آخر الأخبار

من المسيرة الخضراء إلى مسيرة الشرعية.. محمد السادس "المهندس الصامت" لحسم معركة الصحراء

شارك

صحيح أن المسيرة الخضراء عام 1975 تُمثل لحظة تأسيسية في استرجاع المغرب لأقاليمه الجنوبية، وهي محفورة في الوعي الوطني كرمز للإرادة الشعبية والقيادة الحكيمة للملك الراحل الحسن الثاني، لكن اختزال قضية الصحراء في هذه اللحظة التاريخية، على أهميتها، يُغفل تحولا استراتيجيا عميقا وجذريا قاده الملك محمد السادس على مدى الخمسة وعشرين عاما الماضية.

لقد ورث الملك محمد السادس ملفا معقدا وصل إلى طريق مسدود، وحوّله ببراعة دبلوماسية إلى قضية محسومة عمليا على الأرض وفي أروقة الدبلوماسية الدولية، فخلال العقدين ونصف الماضيين شهدا “مسيرة” من نوع آخر؛ مسيرة هادئة، دؤوبة، ومتعددة الأبعاد، قادها بحكمة وتبصر الملك محمد السادس.

إنها مسيرة الشرعية التي حولت قضية الصحراء المغربية من ملف دفاعي معقد إلى حقيقة راسخة على الأرض، ومكسب دبلوماسي لا رجعة فيه على الساحة الدولية. وفي قلب هذه المسيرة يقف محمد السادس “المهندس الصامت” الذي أعاد رسم قواعد اللعبة الدبلوماسية ببراعة استراتيجية، جاعلا من قضية الوحدة الترابية محورا لرؤية شاملة ومتكاملة.

الدبلوماسية الملكية.. هندسة استراتيجية بعيدة المدى

مصدر الصورة

يعد القرار الأممي الذي ينتظر أن يتبنّاه مجلس الأمن، مساء اليوم الجمعة، بشأن قضية الصحراء المغربية ليس وليد الصدفة، بل هو ثمرة رؤية ملكية بعيدة المدى، فهو يجسّد حكمة الملك محمد السادس ورؤيته الواضحة وطموحه المتبصّر، المستند إلى حجج تاريخية وقانونية راسخة، حيث لا يمكن فصل هذا الإنجاز عن النهج العام للدبلوماسية الملكية التي تتميز بثلاث سمات رئيسية.

وتتمثل السمة الأولى لهذا النهج في بعده الاستراتيجي طويل الأمد، إذ بفضل تحليل دقيق للتحولات الإقليمية والدولية، تم وضع قضية الصحراء في صميم الثوابت الوطنية كقضية وجود لا تقبل المساومة. وبهذه الرؤية، انتقلت الدبلوماسية المغربية من مجرد إدارة الأزمة ورد الفعل إلى مرحلة الفعل الاستباقي وصناعة الحل، وتقديم المبادرات الواقعية القادرة على حشد الدعم الدولي.

أما السمة الثانية فهي شمولية المقاربة، حيث أدركت الرؤية الملكية أن المعركة الدبلوماسية لا يمكن كسبها بالسياسة وحدها، بل تتطلب تكاملا مع الأبعاد الاقتصادية والثقافية والدينية والإنسانية. فبناء الشرعية لا يقتصر على أروقة الأمم المتحدة في نيويورك وجنيف، بل يتجسد على أرض الواقع في العيون والداخلة عبر مشاريع تنموية كبرى تخدم الإنسان وتجعل من المنطقة قاطرة للازدهار.

وأخيرا، يكتمل هذا النهج بوضوح الأهداف، إذ تقوم الدبلوماسية الملكية على مبدأ يجمع بين الدفاع الحازم عن السيادة الوطنية والانفتاح على الحوار والتعاون المتوازن، حيث جسّد الملك هذا الوضوح حين أعلن أن قضية الصحراء هي “النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم”، وهو المبدأ الذي أصبح معيارا لقياس صدق الصداقات ونجاعة الشراكات، وأعاد ضبط علاقات المغرب مع محيطه وفرض الاحترام المتبادل.

العودة إلى العمق الإفريقي.. قلب الاستراتيجية النابض

منذ اعتلائه العرش، أدرك الملك أن المعركة الدبلوماسية من أجل الصحراء لا يمكن كسبها دون استعادة المغرب لمكانه الطبيعي في إفريقيا. وهكذا، انتهجت المملكة سياسة إفريقية متجددة، قائمة على التضامن والواقعية والتعاون جنوب-جنوب. لم تكن أكثر من خمسين زيارة ملكية إلى ما يزيد على ثلاثين دولة إفريقية مجرد رحلات بروتوكولية، بل كانت أساسا لبناء شراكات حقيقية، تُوّجت بتوقيع أكثر من ألف اتفاق ومذكرة تعاون في مجالات حيوية.

وشكّلت عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017 محطة مفصلية، حيث انتقل المغرب من سياسة “الكرسي الشاغر” إلى خوض المعركة من داخل المؤسسات القارية، مُفنّدا أطروحات الخصوم بالحجة والبرهان. هذه الرؤية الملكية الثابتة جعلت من المغرب فاعلا قاريا موثوقا به، يحمل همّ التنمية المشتركة ويجسد روح التضامن الإفريقي الحقيقي، مما أثمر دعما متزايدا لمغربية الصحراء داخل القارة.

وفاء لروابطه الأخوية والتزاماته التاريخية، عزّز المغرب تحت قيادة الملك حضوره الفاعل داخل الفضاء العربي. ويظهر ذلك من خلال الدعم الثابت للمبادرات العربية الهادفة إلى تحقيق الأمن والاستقرار، والانخراط النشط في إطار جامعة الدول العربية.

وفي هذا السياق، يبرز الموقف المبدئي الراسخ تجاه القضية الفلسطينية، حيث يضطلع الملك، بصفته رئيس لجنة القدس، بدور ريادي في نصرة القدس الشريف عبر مبادرات إنسانية ودبلوماسية ملموسة تخدم العدل والسلام.

هذا النهج المتوازن، الذي يجمع بين الالتزام بالقضايا العربية المشتركة وتوطيد الشراكات مع دول الخليج والمشرق، عزز من مكانة المغرب كصوت للحكمة والاعتدال، وحشد دعما عربيا شبه إجماعي لمبادرة الحكم الذاتي.

مبادرة الحكم الذاتي.. هندسة الحل السياسي الواقعي

مصدر الصورة

تمثل مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب إطارا تفاوضيا يهدف إلى هندسة حل سياسي واقعي، حيث تمنح سكان الأقاليم الجنوبية حكما ذاتيا موسعا تحت السيادة المغربية. تجسد هذه الرؤية فلسفة “الوحدة في إطار التنوع” التي تتبناها المملكة، وتقدم نموذجا لحل النزاعات يقوم على التوافق والبراغماتية بدلا من المواجهات العقيمة.

وتقوم هذه المبادرة على إنشاء مؤسسات محلية قوية تمنح السكان القدرة على إدارة شؤونهم بأنفسهم، حيث تقترح تأسيس برلمان جهوي منتخب يمتلك سلطات تشريعية واسعة في الشؤون المحلية مثل التنمية والثقافة والتخطيط. وإلى جانب البرلمان، تُنشأ حكومة جهوية تكون مسؤولة أمامه، ويكتمل الهيكل بجهاز قضائي جهوي يندرج ضمن الإطار القضائي الوطني الموحد، مما يضمن التوازن بين الخصوصية المحلية والوحدة الوطنية.

أحد الجوانب المحورية في المبادرة هو التقاسم الواضح للصلاحيات بين الدولة المركزية والجهة. فبينما تحتفظ الدولة بالصلاحيات السيادية الأساسية كالدفاع، والعلاقات الخارجية، والعملة، تتولى الجهة إدارة شؤونها المحلية بشكل مستقل وواسع، بما في ذلك الاقتصاد، والضرائب الجهوية، والتهيئة العمرانية. كما تولي المبادرة أهمية خاصة لصون الهوية والتراث الحساني، باعتباره جزءا لا يتجزأ من السياسات العمومية للجهة.

ولضمان نجاح هذا النموذج واستدامته، تتضمن المبادرة ضمانات حقوقية وموارد مالية مستدامة. فهي تلتزم بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان وتوفر آليات للطعن الدستوري والقضائي لحماية هذه الحقوق. وعلى الصعيد المالي، تضمن المبادرة للجهة موارد ذاتية من الضرائب والرسوم، تُدعم بتحويلات من ميزانية الدولة، مما يمكنها من تمويل خططها التنموية وتحقيق الازدهار لسكانها.

لقد حظيت هذه الرؤية بترحيب دولي واسع، حيث وصفت قرارات مجلس الأمن المتعاقبة المبادرة المغربية بأنها “جادة” و”ذات مصداقية”، وأصبحت دعوة المجلس إلى “حل سياسي واقعي وعملي ودائم قائم على التوافق” بمثابة المرجعية الأساسية للحل الأممي، وهو ما يعد انتصارا دبلوماسيا كبيرا للرؤية المغربية الواقعية.

تنويع الشراكات وتثبيت المكاسب الدولية

جعل الملك من تنويع الشركاء الدوليين محورا أساسيا لتعزيز استقلال القرار الوطني وترسيخ مكانة المغرب كقوة وازنة. فإلى جانب تعزيز العلاقات مع الحلفاء التقليديين كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإسبانيا، الذين يدعمون اليوم بشكل واضح المبادرة المغربية للحكم الذاتي، عمل المغرب على بناء جسور مع قوى صاعدة في آسيا وأمريكا اللاتينية.

إن التحولات التاريخية في مواقف دول كبرى، وعلى رأسها الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، لم تكن سوى تتويج لهذه الدبلوماسية الهادئة والفعالة، إذ تموضع المغرب بفضل هذه العبقرية في الرؤية الملكية كجسر حضاري بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب، يجمع بين التوازن والانفتاح والمصداقية.

وبفضل هذه الرؤية الملكية أيضا رسّخ المغرب مكانته داخل المنظومة الأممية كدولة مؤثرة وموثوقة. ويتجلى تتويج هذه الجهود في الدعم الدولي المتنامي للموقف المغربي، حيث أكثر من 125 دولة، أي ما يعادل 64% من أعضاء الأمم المتحدة، تدعم اليوم بشكل أو بآخر الموقف المغربي وتعتبر مبادرة الحكم الذاتي الحل الوحيد الجاد والواقعي للنزاع.

هذا الزخم لم يأت من فراغ، بل هو نتاج مشاركة المملكة النشطة في أعمال مجلس الأمن والجمعية العامة، وإسهامها الفاعل في عمليات حفظ السلم والأمن الدوليين، مما بنى للمغرب رصيدا من الثقة والمصداقية لا يقدر بثمن.

التجسيد الميداني.. التنمية كفعل سيادي

يعد أبلغ دليل على نجاح رؤية الملك محمد السادس هو ما يجري على الأرض. فبفضل التوجيهات الملكية، تحولت الأقاليم الجنوبية إلى نموذج للتنمية المتكاملة في إطار النموذج التنموي الجديد الذي أُطلق من العيون سنة 2015.

فالمشاريع الكبرى، من ميناء الداخلة الأطلسي إلى الطرق السريعة ومحطات الطاقة المتجددة، جعلت من الصحراء المغربية ورشا مفتوحا للتنمية والازدهار. هذه المقاربة الملكية المتكاملة رسّخت مغربية الصحراء بالفعل والتنمية، وقدمت للعالم دليلا ملموسا على أن مستقبل المنطقة يكمن في الازدهار تحت السيادة المغربية، وليس في وهم الانفصال.

لقد نجح الملك محمد السادس، “المهندس الصامت”، في استكمال ملحمة استرجاع الأرض بملحمة بناء الشرعية، وكانت استراتيجيته بمثابة نسج دقيق على خيوط الدبلوماسية والاقتصاد والتنمية، وهي الاستراتيجية التي حاصرت الخصوم، وأقنعت الحلفاء، وحسمت المعركة بهدوء وحكمة، محولة قضية الصحراء من نزاع مفتوح إلى مسار واضح نحو حل نهائي قائم على الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.

العمق المصدر: العمق
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا