“انطلاقة متعثّرة” يشهدها الموسم الفلاحي الجاري تطبعها ندرة التساقطات المطرية وتأخرها إلى حدود نهاية الأسبوع الأول لشهر نونبر الجاري، في سياق مناخي موسوم بآثار التغيرات المناخية المتسارعة وما تخلفه من تحديات هيكلية مستمرة تمسّ الأمنَين المائي والغذائي للمملكة.
في هذا الصدد، نبّه فاعلون مهنيون في القطاع الفلاحي إلى تزايد الضغوط على الموارد المائية مثيرين بإلحاح أسئلة حول قدرة المنظومة الفلاحية الوطنية على التكيّف مع تكرار مواسم الجفاف (كمعطى بنيوي) مع تراجع مؤشرات السقي والغطاء النباتي، خصوصا في الجهات والأقاليم البورية.
وحسب ما استقته جريدة هسبريس الإلكترونية، فإن “التفاؤل الحذر” يظل مهيمنا على معظم الفاعلين والمهنيين والخبراء في القطاع الفلاحي؛ غير أنهم نبهوا إلى “تأثير شح الأمطار على مسار إنتاجية ونمو الزراعات الأساسية، خاصة زراعة الحبوب التي تظل ركيزة الأمن الغذائي الوطني ومصدر رزق لآلاف الفلاحين عبر مختلف الجهات”؛ في وقتٍ تتجه الأنظار إلى مدى فعالية السياسات العمومية وإجراءات الدعم الاستعجالي في الحد من تداعيات الجفاف على الإنتاج، وتأمين استدامة النشاط الفلاحي في مواجهة واقع مناخي متقلب.
عبد الكريم نعمان، مهني فلاحي بالغرب خبير وتقني في الزراعة، أكد أن “الأزمة التي يعيشها المغرب اليوم هي جزء من أزمة عالمية أوسع، تتمثل في تفاقم الجفاف والتغيرات المناخية؛ وهي أكثر حدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”.
وأضاف نعمان، في تصريح لهسبريس، أن “هذا العام شهد تأخرا واضحا في التساقطات المطرية إلى حدود شهر نونبر؛ ما انعكس مباشرة على الموسم الفلاحي في مجمله”.
وأوضح المهني الفلاحي عينه أن “زراعة الحبوب هي الأكثر تضررا، سواء تعلق الأمر بالقمح بنوعيْه (صلب وليّن) أو بالشعير والحبوب العلفية المخصصة للماشية، مشيرا إلى أن “الفرشات الجوفية والأنهار والأودية والبحيرات شهدت تراجعا ملحوظا في منسوبها؛ الأمر الذي أثر بدوره على مياه السقي والموارد المائية المتاحة للفلاحين”.
ولفت الخبير والتقني في الزراعة إلى أن “الزيتون لم يَسلم من هذه الأزمة، إذ لوحظ صِغَرُ حجم الثمار وانخفاض المردودية وجودة الزيت، إضافة إلى انتشار بعض الأمراض نتيجة غياب الأمطار وتقلّب درجات الحرارة. كما أن الجفاف أدى إلى تدهور الغطاء النباتي والرعي الطبيعي؛ ما جعل المشهد في عدد من المناطق أقرب إلى الصحراء.
وأبرز المصرح سالف الذكر أن “الأمنَيْن المائي والغذائي – بما يشمل اللحوم والحبوب والزيتون – باتَا في وضع مقلق”.
وتابع نعمان: “الحُكم على الموسم الفلاحي لا يزال مبكرا، في انتظار ما قد تحمله تساقطات شهر دجنبر التي ستحدد ملامح الموسم بشكل أوضح”، داعيا إلى “التعامل بجدية مع واقع الجفاف الهيكلي الذي يعرفه المغرب، والذي يتزامن مع مناخ حار دائم وموارد مائية محدودة وتضاريس صعبة”.
وبـ”تفاؤل حذر” بتطور الموسم الفلاحي، عبّر المهني الفلاحي عن إمكانية التدارك “شريطة أن تتدارك السماء تأخر المطر وأن يستمر دعم الدولة لقطاع الماشية”، مؤكدا في الوقت ذاته ضرورة مراجعة الاستراتيجية الوطنية نحو توجه اقتصادي أوضح يوازي بين تكامُل الفلاحة والصناعة والخدمات والسياحة، انسجاما مع الرؤية الملكية الهادفة إلى رفع القيمة المضافة الوطنية وعدم الاعتماد فقط على القطاع الأوّلي”.
وخلص المصرح إلى استعجالية تعميم “مشاريع مرتبطة بطُرق مائية رابطة بين الأحواض والمناطق الجبلية، وعلى برامج تهدف إلى جلب المياه للمناطق النائية وبناء السدود التلّية لدعم الفلاحة المحلية”، مستدلا بأن “السدود الحالية لا تغطي سوى نحو 15 في المائة من المساحات الفلاحية المستغلة فعليا؛ مما يستدعي توسيع الاستثمار في حفر الآبار ودعم المناطق القروية من أجل تعزيز الإنتاج وضمان استدامة النشاط الزراعي”.
أقرّ سعيد العبد، مسؤول بالمديرية الجهوية للاستشارة الفلاحية بجهة كلميم–واد نون، بأن الوضع الفلاحي العام “يتأثر بتأخر التساقطات المطرية؛ وهو تأخر تختلف حدّته من منطقة إلى أخرى داخل الجهة التي تتميز بتنوع تضاريسها ومناخها شبه الجاف”.
وأوضح العبد، ضمن حديث مع جريدة هسبريس الإلكترونية، أن “هذا الوضع يستدعي ترشيد استعمال الموارد المائية المتاحة عبر تعزيز اقتصاد مياه السقي وضبط تكاليفه وتوزيعه عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ من خلال اعتماد تقنيات حديثة للسقي الموضعي وتكثيف برامج التحسيس والتأطير التي يقوم بها المستشارون الفلاحيون لفائدة المزارعين”.
وأضاف المسؤول ذاته أن العمل بتنسيق مع المديريات الإقليمية المعنية جارٍ على “تشجيع استعمال البذور المختارة في سلاسل الحبوب، خصوصا تلك الملائمة للظروف المناخية المحلية، مع التركيز على الشعير باعتباره محصولا مقاوما للجفاف ويتلاءم مع التضاريس الوعرة التي تميز أجزاء واسعة من الجهة”؛ ما يضمن بتعبيره “مواكبة مخصصة وعلى مقاس كل إقليم واحتياجات كل مزارع (…)”.
كما أشار المصرح ذاته إلى أن “الزراعات البورية تمتد –هذه السنة- على مساحة تناهز 4 آلاف هكتار، تحظى بمواكبة تقنية دقيقة تشمل الزراعات الكلئية وعمليات توزيع الشعير المدعّم لفائدة الفلاحين، لتخفيف آثار نقص التساقطات وضمان استقرار القطيع وأنشطة الإنتاج الحيواني”.
وختم سعيد العبد مستحضرا أن المديريات الجهوية للاستشارة الفلاحية “تواصل تعبئة أطرها ومستشاريها الميدانيين من أجل مواكبة الفلاحين في مختلف مراحل الموسم الفلاحي، سواء في ما يتعلق بالتهيئة والتحضير أو بتدبير مياه السقي وتنويع الزراعات”، مبرزا أهمية “الاستثمار في تطوير البيوت المغطاة لرفع الإنتاج وتحسين المردودية، في انسجام مع الجهود الوطنية الرامية إلى تحقيق استعمال أمثل للمياه وتعزيز صمود القطاع الفلاحي أمام التغيرات المناخية”.
المصدر:
هسبريس