آخر الأخبار

حكاية "سينما الجوع" .. لغة بصرية تنتفض بالاحتجاج ضد الفقر والتهميش

شارك

“الجوع خبر الفقراء المقدس “.. محمود درويش

ماذا لو لم يكن الجوع مجرد غياب للطعام، بل لغة بصرية ترتعش بالاحتياج والخوف والتوق؟ هل تستطيع الكاميرا أن تتحدث عبر المساحات الفارغة، عبر الوجوه المتهدلة، عبر لحمٍ يشف وينبض؟ هل يمكن للجوع أن يتحول إلى أداة سياسية، إلى جمال ثوري، إلى سرد ونصوص بصرية مكسور تكشف هشاشة الإنسان والجغرافيا والسلطة؟ هذه هي السينما التي نحاول استقصاءها نقديا والمعروفة بـ”سينما الجوع”. ما حكايتها النقدية؟

من “جماليات الجوع” إلى “تجميل الجوع”

تتجاوز “سينما الجوع” تصوير غياب الطعام، لتجعل من الجوع رمزا لحالة إنسانية واجتماعية. ويرى المخرج جلاوبر روشا، مؤسس حركة “السينما الجديدة” في البرازيل، أن “الجوع ليس مجرد عرض ينذر بالخطر، بل هو جوهر مجتمعنا”. وفي نظره، لا يمثل الجوع نقصا فحسب، وإنما شكل من أشكال التعبير العنيف ومصدر للقدرة النقدية. ويرفض هذا النوع من السينما الجماليات الناعمة، ويواجهها بسرد بصري مباشر، وتصوير على طبيعة الحياة الدنيا، دون اللجوء إلى اللغة الخطابية التقليدية إلا حين تنفجر المعاني من داخل الصورة.

مصدر الصورة

وتتموضع سينما الجوع ضمن السينما السياسية التجريبية سينما مقاومة ترفض التجميل وتواجه الواقع بقسوته؛ لكنها لا تخلو من إشكاليات، إذ قد يتحول تمثيل الجوع إلى استغلال بصري، أو ما يُعرف بـ”تجميل الجوع”. وعلى سبيل المثال، انتُقد فيلم “مدينة الرب” (2002) للمخرج البرازيلي فرناندو ميريلس لاستخدامه جماليات التلفزيون والإعلانات في تصوير العنف اليومي، مما جعل المعاناة تبدو مصقولة، وأضعف القوة السياسية الكامنة خلف الدراما البصرية. وهكذا، انتقل الفيلم من “جماليات الجوع” إلى “تجميل الجوع”.

في المقابل، يقد م فيلم “الجوع” (2008) للمخرج ستيف ماكوين نموذجا مختلفا، حيث يصو ر الجوع عبر الجسد والعنف المجاور، لا عبر الحوار. وتظهر التفاصيل الدقيقة كأصوات بصرية: يد الحارس المجروحة، التدخين بلا معنى، النظرة القاتمة للشرطي. ويعتمد السرد على زمن جسدي، حيث تُروى الواقعة من خلال أجساد ترفض السرد الكلاسيكي، وتخلق زمنا داخليا، تجربة “دولوزية” حسب فلسفة المفكر جيل دولوز، الذي يرى أن “الزمن يسكن الجسد”.

وتبتعد هذه السينما عن الزمن المتتابع والحبكة التقليدية، وتكرس زمن التجربة الجسدية، مستخدمة الكاميرا كمرآة للمعاناة، مسلطة الضوء على العنف الرمزي والجسدي. وفي فيلم “الجوع”، تظهر لقطة ثابتة دامت 17 دقيقة، أو انسياق بصري بطيء يكشف الأوساخ والانفصال بين الجمال والوحشية. ولا تخاطب هذه السينما الجماهير، وإنما تبقى في الجسد والمكان والزمن الحاضر، وتدعو إلى الالتزام والعمل.

أداة احتجاج وسلاح ضد الفقر والتهميش

تتقاطع سينما الجوع، فلسفيا مع نظرية دولوز حول الصورة الزمنية التي تكسر الزمن الكلاسيكي. وتنشأ ثقافيا من الاحتجاج ضد ثقافة الاستهلاك في مجتمعات مدنية غير متماسكة. وتتحول سياسيا إلى أداة احتجاج، وسلاح ضد الفقر والتهميش والاستبداد. وترفض هذه السينما الإطارات التقليدية للسياق السياسي، وتعرض المثول الجسدي في أقسى حالاته. ويقول الممثل مايكل فاسبندر، في سياق تمثيله لدور بوبي ساندرز: “تُوظف جسمك كسلاح، ليس فقط للاحتجاج، بل للموت”. وهنا، لا مجال للزينة أو التجميل، بل جسد يتحدث عن معركة أخيرة.

وفي الحوار الطويل بين بوبي ساندرز والكاهن في فيلم “الجوع”(2008) للمخرج ستيف ماكوين، يقول ساندرز: “لدي إيماني، وفي بساطته يكمن أعظم قوة”. هذه الكلمات، رغم بساطتها، تتفجر حين تُسمع، وتقفز من الجسد إلى الروح، كاشفة عن رسوخ الإيمان كقوة تتجاوز الجوع.

مصدر الصورة

وتظهر نماذج أخرى من هذه السينما في فيلم “الجوع” (1966) للمخرج هينينغ كارلسن، المقتبس عن رواية كنوت هامسون. ويصور الفيلم جسد كاتب يجوع حتى يأكل الورق الذي يكتب عليه. وعبر عدسة مؤلمة، تظهر الانحناءة والعطش اللذان ينهكان الكرامة والإبداع، ويُقدم الجوع كأزمة وجود بلا دهشة أو جمال مصقول.

في “الجوع” (2008)، للمخرج ستيف ماكوين، يتصاعد تصوير البؤس من خلال تصوير داخلي أنيق متقشف: زنزانة، حركة بسيطة، ثم لقطة رعناء داخل حشد من العاهات. ولا إخراج بالمعنى التقليدي، وإنما تكرار للتفاصيل حتى تنفجر في النهاية. السرد فيه قطبي: أولا الجوع الجسدي، ثم الحوار الكثيف القلبي. والجسد ثم الكلمة، بهذا الترتيب.

وتقدم سينما نوفو (السينما الجديدة) نموذجا آخر في فيلم “الله والشيطان في أرض الشمس” (1964) للمخرج جلاوبر روشا، حيث يبتلع الجوع العاطفي والاجتماعي الريف البرازيلي ويولد ثورة. وعبر المخرج روشا عن هذه السينما بأنها حركة ثورية برؤية سينمائية، تستخدم الجوع كصوت الناس الأكثر صعوبة، لا كصورة للطبقة الحاكمة.

وترتبط الهوية السردية لهذه الأفلام بالتموقع على هامش المجتمع، استخدام الجسد كفلسفة، الظل كجسد ثائر، والمكان كدليل على الإقصاء. وتهتم بالمناطق المنسية والمهملة، القمع المفقود، الوجه البارد للنظام. لا تُخبر القصة، بل تضعها أمام عين المشاهد، لتكون شاهدة، لا متحدثة.

ويتحول الجسد فلسفيا إلى زمن، كما يرى دولوز. ويصبح ثقافيا صدى للمجتمعات المهمشة والمنسية والمهملة. ويتحول سياسيا إلى صرخة صمت عبر ثورة بصرية. وقد استخدم المخرج روشا “جماليات الجوع” لفضح الطبقة الحاكمة، معتبرا أن الجوع هو صوت الناس الأكثر صعوبة، لا مجرد عرض اجتماعي.

ويفتح هذا النوع من السينما بابا للتساؤل: هل الفيلم الذي يصور الجوع بشكل صادم يعزز الوعي السياسي؟ أم أنه يخاطر بتجميل المعاناة وتحويلها إلى عرض؟ ويرى بعض النقاد أن “سينما الجوع” هي تعبير عن الحقيقية التي يجب أن تكون عنيفة بصريا، ولا تنسجم مع الترويج أو اللذة. وهنا، يبرز السؤال القاتل: كيف نصنع سينما الجوع دون أن نوازن بين القوة السياسية والاستغلال الجمالي؟

مصدر الصورة

وإذا استطاعت هذه السينما أن تجعل الجوع صدى، لا مجرد صورة، فمن حقنا أن نسأل: هل نستطيع أن نصغي إلى الصياح في الجسد؟ أن نرى أنماط الظل بدلا من الخلفيات؟ أن نقرأ الألم كما يُراد أن يُرى، لا كما نسهل رؤيته؟ وهل ستبقى هذه السينما التائهة في هامش دوائر السمعي البصري، أم ستصنع طريقا يكون فيه الجوع فعلا، لا حكاية؟

وتتشكل سينما الجوع رؤية شاملة، مترابطة، تبدأ بالأفعال، وتتنقل بين المفهوم والتطبيق، وتغلق بدعوة للتساؤل. ولا تمثل سينما الجوع مجرد نوع فني، وإنما موقف وجودي، وسياسي، وجمالي، يضع الإنسان أمام مرآة الجوع، لا ليشفق عليه، وإنما ليفهم ويحتج.

جوع الجسد إلى جوع للحرية

كيف يعيش البطل الصمت العميق لجوعه ويصنع منه وعيه؟ وكيف يتحول الجوع من تجربة جسدية إلى استنفار للعقل والنفس والمجتمع؟ في سينما الجوع، لا يُصور الجوع كفراغ في المعدة، بل كقلق وجودي، كذاكرة متجذرة، كموقف سياسي واجتماعي، وكخيال رمزي ينهض من هشاشة الجسد.

وتبدأ رحلة البطل من انحناءة جسده المتعب، من شحوب وجهه الذي لا يطلب الشفقة بل يفضح الفقر الذي يحيط به ويكسو منطق المدينة أو الريف. وينبس بكلمات تنبض بخوفه وصلابته، مثلما قال المخرج جلاوبر روشا: “الجوع لا يُوضع في سياق إنساني عابر، بل يمتص الأجساد ويعيد تشكيلها”. وهنا يتحول الجسد إلى مشروع مقاومة، إلى قصيدة سياسية بلا صوت، إلى مرآة تعكس هشاشة النظام لا هشاشة الفرد.
ويتقاطع الجوع مع السياسي، مع الإيديولوجي، مع الطبقات التي تُعيد توزيع الألم. وفي فيلم “ألعاب الجوع”، (2012) للمخرج غاري روس، المستوحى من روايات الكاتبة سوزان كولينز، والبطلة كاتنيس إيفردين التي تؤديها الممثلة (جنيفر لورنس) التي تعبر عن هشاشتها في مواجهة سلطة تتحكم في الطعام كأداة قمع، حين تقول: “أرفض أن أكون مسخرة خشبية في أيديهم”. وتخرج المقاومة من جوع الجسد إلى جوع للحرية، ويتكون وعي طبقي بامتياز من خلال صمود فردي تم جماعي، ويتحول فيه الجوع إلى موقف تمرد أمام منظومة تستثمر الجوع كوسيلة للهيمنة.

مصدر الصورة

ويتسع المشهد ليشمل الأبعاد الاجتماعية، حيث لا يعيش البطل الجوع وحده، بل داخل شبكة من العلاقات التي تشكل هذا الجوع. الأم التي ترسله للعمل بدل المدرسة، البلدة التي ترى في الصوفة القليلة عارا، والجسد الذي يُعر ض للسُخرة. وترمز في الفيلم الصيني “العيش” (1994) للمخرج تشانغ بيمو، حيث الزلابي والخبز على الطاولة المغلقة إلى شيء يتجاوز الطعام، إلى الموت نفسه، يقول أحد شخصيات الفيلم: “البعض يجد الموت في الفول وطبق المنتو”. وهنا يصيغ الجوع رغبة للبقاء، لكنه يكشف أيضا أن الطعام قد يكون قاتلا، وأن الجسد يعيد قراءة الحياة بوضع جديد، حيث كل لقمة تحمل تاريخا من القهر.

ويتداخل الجوع مع الاقتصاد الإيديولوجي، كما في فيلم “المنصة” (2019) للمخرج الإسباني غالدر غاستيلو أوروتيا، حيث تنزل منصة طعام في سجن من طوابق، من الأعلى نحو الأسفل مرة واحدة في اليوم، ويتعين على النزلاء في الطوابق العليا أن يلتهموا كل شيء، بينما لا يبقى شيء تقريبا لمن في الأسفل. وهنا يُفتح باب للأنانية المتوحشة، وباب للجشع، وتنهار الروابط الأخلاقية حين يصبح البقاء قيمة عليا. ويتساءل أحدهم: “هل تتخلى عن إنسانيتك مقابل لقمة؟”. ويتحول الجوع إلى ذروة الصراع بين التضامن الفردي والانهيار الإنساني، ويُرسم من خلاله توزيع القوة، حيث الطعام ليس مجرد حاجة بل أداة سياسية.

ويتحول الجوع إلى رمز، إلى صمت اجتماعي، إلى أرض مهدورة، إلى جسد لا يُرى إلا وهو ينهار. وفي فيلم “الجوع” للمخرج ستيف ماكوين، يصبح الجسد آلة زمن تمثل الوحشية السياسية التي تبتلع الإنسانية. فـ”الزمن موجود في الجسد”. ويصمت الجسد ويصرخ، وتتشكل فيه الصورة الثورية التي لا تُنكسر بسرد تقليدي، بل بالتموج البصري المرهف، حيث كل حركة تحمل معنى، وكل سكون يفضح نظاما.

ويتعمق البعد النفسي، ويمنح البطل عمقا مضطرما، حيث يفت ش الجوع داخله، يكشف طبقات الهلع، والذكريات المختنقة، والأحلام الباردة. ونرى في فيلم “الجوع” أيضا، حيث تصعد الذكريات وتتحول إلى رؤية تتجاوز الجسد، وتتشظى النفس في مشاهد متقطعة، يقول البطل: “أرى أنني لم أعد أملك شيئا سوى العجز، حتى بصري صار يقاوم”. وهنا يشرخ الجوع الجسد ويوسع النفس إلى مستنقعات للذكريات، حيث لا يعود الجوع مجرد ألم بل مرآة للهوية.

مصدر الصورة

وتتجلى هذه الأبعاد في نماذج سينمائية متعددة. ففي فيلم “الجوع” (1966) للمخرج هينينغ كارلسن، مشهد أيقوني حيث الكاتب (الممثل النرويجي بير أوسكارسون) يأكل أوراقه، ويتحول الإبداع إلى غداء متلف، يقول: “صارت كلمات الورق طعامي الأخير”. ويصبح الجوع هنا قلب الإبداع والجنون، جسدا متصدعا وكلمات يتمزق فيها الكاتب إلى ظله، حيث لا فرق بين الكتابة والجوع، بين الورق واللحم.

وفي فيلم “العيش”، تعود الزلابي لتكون حصون ا من القهر، يقول أحدهم: “الزلابية التي لم تُفتح صارت حصونا من القهر”. ويصبح الطعام المغلق صوتا آخر للحياة، حيث التاريخ السياسي يدخل في فم الطعام، ويصير الجسد شاهدا على قسوة النظام.

أما في فيلم “الشمس الخضراء ” (1973) للمخرج ريتشارد فليشر، حيث يتحول الجوع إلى مفارقة أخلاقية، حيث يُكتشف أن الغذاء مصنوع من لحم بشر، ويتساءل المشاهد: “هل نحن ما نأكل؟”. ويواجه البطل الحقيقة الهالكة وهو يعض بصمت، ويذوب في السؤال الأخلاقي، ويكتشف أن الجوع قد يكون كابوسا بشريا، لا مجرد حاجة بيولوجية. وهو فيلم عن التنبؤات في السينما.

في كل هذه النماذج الفيلمية بسرديات الجوع المختلفة، يثبت البطل أن الجوع ليس فجوة في الجسد، وإنما رسم للوعي، وتمزيق للسرد الرسمي، وتفجير للرغبة في التغيير، وتحويل للجسد إلى نبض سياسي من أجل الحرية. ولا يُصور الجوع كحالة عابرة، بل كقوة ثورية، كصرخة داخلية، كقرار وجودي.

نعود في هذه الرحلة النقدية إلى صوت المخرج روشا نفسه، حين قال: “نحن نصنع تلك الأفلام القبيحة والحزينة؛ لا لأننا نريد أن نُشفق عليهم؛ بل لأن الجوع لا يُعالج بوصايا وزارية ولا تلوينات زائفة. والعنف هو النبل والثقافة الحقيقية المندفعة بهذا الجوع”. وهي كلمات لا تُجمل، بل تُفجر، كلمات تضع الجوع في قلب الثقافة، لا على هامشها.

فهل نسمع صراخ الجوع والجوعى كهدير وأنين داخلي؟ هل نقرأ الجوع كوعي؟ وهل نصنع من الجوع والجياع، قرارا؟ لا تطلب سينما الجوع الإجابة، وهي تفتح الجسد على مدارات الأسئلة. وتتماهى هذه السينما مع هذا المقطع الجميل من قصيدة ” سجل أنا عربي” للشاعر محمود درويش:

“أنا اسمٌ بلا لقبِ

على رأسِي كِوفِيةٌ وكَفي سيفٌ وغَضَبِ

وأولادي ثمانيةٌ

أسل لهم رغيفَ الخبزِ،

والأقلامَ والكُتبِ

من صخرٍ… ولا أتسولُ الصدقاتِ

من بابِكْ

ولا أصغرْ أمامَ بلاطِ أعتابِكْ”.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا