطاء الإنساني دون مقابل. عاش معظم أوقاته في غرف الترجمة وبقي دائما في الظل، للأسف لم يتم الاستفادة من خبراته كما ينبغي”.

السيدة روبيرتا بوسينارو، التي عملت مندوبة للجنة الدولية للصليب الأحمر بمناطق عديدة بأمريكا اللاتينية، تعرفت عليه عن قرب حيث ساعدها في إعداد رسالة ماستر بجامعة دوبلن عام 2011 تحت عنوان “عمليات الإغاثة أمام الحواجز اللغوية.. دور المترجم”، كانت شهادتها كالتالي: “إن السيد عبد الكريم بوعرعار خبير عظيم في الترجمة وقلبه كبير، وهو بطريقة ما غير حياتي”.

وفي رسالة عزاء مؤثرة لأسرته تقول زميلة له اشتغلت معه لمدة طويلة بجنيف ما يلي: “العائلة العزيزة، لقد حُرمنا من كريم بشكل مبكر، لقد أحببناه بقوة ولم نكن أبدا نريد أن يغادرنا. لقد تعرفت على كريم منذ 37 سنة، ومنذ اليوم الأول لم أشاهد فيه إلا الطيبوبة والكرم والحب والتفاني. كانت روحه نقية، دائما مستعدا ليساعد، يشتغل بجد، يحترم الجميع سواء الأشخاص البسطاء الذين يصادفهم في حياته اليومية أو الشخصيات البارزة التي يلتقيها في إطار عمله. كان ناقما على الظلم والتفاهة. كان يتحمل كل شيء ويعطي كل شيء بدون محاسبة أو طلب شيء لنفسه. حسه الرهيف جعله يعاني كثيرا، خصوصا أن عمله جعله في اشتباك صعب مع مآسي العالم؛ لكنه كان يجيد التحمل والتجاوز حتى وإن كانت أمور كثيرة تؤلمه. لا شيء كان يوقفه عن الدفاع عن العدالة وإعانة المتروكين على الهامش. في الوقت نفسه كان كريم يعرف أن يضحك وأن يُضحك من حوله، يعشق لحظات المؤانسة البهيجة البسيطة. كان بمثابة الأخ بالنسبة لي وتوأم روحي. أنضم إليكم وأنا أبكي موته وأنا مستمرة في محبته للأبد”.

يستحق الأستاذ عبد الكريم بوعرعار كل التكريم والاعتراف، وهو بحق سفير لغوي متجول بارع ودبلوماسي “فوق العادة”، أسهم في تقديم صورة مضيئة ومشرفة ومشرقة عن وطنه، صورة جدير بكل مغربي أن يعتز ويفتخر بها.

وداعا أيها العزيز، الذي وهب حياته لخدمة الإنسانية والعمل الإنساني.. رحلت بهدوء وغادرت في صمت؛ لكن تركت أثرا جميلا من حولك، لم تكن عابرا عاديا فقد سكنت أرواح وقلوب من عرفوك عن قرب.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا