من قلب طنجة المتكئة على ضفتي المتوسط والأحلام تنطلق فعاليات الدورة الخامسة والعشرين للمهرجان الوطني للفيلم، في احتفاء يليق بذاكرة الصورة المغربية وإبداعاتها المتجددة. هنا، حيث تتعانق الريح مع الضوء، يلتقي صناع السينما ونقادها وجمهورها العاشق في لحظة استثنائية تُعلن أن الفن لا يشيخ، بقدر ما يتجدد بالسرد والرؤية وبالحلم.
ولا يمثل المهرجان مجرد تظاهرة فنية، وإنما مرآة تعكس تحولات المجتمع وتُصغي لنبضه عبر أفلام جديدة تنبش في الذاكرة وتؤسس للمستقبل. وتُصغي طنجة من جديد، المدينة المفتوحة على الأفق، لخطى السينمائيين المغاربة وهم يُعيدون رسم الواقع المغربي وتشكلاته وتعقيداته بالحكاية وبالصورة والحلم والضوء.
وسط زخم الحياة اليومية وضجيجها الصاخب تبرز بعض اللحظات الفريدة التي تفرض سكونها واحترامها على الجميع، تمامًا كما هو ملصق فيلم “ابن السبيل” (1981) الذي حمل صورة الراحل علي حسن وهو يقود شاحنته، صورة تجاوزت كونها ترويجًا لفيلم، لتصبح لحظة وفاء لفنان وإعلامي ظل صوته ووجهه مألوفين لدى عشاق السينما والثقافة في المغرب لعقود طويلة.
علي حسن لم يكن مجرد إعلامي يكتب أو يعلّق، بقدر ما كان صوتًا صادقًا، ووجهًا لم يغادر الميدان حتى آخر لحظاته؛ ملصق مهرجان الوطني للفيلم أكتوبر 2025 جاء ليؤرخ لحضوره الإنساني والفني، ويمنحنا لحظة تأمل في معنى الوفاء وتقدير العطاء، خصوصًا في ظل موجة من النسيان تطال الكثير من المبدعين بعد غيابهم.
ولا يجب أن يكون تكريم الفنان لحظة بروتوكولية تختزل في درع وشهادة وتصفيق عابر، وإنما هي ملصق ناطق بالاحترام والتقدير، وهو مشهد يستعيد فيه الجمهور ذلك البريق الإنساني الذي ميزه، وهذا ما تحقق فعلاً مع هذا الملصق، الذي حمل الكثير من الصدق والرمزية.
أن يقود علي حسن شاحنته على الملصق ليس فقط اختيار بصري، بل تعبير عن مسيرة رجل قاد الثقافة السينمائية المغربية، كما يقود سائق متمرس عربته في طرق وعرة، متحملاً صعوبات الطريق دون أن يتوقف عن الحلم. إنها لحظة تزاوجت فيها السينما مع الحياة.
في أجواء احتفالية تنبض بالشغف السينمائي والحنين إلى جذور الإبداع المغربي أعلنت مدينة طنجة افتتاح الدورة الخامسة والعشرين من المهرجان الوطني للفيلم، وسط حضور مكثف لصناع السينما والنقاد وجمهور متعطش للفن السابع. وأعلن رئيس لجنة تحكيم الأفلام الطويلة، المخرج حكيم بلعباس، انطلاق فعاليات المهرجان بكلمات مقتضبة لكنها مشبعة بالدلالات، ليترك المكان لبداية رمزية بامتياز: عرض فيلم “الحال” للمخرج أحمد المعنوني، تحية لواحد من كبار صناع الصورة المغربية، في تكريم مستحق لرائد وثق لحظة نادرة في التاريخ الثقافي المغربي.
لا يعتبر فيلم “الحال”، الذي صُوّر سنة 1980، مجرد وثائقي موسيقي عن مجموعة ناس الغيوان، بقدر ما هو قصيدة بصرية تلتقط روح زمن بأكمله. في زمن الحراك السياسي والفني الذي شهده المغرب في سبعينيات القرن الماضي اختار المعنوني أن يصور فرقة غنائية لا تشبه سواها، ناس الغيوان، التي حولت صوت الشارع إلى أناشيد غضب وحلم وأمل. وعبر جولاتها في المغرب وتونس وفرنسا، لامست الكاميرا نبض الجمهور ووجدانه، حيث يتحول التفاعل مع الموسيقى إلى طقس صوفي، إلى ما يُعرف بـ”الحال”، لحظة من الذوبان الصوفي في النغم والصرخة والرقص الجماعي.
وتوثق مشاهد الفيلم هذا التوتر الحيوي بين الفردي والجماعي، بين الواقع والحلم، بين الصمت والكلمة الغاضبة. ومن قلب مدينة الصويرة، حيث الجذبة والحضرة والصوت المتوسطي الإفريقي المتوسل بالروح، يظهر عبد الرحمن باكو، أحد أعضاء المجموعة، ككائن طقسي يوقظ الأرواح الراكدة، تمامًا كما تفعل الأغنية. وكلمات “أهل الحال يا أهل الحال، إمتى يصفى الحال؟” لا تُنشد فحسب، وإنما تصرخ، وتُعاش، وتُجسد. وفي فيلم “الحال” البطولة جماعية، كما أن الصوت جماعي، وكذلك الغضب.
كان الاشتغال البصري للمخرج حادًا رغم بساطة الوسائل، إذ اعتمد كاميرا واحدة فقط، لكنه عوّض عن قلة المعدات بحس إخراجي عميق، مزج فيه بين اللقطة العامة والكلوز آب، وبين ارتجال الجمهور وهيجان البحر، وفي مونتاج تراكبي يُولد معنى جديدًا من التداخل. وكان المخرج المعنوني يحرص على مشاهد البروفات التي كان يعمل على إجرائها قبل التصوير، وساهمت في رفع جودة الأداء وتخليص العمل من الزمن الميت
وفي لحظة عابرة للحدود والزمن أعيد اكتشاف “الحال” بفضل المخرج العالمي مارتن سكورسيزي، الذي أنقذ الفيلم من الضياع التام؛ وكان شاهده أول مرة في 1981، حين كان يمر بأزمة إبداعية، فترك أثرًا عميقًا فيه. وبعد ست وعشرين سنة، لما أسس سكورسيزي مؤسسة لترميم الأفلام، اختار “الحال” كأول عمل يعيد إليه الحياة. وهذا الاختيار لم يكن صدفة، وإنما هو اعتراف عالمي بقيمة فيلم مغربي غيّر مسار التعبير البصري عن الموسيقى. لاحقًا، حاكى سكورسيزي روحه في فيلمه “Shine A Light”، “ضوء يتوهج” (4أبريل 2008)، عن فرقة الرولينغ ستونز؛ وقد صُوّر في الولايات المتحدة خلال حفلين لفرقة رولينغ ستونز في قاعة بيكون ثياتر (Beacon Theatre) في نيويورك سنة 2006، بحضور ضيوف موسيقيين مثل كريستينا أغيليرا، وجاك وايت، وبودي غاي.
ويوثق الفيلم تلك العروض الحية، ويتضمن لقطات أرشيفية وأحاديث مقتضبة، مع أسلوب بصري متقن من توقيع سكورسيزي، وقد صُوّر باستخدام أكثر من 15 كاميرا بواسطة طاقم من كبار مديري التصوير في هوليوود.
ويعتبر افتتاح مهرجان الفيلم الوطني بهذا الفيلم ليس مجرد تكريم لماضٍ مجيد، وإنما تذكير بأن السينما المغربية حين تصغي لنبض المجتمع وتتوغل في العمق الرمزي والبصري للواقع قادرة على أن تصنع الأجمل. وفيلم “الحال” مازال يرقص، يحتج، يصرخ، ويقول لنا إن الصوت حين يصدر من الجذور لا يموت.
للإشارة، وعلى المستوى التاريخي، عرف مهرجان الوطني الفيلم منذ انطلاقته في الدورة الأولى، بالرباط من 09 إلى 16 أكتوبر1982، انتقالا بين مجموعة من المدن المغربية: الدار البيضاء ومكناس وطنجة ووجدة، ليستقر به المقام منذ الدورة الثامنة بطنجة من 02 إلى 10 دجنبر1995 إلى الآن.
حدث آخر أثار الانتباه بالتزامن مع انطلاق هذه النسخة، إذ عمل المخرج إدريس اشويكة على سحب فيلمه “طحالب مرة” من المهرجان، وكتب في صفحته على “فيسبوك”: “يا لها من تعاسة !بعد مسيرة فنية حافلة امتدت لنحو خمسة عقود (ستة أفلام طويلة، ثمانية أفلام تلفزيونية، سبعة عروض مسرحية/سينمائية، برامج تلفزيونية متنوعة…)، ومشاركة نشيطة وفعّالة في كل دورات المهرجان الوطني للفيلم منذ انطلاقته سنة 1982، حيث شاركت جميع أفلامي في المسابقات الرسمية، أجد نفسي مضطراً لسحب فيلمي الجديد “طحالب مُرّة” من الدورة الخامسة والعشرين للمهرجان الوطني للفيلم، إثر القرار الجائر وغير المبرر للجنة الاختيار، برئاسة المخرج إسماعيل الفروخي، باستبعاده من المسابقة الرسمية !”، وأضاف: “يا لها من تعاسة! وكم هو محبطٌ الفريق الذي شارك بمهارة وحب في صنع هذا الفيلم، الذي حصل بعض أعضائه على عشر جوائز بعد مشاركته الرابعة في المسابقات الرسمية في المهرجانات الدولية الأولى التي شارك فيها! ومن باب الاحترام لجميع من ساهم في إنجاز هذا الفيلم، الذي لاقى استحساناً واسعاً من طرف كل من شاهدوه حتى الآن، فإنني أسحب تقديمه في المهرجان الوطني للفيلم. وبه وجب إعلام من له أذن صاغية!”.
هكذا تبتدئ النسخة الجديدة من المهرجان الوطني للفيلم (2025) على إيقاع الاحتفاء بوجوه ثقافية وإعلامية وسينمائية، وفي الوقت نفسه على إيقاع الانسحاب المبكر لفيلم “طحالب مرة”.