شرعت المحكمة الابتدائية بخنيفرة في تنزيل مضامين القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة، بعد دخوله حيز التنفيذ يوم 22 غشت الماضي، حيث أصدرت خلال الفترة الممتدة إلى الثاني من شتنبر الجاري أحكاما شملت ستة ملفات جنحية تلبسية اعتمدت فيها هذه الآلية الجديدة، في خطوة اعتبرها مهتمون بداية عملية لتجسيد توجه استراتيجي يروم إصلاح السياسة الجنائية بالمملكة
وأوضح مسؤول قضائي بابتدائية خنيفرة لجريدة “العمق” أن المحكمة أصدرت خلال الفترة الممتدة إلى الثاني من شتنبر الجاري ستة أحكام شملت ملفات جنحية تلبسية اعتمدت فيها هذه الآلية الجديدة، معتبرا أن ”هذه الخطوة تمثل بداية عملية لتجسيد سياسة جنائية إصلاحية بالمملكة”
وذكر أن الملفات المعنية تتعلق بقضايا مرتبطة بالحق العام، وقد تورط فيها شباب في مقتبل العمر، وشملت جرائم السكر العلني، وحيازة السلاح الأبيض، والتهديد بارتكاب اعتداء، وجميعها كانت موضوع متابعة في إطار المسطرة التلبسية، مما استدعى البت فيها.
وكشف المسؤول أن الأحكام الابتدائية تراوحت بين أربعة أشهر حبسا نافذا في حق أحد المتهمين، وشهر واحد حبسا نافذا لثلاثة آخرين، إلى جانب عقوبات مماثلة في ملفات أخرى، وغرامة مالية قدرها 1000 درهم لكل متابع.
وأشار إلى أن المحكمة، انسجاما مع فلسفة العقوبات البديلة، قررت استبدال هذه العقوبات الحبسية بعقوبة بديلة تقوم على أداء غرامة يومية قدرها 100 درهم، موضحا أن ” استبدال العقوبة يبقى مشروطا بالالتزام بالأداء، وفي حالة عدم التنفيذ تلغى العقوبة البديلة تلقائيا ويصار إلى تنفيذ العقوبة الحبسية الأصلية، مع تحميل المحكومين الصائر مجبرا في الأدنى”.
وأفاد أن الغرامة اليومية في إطار العقوبات البديلة لا تحدد عشوائيا، بل تراعي خطورة الفعل الجرمي والوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمحكوم عليه، مسترشدة بدورية صادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، ودليل استرشادي لقضاة النيابة العامة حول تنفيذ العقوبات البديلة طبقا للقانون رقم 43.22 والمرسوم رقم 2.25.386.
وأبرز أن القانون رقم 43.22 لم يقتصر على استبدال العقوبات الحبسية بالغرامات اليومية، بل تضمن مجموعة من الآليات للعقوبات البديلة تهدف إلى حماية المجتمع وإعادة الإدماج الاجتماعي للمحكوم عليهم. وتشمل هذه الآليات، العمل من أجل المنفعة العامة، المراقبة الإلكترونية، التدابير العلاجية أو التأهيلية أو الرقابية، والغرامة اليومية التي تحدد وفق خطورة الجريمة والإمكانات المالية، مع إمكانية العودة إلى العقوبة الحبسية الأصلية عند عدم الالتزام.
وأوضح المسؤول القضائي أن عدد الساكنة السجنية بخنيفرة بلغ 1461 سجينا، منهم 1442 ذكور و19 إناثا، مؤكدا أن ” من شأن تطبيق العقوبات البديلة أن يخفف من هذا الاكتظاظ بشكل ملموس، ويقلل من الآثار السلبية للعقوبات القصيرة المدة على المحكوم عليهم، مع توفير فرص حقيقية لإعادة إدماجهم في المجتمع”.
من جهته اعتبر المحامي عسو حسني عن هيئة بني ملال خنيفرة ، في تصريحه لجريدة “العمق”، أن إصدار ستة أحكام بالعقوبات البديلة مباشرة بعد دخول القانون رقم 43.22 حيز التنفيذ، يعد علامة فارقة على استجابة المحاكم للتوجهات الجديدة في السياسة الجنائية المغربية. موضحا أن “هذه الأحكام تعكس ثمار النقاشات التي احتضنتها المحكمة الابتدائية بخنيفرة خلال المائدة المستديرة المنظمة سابقا، والتي شكلت منصة للتكوين والتأطير وتبادل الرؤى بين مختلف الفاعلين القضائيين، من قضاة النيابة العامة، وقضاة الحكم، والمحامين، بالإضافة إلى خبراء في مجال الإصلاح الجنائي “.
وأكد حسني أن نجاح هذه الآليات يعتمد على التفاعل الإيجابي لجميع المتدخلين، وعلى قدرة المحاكم على الموازنة بين أهداف الردع، وحماية المجتمع، وضمان إعادة الإدماج الاجتماعي للمحكوم عليهم، مع الحرص على احترام حقوق الضحايا والالتزام بالمعايير القانونية المعمول بها.
وكانت المحكمة الابتدائية بخنيفرة قد نظمت مائدة مستديرة قبل صدور القانون في الجريدة الرسمية، خصصت لمناقشة مضامين مشروع القانون رقم 43.22، الذي اعتبر حينها تحولا نوعا في السياسة الجنائية المغربية. وقد أكد رئيس المحكمة خلال المائدة المستديرة أن القانون يعكس رغبة المملكة في تحديث المنظومة القضائية وتبني آليات أكثر مرونة وإنسانية، بما يحقق التوازن بين متطلبات الردع والزجر وبين حماية المجتمع والأسرة.
من جهته، شدد نائب رئيس المحكمة وقاضي تطبيق العقوبات، خلال المائدة المستديرة على أن فكرة العقوبات البديلة ليست وليدة اللحظة، بل هي ثمرة مسار امتد منذ الندوة الدولية المنظمة بمكناس سنة 2004، مرورا بدستور 2011، وصولا إلى الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة سنة 2013.
أما النائب الأول لوكيل الملك فقد أكد أن مشروع القانون ترجم توصيات متراكمة استخلصت من تلك المحطات، وأن نجاح تنزيله رهين بتوفير الموارد البشرية والتقنية الكفيلة بضمان تطبيق فعال لهذا الإصلاح.
وفي السياق نفسه، أبرز أحد القضاة، عضو هيئة القضايا العقارية، أن القانون منح لقاضي تطبيق العقوبات صلاحيات جديدة في تدبير هذا النوع من العقوبات، بما يسمح بمراقبة دقيقة لمدى احترام الشروط وضمان الأهداف المرجوة.
وتجدر الإشارة إلى أن لجوء المحكمة الابتدائية بخنيفرة إلى اعتماد العقوبات البديلة في ستة ملفات دفعة واحدة خلال أقل من أسبوعين على دخول القانون حيز التنفيذ، يعد مؤشرا قويا على جدية هذا التوجه، وأن المحاكم المغربية عازمة على جعل هذا القانون واقعا ملموسا، لا مجرد نصوص على الورق، مع تعزيز العدالة الجنائية بما يحقق التوازن بين حماية المجتمع وحقوق الأفراد.