قال وزير العدل عبد اللطيف وهبي إن مهنة المحاماة أصبحت تواجه تهديدات حقيقية، في مقدمتها ما أسماه “وسائل التباغض الاجتماعي”، في إشارة إلى شبكات التواصل التي اعتبر أنها باتت تستبيح حرمة المتقاضين وتخرج القضايا من قاعات المحاكم إلى فضاء الفضح والاتهامات والانحرافات الأخلاقية.
وأوضح وهبي، خلال ندوة نظمت أمام المحامين المتمرنين بالدار البيضاء، يومه الجمعة، أن عدداً من المحامين يلجؤون اليوم إلى مناقشة ملفات موكليهم عبر الهواتف الذكية، متحدثين بلا تحفظ عن الجرائم المنسوبة إليهم، وهو ما اعتبره “استباحة للعدالة نفسها وتجاوزاً خطيراً لواجب التحفظ واحترام الحياة الخاصة”.
وأضاف الوزير أن هذه الممارسات حولت المحامي الجيد في بعض الحالات إلى “صحفي رديء”، على حد تعبيره، يسعى إلى التأثير على الرأي العام أو على القضاء من خلال الظهور المتكرر على المنصات الرقمية، موضحاً أن “المحامي الذي يحترم نفسه هو من يترافع داخل الجلسة، وليس عبر البث المباشر”.
ولم يقتصر وهبي في انتقاداته على المحامين فقط، بل أكد أن “العدوى انتقلت إلى جهاز القضاء”، مشيراً إلى لجوء بعض القضاة إلى الظهور على مواقع التواصل ونشر محتويات وصور من حياتهم المهنية، وهو ما اعتبره تهديداً لهيبة القضاء وللطابع الأخلاقي لوظيفته.
وقال إن الجهل بالقاضي كان جزءاً من هيبته، أما اليوم فقد أصبح البعض يعرض نفسه في فضاءات مفتوحة، مما يجعله عرضة للإساءة والتشهير وسحب الاحترام من المؤسسة القضائية ككل.
وأشار وهبي إلى أن الوزارة حاولت استباق هذا الوضع بإدراج مقتضى تعيين ناطق رسمي باسم النيابة العامة ضمن قانون المسطرة الجنائية الجديد، من أجل تقديم المعطيات للرأي العام بطريقة مهنية ومحافظة على هيبة القضاة، موضحاً أن “القاضي لا ينبغي أن يختلط بالعوام ولا أن ينجر إلى فضاءات التباغض الاجتماعي، لأن مكانته الأخلاقية جزء من ضمانات العدالة”.
وشدد وزير العدل على أن هذا الانفلات الرقمي يشكل اليوم خطراً حقيقياً على المهنة، يفوق التحديات التقنية والتشريعية الأخرى، داعياً المحامين، وخاصة المتمرنين، إلى التمسك بأخلاقيات المهنة وعدم تحويل قضايا المتقاضين إلى مادة للتشهير والاستغلال.
وفي معرض حديثه عن مهنة المحاماة وتحدياتها، أشار وهبي إلى أن المحاماة كانت دوماً صوتاً مسموعاً ضد التجاوزات، وأن المحامي يشكل حلقة وصل بين المواطن والقانون، قائلاً: “المحامي دائما ومن موقع السلطة شكل ذلك الصوت النشاز المتشبت بإعمال القانون ومن خلاله ضبط العلاقة بين المواطن وقيم العدالة والحق والقانون، إنه ثقل تاريخي كبير، له قدسية الوجود والقدرة على التأثير”.
وأضاف الوزير أن الانتقال من ممارسة المهنة بحرية واستقلالية إلى مواقع القرار السياسي يواجه المحامي بالعديد من الإكراهات وتعقيدات السياسة، مضيفاً: “تطلعاته وطموحاته في كثير من الأحيان تصطدم بإكراهات السياسة وتعقيداتها”.
وتطرق وهبي إلى دور المحامي كـ“فارس للكلمة” وفائدته في صياغة الأحداث وبناء العلاقة بين الفعل والقانون، وقال: “هم يسعون إلى صياغة الأحداث، يؤسسون لعلاقات بين الفعل والمؤازر، بين القاضي والماثل أمامه، بين القانون والفعل ذاته، يطرحون أحيانا على المجتمع أسئلة تبدو للجميع معقدة وشاذة، تارة حول البراءة، وتارة أخرى حول تكييف المسؤولية، إنها وظيفة نقل الفكرة من الهلامية إلى الواقع”.
وأوضح أن التطورات العلمية والتقنية أثرت على ممارسة المهنة، مشيراً إلى أن الأدلة العلمية الحديثة مثل البصمات والتحاليل الجينية والكاميرات قد تلجم المحامي أمام حقيقة شبه مطلقة في الإثبات، قائلاً: “المتدخلون في العملية القانونية يعتبرون خطاب المحامي مسألة ظنية، واستعمال الوسائل العلمية حقيقة مطلقة… لقد اختزلوا وظيفتنا واجتهاداتنا في معطيات رياضية أو تقنيات آلية”.
وأكد وهبي رفضه التام لمشاريع المحاكمة الرقمية والاعتماد على “القاضي الآلة”، قائلاً: “العدالة تكمن في الإنسان، في مرافعة المحامي، وفي إحساس القاضي أو ربما حتى في خطأه. ولا يجب أن تغتال القناعة الصميمية للقاضي باسم التطور العلمي، لأنها ذلك الخيط الرفيع الذي يصنع العدالة، وإذا تم فصلها عن المجال الإنساني فستتحول إلى طغيان الآلة”.
وحذر من أن عصر الذكاء الاصطناعي قد يختزل دور المحامي في الكمبيوتر والوسائل الحديثة، قائلاً: “سنكتشف أننا نناقش نزاعاً مدنياً أو تجارياً في بلد وتنطبق عليه قواعد ضريبية في بلد آخر، ونصوص جمركية في بلد ثالث، ووسائل إثبات في بلد رابع، أو أمام جريمة تبتدأ بقريتك وتنتهي في قرية دولة أخرى بأصقاع العالم”.
وأشار الوزير إلى الانحراف الخطير في التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، مؤكداً: “الموضوع يتسم بكثير من الانحراف عندما تتم مناقشة القضايا في هذه الشاشات المهينة، فيتحول معه المحامي الجيد إلى صحافي رديء مخالفاً جميع الأخلاق وقوانين احترام موكليه وقضاياهم وحياتهم الحميمية”.
وفي ختام كلمته، شدد وهبي على ضرورة التمسك بأخلاقيات المحاماة، مؤكداً أن حقوق المحامين العادلة تُفرض بالدفاع عن الحرية وشروط المحاكمة العادلة ودولة الحق والقانون، كما أعلن عن التوافق مع جمعية هيئات المحامين على مشروع قانون المهنة، وقرر إدراجه للمصادقة في اجتماع مجلس الحكومة منتصف دجنبر المقبل قبل إحالته إلى البرلمان، مع تنظيم أيام دراسية بمشاركة النقباء والأساتذة لمواكبة المشروع.
وختم الوزير كلمته قائلاً: “كم كنت أتمنى أن أبقى محامياً متمرنا والقانون علم لامتناهي وكل يوم تكتشف شيئاً جديداً، والمهم أن المحامي يبقى متمرناً إلى أن يلقي ربه”.
المصدر:
العمق