آخر الأخبار

شخصية الزبّال في السينما.. حكايات بطل هامشي يحمل بصمات الطبقة والنبذ

شارك

يتسلّح الزبّال في السينما بأدوات أخرى، بيدين ملطّختين، لكنه يُمسك بهما بوابة النظر. وتحفر الكاميرا معه في الركام، حيث لا تبحث عن نظافة شكلية، بقدر بحثها عن حقيقة مستورة في الزوايا المظلمة. وتتبعُ أثره كي تسائل البنية الاجتماعية، وتنسج من صوته الهامس صرخة مكتومة. في ذلك المدى المهمل تولد سينما أخرى، سينما تلتقط القمامة بوصفها سردًا ونصوصا بصرية، وتلمس القاع لتكتب ما لن يكتبه الأعلى، ولتطرح مجموعة من الأسئلة يمتزج فيها البعد الاجتماعي بالسياسي بالثقافي والفني: كيف يتحوّل جسد منسيّ في زاوية الشارع إلى مرآة لوجه المدينة؟ وكيف تمارس الكاميرا فعل الاعتراف حين توجّه عدستها نحو من يكنس آثار الآخرين؟ وكيف يُصبح الزبّال حاملًا لأسئلة الكرامة بينما لا يراه أحد؟ وهل يحقّ للسينما أن تعيد الاعتبار لمن داسهم السرد الرسمي تحت عجلات الحداثة؟ وهل تستطيع صورة متّسخة أن تكون أنظف من خطاب دولة؟…

تقتحمُ هذه الأسئلة عصب السينما حين تقف وجهاً لوجه أمام “الهامش” وتُجبَر على الإصغاء. ولا يظهر الزبّال (جامع القمامة) في هذه الأفلام ككائن جانبي أو مكمّلٍ للحدث، وإنما يتقدّم بصفته استعارة كاملة للجسد المقصي، وللروح التي تنجو رغم كل شيء. وينكشف من خلاله التاريخ المصمتُ والاقتصاد المعطوب، وتطلّ من عينيه الخرائط الخفية للفقر والصمت والانكسار، لكن أيضًا للكرامة والمقاومة والقناعة في نفس الوقت.

رمز الإنسان المهمش

في قلب المدن المتخمة بالتفاوتات الطبقية، حيث تتراكم النفايات وتختفي الأرصفة تحت وطأة الإهمال، تنبثق شخصية الزبّال في السينما كرمزٍ للإنسان المهمّش، ذاك الذي يعيش في الظل، لكنه يحمل في جسده الهشّ ذاكرةً حضريةً لا تقل أهمية عن القصور البيضاء. من هنا يبدأ التأمل: هل يمكن للقمامة أن تحكي قصة؟ هل يستطيع الزبّال أن يكون بطلًا سينمائيًا؟ وهل تُخفي الأماكن المهجورة طاقةً سرديةً قادرة على مساءلة السلطة؟

في هذا السياق تتخذ السينما موقفًا غير مألوف، فتمنح الكاميرا حرية الانحناء نحو الأرض، نحو من يكنسها، نحو من يعيش في هامشها، حيث تقول إحدى الشخصيات في فيلم مغربي: “أنا الزقاق والمستنقع، أنا النسيج والهامش”، وهي عبارة تلخص فلسفة كاملة عن التهميش، عن الجمال المتحلل، عن الإنسان الذي يرفض أن يُمحى. وهذا الجسد الذي يلامس القمامة لا يُختزل في مهنة، بل يتحول إلى موقعٍ للمقاومة، كما رأى جيل دولوز في فلسفته الظاهراتية، حيث الجسد آلة يعاكس الخطابات المهيمنة ويصبح حاملًا لبصمات الطبقة والنبذ.

الانتقال إلى السينما العالمية يكشف عن تشابهات مذهلة في التمثل البصري للزبّال. وتظهر في فيلم “روما” (Roma، (2018 للمخرج ألفونسو كوارون خادمة تعمل في البيوت الفاخرة، تتحدّى التمييز الطبقي والعرقي في فضاء المكسيك الحداثي. ويستخدم الفيلم الأبيض والأسود كرمز للحنين والنقد، وتراقب الكاميرا الفئات النافية للسلطة بمزيج من المراقبة والشهادة، قبل أن تتوشح بالتعاطف. ويتساءل الفيلم: كيف تروى قصة من قلب ظلم اجتماعي؟ فينطق الجسد الصامت بالرد، ويصبح الصمت نفسه فعلًا مقاومًا.

ويصور المخرج شاون بيكر في فيلمه “مشروع فلوريدا” (The Florida Project” “، (2017، حياة عائلات تقطن فنادق رخيصة على مشارف ديزني وورلد، حيث يعمل الأب عامل نظافة مؤقتًا، وقد مال الركب نحو العيش على هامش البهجة الكرتونية. وبدت صرخات الأطفال خلف المناطق الترفيهية كما لو أنها صورة الزوال في قلب الرأسمالية، واستحضرت الكاميرا اليدوية كجسد ينبض، يتسارع مع خطواتهم ونكاتهم، ويحرّكنا الفيلم نحو الواقع المحطم، حيث يقول أحد التعليقات في الفيلم: “نعيش لعبًا ونموت في الظل”، وهي فكرة تجسّد البراءة المنبوذة، وتنبذ الأمكنة الملوثة بالبلاستيك والمخلفات، وتعيد تعريف الطفولة في سياق اقتصادي قاسٍ.

القمامة أداة للمساءلة والمقاومة

لا ينفصل التمثل البصري للزبّال عن الخطاب السياسي، إذ يجمع بين رؤية ميشيل فوكو في “المعرفة والسلطة”، حيث تتحوّل النظافة إلى خطاب تمييزي، وتصبح القمامة أداة للمساءلة. ويعالج فيلم “بيبلي مباشر” (Peepli Live، (2010للمخرج الهندي أنوشا ريزفي موت فلاحين مهمّشين قرب قمامة المدن الكبرى، ويسخر من منطق الإعلام الذي يعامل الموت كخبر. تقول إحدى الشخصيات بسخرية سوداء: “في الموت لا فرق بين الزبّال والمزارع”، وهي عبارة تطمس الخط الفاصل بين المركز والهامش، وتعيد التركيز على المشترك الإنساني، وتفضح استغلال وسائل الإعلام للمعاناة.

ولا يقل الجانب الفني أهمية عن المضمون، حيث يتم استخدام الإضاءة واللون كمؤشرات طبقية. يتألق في فيلم “قبر اليراعات” (1988، Grave of the Fireflies) الياباني إيساو تاكاهاتا. ويصوّر الفيلم قصة طفلين، سيتا وأخته الصغيرة سيتسوكو، بعد أن فقدا والدتهما في غارة جوية. ويتنافس الطفلان مع خرائط الأنقاض في اليابان بعد الحرب في مدينة كوبي، حيث صار جمع القمامة مهنة بقاء. وترسخ الصور الرمادية المتلاشية والمقاطع المغبرة إيقاعًا بصريًا يجعل القمامة حياة بديلة، ويحوّل الأنقاض إلى سردية وجودية، ويجعل الزبّال طفلًا يحاول النجاة في عالمٍ منهار.

وفي المدن العربية تتخذ هذه الرؤية بعدًا ثقافيًا خاصًا، حيث تفتح صناديق القمامة وضفادع الأزقة القديمة ذاكرة شعبية تعكس التيه الحضري، وتكشف هشاشة البنية التحتية أمام العولمة. ويتجوّل عامل النظافة في أزقة المدينة العتيقة، عاشقًا لها رغم احتقار الناس له. ويزرع الهوية الحضرية في النفوس من خلال السرد البصري للأرصفة وحاويات النفايات، ويطرح سؤالًا ضمنيًا عن الجمال المتحلل، عن العلاقة بين المركز والهامش، عن المدينة التي لا تُروى من فوق، بل من تحت.

وفي السياق العربي المعاصر يهرب الخطاب السينمائي من النخبوية ويتناول فيلمًا جزائريًا بعنوان “سوق الزبّالين” (2005) للمخرج هشام عرّاح، حيث يجول الفيلم في سوق المدينة، حيث باعة القمامة والباعة الجوالون ينحتون هويةً من بقايا الحداثة، ويرصد الطقوس اليومية والتبادلات العابرة بين السلع والشخصيات الشعبية. ويتفاوت جمال الصورة بين ضوء النهار الباهت والظلال المائلة، ويُدرج اقتباسات صغيرة من سكان الحي، مثل “الزبّال كلمة شرف عندنا”، وهو تعريف لمفهوم الكرامة ضمن هشاشة الظروف، وتحوّل المهنة إلى وسامٍ اجتماعي.

ولا يكتفي الطرح السينمائي بالتصوير، بل يربط ذلك بأطروحات اجتماعية وفلسفية. ويرى السينمائيون الذين تناولوا الزبّال أنهم يقدمون نقدًا غير مباشر للأنظمة القمعية، عبر الإضاءة على من هم “على الهامش”. ويستند هذا إلى خلفيات نيو- ماركسية ترى الطبقات الدنيا كساحة صراع مضاد للهيمنة، ويُظهر كيف يتّخذ الزبّال شكلًا مقاومًا بصريًا، حينما تكتب الكاميرا عن الأماكن المهجورة بحنان، وتحوّل الأوساخ إلى نسيج شعري، والرفوف المنهارة إلى رموز سقوط حضاري.

وهذا الطرح لا يتوقف عند الماضي، بل يفتح الباب لأفلام جديدة قد تلتقط المشهد ذاته. ويقترب الفيلم العراقي “جنائن معلقة” (2022) للمخرج أحمد ياسين الدراجي، ويتناول قصة طفلين، أسعد وطه، يكسبان رزقهما من جمع المعادن والبلاستيك من مكب نفايات في بغداد القمامة بضواحي بغداد، حيث تجمع الكاميرا بين الحركة البطيئة والإضاءة الطبيعية القاسية. وتُعرض لقطات من مقابلات صامتة مع هؤلاء الأشخاص، فيتبدّى الشحوب والقلق، ويروي معها السرد حكاية وجود مهدور، ويسجل العلاقة القاتمة بين المنتوجات المرمية والمستخدمين، ويطرح سؤالًا عن معنى الحياة حين تُختزل في جمع ما تخلّى عنه الآخرون.

وتُظهر السينما الزبّال كرمز للإنسان الذي يرفض أن يذوب في النفايات، ويجعل من القمامة ذخيرة سردية وكلكنةٍ جمالية. ولا يعود الزبّال مجرد عامل، بل يصبح شاعرًا بصريًا، يكتب على الأرصفة، يروي من تحت، ويقاوم من الهامش. ولا تكتفي هذه الأفلام بالتصوير، وإنما اجتراح صور ذات طاقة ثورية، وتفتح المجال لسرديات جديدة، حيث القمامة ليست نهاية، بقدر ماهي بداية لحكاية لم تُروَ بعد.

طريق الصمت والرفض

في قلب سينما الزبّال يتجلى ككائن هشّ يجرّ خلفه عربته، يراقب العالم من تحت، ويلتقط ما يسقط من الآخرين، ويعيد تشكيله في سردية وجودية. وينهض من تحت الركام، لا ليعلن انتصاره، وإنما ليحفظ كرامته. ويتخذ موقعًا رمزيًا لا يُرى بسهولة، لكنه يفرض حضوره عبر حساسيته، عبر مواقفه الصغيرة التي تفضح النظام الكبير.

ويبدأ البطل في هذه السينما من موقع الرفض الصامت. فهو لا يصرخ، لا يطالب، لكنه يراكم نظراته، ويختزن غضبه، ويحوّل جسده إلى مرآة للمدينة. في فيلم “الطريق” (1954،La Strada) للمخرج الإيطالي فيديريكو فيليني تظهر شخصية زامبانو كعامل متجول، يجرّ عربته ويؤدي عروضًا بدائية، بينما ترافقه جيلسومينا التي تمثل الهشاشة المطلقة. ورغم أن الفيلم لا يقدّم زبّالًا حرفيًا، فإن البطل يعيش في هامش المدينة، يلتقط فتات الحياة، ويعكس التوتر بين القسوة والبراءة. تقول جيلسومينا في لحظة انكسار: “ربما نكون هنا لسبب ما، حتى لو لم نفهمه”، وهي عبارة تفتح بابًا للتأمل في معنى الوجود الهامشي، في دور من لا يُحسب ضمن المعادلة الاجتماعية.

ويتحوّل البطل في سينما الزبّال إلى شاهدٍ على انهيار القيم. فهو لا يملك أدوات التغيير، لكنه يملك العين التي ترى، واليد التي تلتقط، والذاكرة التي تحفظ. في فيلم “سارقو الدرجات” (1948) للمخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا يظهر الأب كبطلٍ مكسور، يبحث عن دراجته المسروقة، وهي وسيلته للعمل في لصق الإعلانات. فهو لا يعمل زبّالًا، لكنه يعيش في نفس الهامش، حيث تُختزل الكرامة في أداة بسيطة. يقول في لحظة يأس: “بدون الدراجة لا أساوي شيئًا”، وهي عبارة تكشف كيف تتحوّل أدوات العمل إلى رموز للهوية، وكيف يصبح الفقد الاقتصادي فقدًا نفسيًا واجتماعيًا.

ويتخذ البطل في هذه السينما موقفًا من العالم دون أن يعلن ذلك. فهو يراقب، يتألم، ويواصل. في فيلم “أرض الرحل” (2020، Nomadland) للمخرجة كلوي تشاو تظهر البطلة فيرن كامرأة تعيش في شاحنة، تعمل في وظائف مؤقتة، منها تنظيف المراحيض وجمع القمامة. ولا تُقدّم كزبّالة، لكنها تجسّد روح الزبّال: التنقل، التهميش، إعادة التدوير الوجودي. تقول في أحد المشاهد: “أنا لست بلا مأوى، أنا بلا بيت”، وهي عبارة تفصل بين الفقد المادي والاختيار الوجودي، وتعيد تعريف البطولة كقدرة على البقاء دون إذلال.

وتتجلى حساسية البطل في سينما الزبّال عبر علاقته بالأشياء. فهو لا يتعامل معها كفضلات، بل كآثار، كبقايا حياة. فيلم “أرض النفايات” (2010، Waste Land) للمخرجة البريطانية لوسي ووكر يُوثّق حياة جامعي القمامة في البرازيل، ويحوّل نفاياتهم إلى لوحات فنية بالتعاون مع الفنان فيك مونيز. يظهر البطل هنا كعامل نظافة، لكنه يتحوّل إلى فنان، إلى راوٍ بصري، إلى من يعيد تشكيل العالم من بقاياه. يقول أحد المشاركين: “كل شيء له قيمة، حتى ما يُرمى”، وهي عبارة تعكس فلسفة الزبّال، الذي يرى في المهمل كنزًا، وفي القمامة سردًا.

البحث للعيش خارج المعادلة

تُطرح إشكاليات البطل في هذه السينما من زوايا متعددة، اجتماعيًا، يُنظر إليه كمنبوذ، كمن يعيش في الهامش، كمن لا يُحسب في المعادلات السياسية. ويُستخدم سياسيا كرمز للطبقة الدنيا، كمن يُستغل دون صوت. واقتصاديًا، يُختزل في أجرٍ زهيد، في وظيفة لا تُذكر، في عمل يُؤدى في الظل. ونفسيًا، يحمل آثار النبذ، لكنه لا يستسلم، ويخلق لنفسه عالمًا خاصًا، يملؤه بالمعنى. ورمزيًا، يتحوّل إلى مرآة للمدينة، إلى من يرى ما لا يُرى، إلى من يلتقط ما يُهمل، ويعيده إلى الحياة.

وتتجلى هذه الأبعاد في فيلم “كيس” (1969، Kes) للمخرج الإنجليزي كين لوتش، حيث يظهر الطفل بيلي منبوذا في مدرسته وعائلته، فيكتشف طائرًا جارحًا ويربيه، في محاولة للعثور على معنى وسط الإهمال. لا يعمل زبّالًا، لكنه يعيش في نفس الهامش، في نفس التهميش، في نفس الحساسية. يقول في لحظة صفاء: “الطائر لا يحتاج إلى أحد، هو حرّ”، وهي يعكس حلم الزبّال بالتحرر، بالانفلات من النظام، والعيش خارج المعادلة.

ويتخذ البطل في هذه السينما موقفًا جماليًا من العالم. لا يرفضه، بل يعيد تشكيله. يرى في القمامة جمالًا، في المهمل معنى، في التكرار إيقاعًا. في فيلم “جمال أمريكي” American Beauty) 1999،) للمخرج سام منديس يظهر مشهد شهير لكيس بلاستيكي يطير في الهواء، يصفه أحد الشخصيات بأنه “أجمل شيء رأيته”، وهي لحظة تكشف كيف يمكن للجمال أن ينبثق من المهمل، وكيف يمكن للزبّال أن يرى ما لا يراه الآخرون، وكيف يمكن للبطولة أن تكون في العين، لا في الفعل.

وتتعدد الشخصيات في هذه السينما، لكنها تشترك في الحساسية ذاتها، في الهشاشة، وفي القدرة على الرؤية. ويظهر الزبّال كمن يعيش في الظل، لكنه يملك ضوءًا داخليًا، كمن يُحتقر، لكنه يحتفظ بكرامته، كمن يُهمّش، لكنه يروي. في فيلم “القصة الحقيقية”The) 1999، (Straight Story للمخرج ديفيد لينش يسافر رجل مسنّ (ألفن سترايت) على جزازة عشب لزيارة أخيه المريض، ويمرّ بالحقول والطرقات، يلتقي بالناس، ويروي قصته. فهو لا يعمل زبّالًا، لكنه يجسّد روح الزبّال: البطء، التواضع، والحكاية يقول في لحظة تأمل: “أصعب شيء في الحياة أن تعيشها”، وهي تختصر فلسفة البطل الهامشي، الذي لا يسعى للانتصار، بل البقاء.

وتُطرح إشكاليات التقدير في هذه السينما بحدة. لا يُمنح البطل الجوائز، لا يُحتفى به، لكنه يفرض حضوره عبر الصمت، عبر الاستمرار، وعبر الحكاية. ويتحوّل إلى رمزٍ للإنسان الذي لا يُرى، لكنه لا يختفي. في فيلم “آخر رجل أسود في سان فرانسيسكو” The Last Black Man in San) Francisco، 2019) لجو تالبت يظهر البطل كمن يحاول استعادة بيت طفولته، رغم أنه لا يملكه. ويعيش في الهامش، يكتب الشعر، يراقب المدينة. يقول في لحظة حنين: “لا أحد يحب شيئًا أكثر مني”، وهي لحظة تكشف كيف يمكن للبطولة أن تكون في الحب، في التعلّق، وفي الإصرار على المعنى.

تتجلى جمالية هذه السينما عبر التفاصيل، فهي لا تعتمد على المؤثرات، وإنما على الإضاءة الطبيعية، على الكاميرا اليدوية، على الأصوات الخافتة. وتُصوّر الزبّال كمن يتحرك ببطء، كمن يلتقط الأشياء، كمن يعيد تشكيل العالم من تحت. في فيلم “مشروع فلوريدا” تظهر الألوان الزاهية كتناقض مع الفقر، وتتحوّل الضحكات إلى صرخات، وتصبح الطفولة مرآة للزوال، وتتحوّل المياه إلى رمز للتطهير. وفي فيلم “روما” تصبح الأرضية المبللة مرآة للذاكرة.

يواصل البطل في سينما الزبّال رحلته دون توقف، فهو لا يبحث عن نهاية، ولكن عن معنى، ولا يسعى للانتصار، وإنما للكرامة، ولا يطلب الاعتراف، فهو يروي. ويتحوّل إلى شاعر بصري، إلى راوٍ حضري، إلى من يكتب على الأرصفة، إلى من يرى في القمامة حياة، وفي المهمل جمالًا، وفي الهامش بطولة.

تفتح هذه السينما بابًا لسرديات جديدة، حيث لا يُحتفى بالبطل لأنه أنقذ العالم، وإنما لأنه عاش فيه، لأنه رأى، لأنه روى. وتُعيد تعريف البطولة كقدرة على البقاء، على الرؤية، على الحكاية. وتُظهر أن الزبّال ليس مجرد عامل، فهو كائنٌ جمالي، سياسي، اجتماعي، نفسي، رمزي، يحمل في عربته ما لا يراه الآخرون، ويعيد تشكيل العالم من بقاياه.

تتجاوز سينما الزبّال حدود الحكاية البسيطة لتغدو مرآةً للوجود الإنساني في أكثر حالاته هشاشة وصدقًا. فهي لا تكتفي بالكشف عن الطبقات المنسية، وإنما تزرع البطولة في قلب الهامش، وتعيد تعريف الجمال من خلال القبح الظاهري، وتمنح الكرامة لمن اعتاد العالم أن يشيح عنه. في هذه السينما لا يُقاس البطل بما يملك، بل بما يرى، بما يصمت عنه، بما يلتقطه من فتات الحياة ويحوّله إلى معنى. وتُظهر الكاميرا أن من يعيش بين النفايات لا يفقد إنسانيته، بل يكتشفها. في فيلم “الطريق نحو السعادة” The ) Pursuit of Happyness، (2006للمخرج غابرييل موكينو يقول البطل كريس غاردنر في لحظة انكسار: “إذا كان لديك حلم عليك أن تحميه”. وتُختتم هذه الرحلة البصرية النقدية بالتأكيد أن الزبّال ليس عاملا، فهو حاملٌ لحلمٍ صغير، ومقاومٌ بصمت، وشاعرٌ في مدينة لا تصغي.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا