سلسلة رحلة العمر.. انطباعات حاج مغربي
الحج ليس مجرد سفر أو تنقل بين شعائر وأمكنة، بل هو عبور روحي عميق يعيد صياغة علاقة المسلم بربه ونفسه والعالم من حوله، فمنذ أن نادى الخليل إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج، ظل هذا الركن العظيم يجمع المسلمين من كل فج عميق، في مشهد مهيب تتجلى فيه وحدة الأمة ومساواتها أمام الله.
في هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “العمق”، يوثق الحاج المغربي أحمد الطلحي، المنحدر من مدينة طنجة والخبير البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية، تفاصيل رحلته إلى الديار المقدسة خلال موسم 1446 هـ، بعد سنوات طويلة من الانتظار والدعاء.
بين الشوق قبل السفر، والسكينة في المشاعر، والمواقف المؤثرة في عرفات والطواف، يقدم الطلحي شهادة صادقة وتأملات روحية وإنسانية وتنظيمية، يشارك من خلالها القارئ مواقف لا تُنسى، ونصائح قد تعين المقبلين على هذه الفريضة العظيمة.
ـــــــــــــ
الحلقة الثامنة: مناسك النحر وأيام التشريق.. بين رمي الجمرات وخشوع القلوب
1- يوم النحر:
10 ذي الحجة، هو يوم النحر بالنسبة للحجاج وعيد الأضحى لباقي المسلمين، ذلك لأن الحجاج لا عيد لهم، وإنما أداء عدد من مناسك الحج. وباستثناء طواف الإفاضة كل أعمال يوم النحر وأيام التشريق تكون في منى.
– أعمال يوم النحر:
أعمال يوم النحر أربعة، اختصرها العلماء في كلمة “رنحط” بحيث كل حرف يدل على عمل، وهي بهذا الترتيب: رمي جمرة العقبة، ونحر الهدي، والحلق، وطواف الإفاضة.
– رمي جمرة العقبة:
رمي جمرة العقبة، أو الجمرة الكبرى، وذلك ابتداء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويجوز لأصحاب الأعذار مثل المسنين ومن يرافق النساء الرمي بعد الغروب وبالليل. يرمي الحاج سبع حصيات، مع التكبير عند رمي كل حصاة. وحجم الحصاة الواحدة أكبر من حبة الحمص وأصغر من حبة الفول، ويشترط أن تقع الحصيات في الحوض.
وبعد الرمي يقوم الحاج بالدعاء متوجها نحو القبلة والجمرة في الظهر. ورمي الجمار من ذكر الله، لقوله ﷺ : “إنَّما جُعِلَ الطَّوافُ بالبَيتِ وبالصَّفا والمَرْوةِ، ورَمْيُ الجِمارِ، لإقامةِ ذِكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ” (روته عائشة أم المؤمنين، أخرجه أبو داود وأحمد). ورمي الجمار يوم النحر وأيام التشريق من واجبات الحج السبعة التي إن لم يقم بها الحاج وجب عليه الهدي أي الذبح.
– نحر الهدي:
ثاني عمل يقوم به الحاج المتمتع والقارن هو نحر الهدي، بينما لا يفرض على الحاج المفرد. وبما أنه لم يعد ممكنا القيام بعملية الذبح ولا تتبعها، فهناك جهات مرخص لها بشراء وذبح الهدي وتوزيعه على الفقراء نيابة عن الحجاج، الذين يقومون بدفع المال لهذه الجهات، يكتفي الحاج بنية نحر الهدي.
ومن الأخطاء الشائعة بين الحجاج ومعظم المسلمين هو اعتقادهم أن الهدي هو أضحية العيد وأن هديا واحدا يكفي الحاج وزوجته أو باقي أفراد أسرته الذين معه في الحج، بينما أن الهدي كما تقدم لكل حاج متمتع ومقرن رجلا أو امرأة وليس له علاقة بأضحية العيد، لأن الحجاج معفيون من هذه السنة المؤكدة، وطبعا أسرهم في بلدانهم غير معفيين.
– الحلق:
الحلق أو التقصير من واجبات الحج أيضا، لقوله ﷺ : “..وليُقَصِّر ولَيْحِلل..” (رواه عبد الله بن عمر، صحيح البخاري ومسلم). والحلق أفضل من التقصير، فعن أم الحصين الأحمسية “أنَّها سَمِعَتِ النبيَّ ﷺ في حَجَّةِ الوَداعِ دَعا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً. وَلَمْ يَقُلْ وَكِيعٌ: في حَجَّةِ الوَداعِ” (صحيح مسلم).
– طواف الإفاضة:
هو الركن الرابع للحج، ومن لم يستطع القيام به يوم النحر يجوز له تأخيره إلى ما بعد أيام التشريق بل إلى آخر شهر ذي الحجة.
وإذا قام الحاج بالأعمال الثلاثة الأولى يمكنه التحلل تحللا أصغر، أي التخلي عن لباس الإحرام والقيام بجميع موانع الإحرام باستثناء المعاشرة الزوجية التي لا تكون إلا بعد طواف الإفاضة، وهو التحلل الأكبر.
وخلال هذا اليوم يصلي الحجاج الصلوات المفروضة قصرا لا جمعا، باستثناء حجاج مكة، لأن منى تعتبر من مكة. كما يستمر الحجاج في الذكر والدعاء.
– كيف قمنا بأعمال يوم النحر:
قبل الظهر ذهبت أنا وزوجتي لرمي جمرة العقبة الكبرى، وكانت شبه فارغة، لدرجة انتابني الشك وظننت أنها الجمرة الصغرى أو الوسطى، فذهبت أسأل أحد أفراد الشرطة فأكد لي بأنها الجمرة الكبرى.
الحمد لله رمينا الحصيات السبع بيسر وبدون ازدحام كما كان الأمر في الماضي، ودعونا الله بعد ذلك متجهين إلى القبلة والجمرة وراءنا كما هي السنة.
بعد ذلك، صلينا الظهر في مسجد الخيف، أو مسجد الأنبياء كما يسمى أيضا، حيث صلى فيه الرسول ﷺ والأنبياء من قبله، فقد روى عبد الله بن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: “ صلّى في مسجدِ الخَيْفِ سَبعونَ نبيًّا منهُم موسى، كأنِّي أنظرُ إليه وعليهِ عباءتانِ قَطوانِيَّتانِ وهوَ مُحرِمٌ، على بعيرٍ من إبلِ شَنوءَةَ مَخطومٍ بخطامِ ليفٍ، لهُ ضَفيرَتانِ” (أخرجه الفاكهي والطبراني والمخلص).
ثم عدنا إلى المخيم، وقمت بالحلق وتحللت. وأدينا باقي الصلوات في المخيم قصرا، مع الذكر والدعاء وتلاوة القرآن.
بالنسبة للهدي، فقد اشتريناه في مكة قبل أن نتوجه إلى عرفات بأسبوع، وكان سعر الهدي لكل فرد هذه السنة هو 720 ريال وهو ما يعادل 1800 إلى 1900 درهما حسب سعر الصرف.
2- أيام التشريق:
أيام التشريق هي أيام 11 و12 و13 ذي الحجة، والمتعجل يمكنه الاكتفاء بيومين على ألا تغيب عنه شمس يوم ال12 في منى، قال تعالى: “واذكروا الله في أيام معدودات* فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه* ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى* واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون” (البقرة: 203).
وسميت هذه الأيام بأيام التشريق في الغالب نسبة إلى عادة العرب في حفظ اللحم من التلف، إذ كانوا يقطعونه إلى قطع يجففونها في الشمس، فكانوا بذلك يُشرّقون اللحم.
– أعمال أيام التشريق:
المبيت بمنى من واجبات الحج، وذلك ليلتي 11 و12 للمتعجل مع إضافة الليلة ال13 للمتأخر، والمتعجل يغادر منى يوم 12 قبل الغروب والمتأخر يوم 13 قبل الغروب كذلك.
وأعمال أيام التشريق تتمثل أساسا في رمي الجمرات الثلاث كل يوم، يبدأ الحاج بالصغرى ثم الوسطى فالكبرى، يرمي سبع حصيات في كل جمرة مع التكبير عند رمي كل حصاة، والدعاء ما بين الصغرى والوسطى وما بين الوسطى والكبرى، وبعد الكبرى ينصرف ولا يدعو. والرمي يكون بعد آذان الظهر إلى غروب الشمس، ويجوز الرمي ليلا لمن كان له عذر مثل كبار السن والضعفاء والنساء.
– كيف قمنا بأعمال أيام التشريق:
في اليوم الأول من أيام التشريق رمينا الجمرات الثلاث، بدون ازدحام أيضا، وصلينا العصر في مسجد الخيف. ولاحظنا اكتظاظا في الشارع الرئيسي لمنى فكنا نسير ببطء. وخلال اليوم بقينا في المخيم نتبادل الحديث تارة مع باقي الحجاج ونؤدي الصلوات قصرا جماعة داخل الخيام، مع الاستمرار في الذكر والدعاء وتلاوة القرآن.
وبسبب الإرهاق والتعب الذي عانينا منه نتيجة ظروف الإقامة غير المريحة في المخيم، ولتراكم التعب من يوم التروية، ولطول المسير الذي تفرضه السلطات السعودية على الحجاج عند رمي الجمرات تفاديا لوقوع الازدحام، حيث كنا نمشي مسافة 9 كلم ما بين الذهاب والإياب، قررنا أن نتعجل ونرحل إلى مكة في الغد، بعدما كنا ننوي التأخر وربح أجر أعمال اليوم الثالث.
في اليوم الثاني، ذهبنا لرمي الجمرات بعد صلاة الظهر، وبعدما ارتحنا بعض الوقت في المخيم أخذنا متاعنا وغادرنا منى، وبسبب الازدحام المروري لم نصل إلى الفندق في مكة إلا بعد ساعتين، بينما المسافة كانت تتراوح ما بين 10 و12 كلم.
ـــــــــــ
* أحمد الطلحي: إطار مغربي وخبير في البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية