كشفت المندوبية السامية للتخطيط عن معطيات صادمة تبرز أن الهجرة الداخلية أصبحت المحرك البنيوي الأول لإعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية والاقتصادية للمغرب، متجاوزة بأشواط الهجرة الدولية.
البيانات المستندة إلى الإحصاء العام للسكان والسكنى 2024 ترسم صورة لـ”نزيف سكاني” هادئ، حيث 40% من المغاربة غير مستقرين في جماعاتهم الأصلية، انتقلوا مرة واحدة على الأقل خلال حياتهم، في ظاهرة لا تعكس مجرد حركة، بل تكشف عن نموذج تنموي غير متوازن يركز الثروة والسكان في “مثلث الفرص” الكبير.
وأظهر التحليل الديموغرافي أن التنقل الداخلي ليس مجرد ظاهرة هامشية، بل هو واقع هيكلي. فرغم أن 60% من السكان ما زالوا مستقرين في مسقط رأسهم، فإن أربعة من كل عشرة مغاربة غادروا جماعتهم الأصلية بحثا عن حياة أفضل، في مؤشر على تزايد البحث عن الفرص والخدمات.
والمثير للانتباه، أن هذه الحركية تبدو أكثر وضوحا في صفوف النساء مقارنة بالرجال. إذ تمثل النساء أكثر من نصف مجموع المهاجرين الداخليين. هذا التحول العميق لا يعكس فقط العوامل العائلية، بل يجسد بشكل واضح مشاركة متزايدة للنساء في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، مما يشير إلى تغيير جوهري في الأنماط الاجتماعية للمجتمع المغربي.
وتؤكد الأرقام الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط، أن الهجرة الداخلية في المغرب هي في جوهرها “هجرة حضرية”، حيث أن نصف التنقلات تتم بين الأوساط الحضرية نفسها، مما يؤكد جاذبية المدن الكبرى كأقطاب للوظائف والخدمات وتحسين ظروف العيش. كما أن النزوح القروي مستمر، حيث ما زالت الحركة من الوسط القروي نحو الوسط الحضري بارزة، ما يؤكد استمرار تدفق رأس المال البشري من الأرياف نحو المراكز الحضرية.
في المقابل، تظل التنقلات من الحضر إلى القرى محدودة، وغالباً ما ترتبط بدوافع عائلية أو فترة التقاعد. ووفقا للمندوبية السامية للتخطيط، تتركز كل هذه التحركات في ثلاث جهات رئيسية تشكل محركات النمو الرئيسية، وهي: الدار البيضاء-سطات، والرباط-سلا-القنيطرة، وطنجة-تطوان-الحسيمة. وتستمد هذه الجهات جاذبيتها من تمركز البنيات التحتية الاقتصادية والإدارية، وهي تحقق معدلات استقطاب عالية جدا.
في المقابل، تعاني الجهات الداخلية من “عجز ديموغرافي” يهدد مستقبلها التنموي. حيث تسجل جهات مثل مراكش-آسفي، وفاس-مكناس، وبني ملال-خنيفرة، ودرعة-تافيلالت معدلات هجرة مرتفعة، وتفقد جزءاً مهماً من شبابها نحو المدن الساحلية الكبرى. ويعود هذا النزيف إلى محدودية فرص الشغل والتنمية المحلية، مما يؤدي إلى تعميق الفوارق الترابية بين “المغرب الناجح” و”المغرب المُنَزَف”.
وأشارت المندوبية إلى أن الهجرة الداخلية تعد آلية فعالة لإعادة توزيع السكان، لكنها تكشف في جوهرها عن “نموذج تنموي غير متوازن” يتجه فيه السكان نحو عدد محدود من الجهات ذات المزايا التنافسية.
وخلصت المندوبية السامية للتخطيط إلى أن هذه الديناميات السكانية تستدعي بلورة “سياسات عمومية ترابية أكثر استهدافا”، لا تهدف فقط إلى تتبع الهجرة، بل إلى معالجة أسبابها الجذرية، مشددة على أن هذه السياسات يجب أن ترتكز على تقليص الفوارق الجهوية من خلال خلق أقطاب اقتصادية جديدة، وهو ما ظهرت بوادره في الجهات الجنوبية التي بدأت تستقطب السكان نتيجة للاستثمارات الكبرى.
فالرهان اليوم، بحسب مندوبية بنموسى هو على إيقاف “نزيف” الـ 40% من السكان وإعادة توزيع الثروة والفرص لضمان نمو ديموغرافي واقتصادي أكثر عدالة واستدامة.
المصدر:
العمق