يواجه قطاع الصحة في المغرب مفارقة صارخة ومؤلمة: مستشفيات ومراكز صحية تعاني من خصاص مهول في الموارد البشرية، وفي المقابل جيوش من الممرضين وتقنيي الصحة الخريجين يواجهون بطالة مزمنة وأبوابا موصدة.
وحسب وزير الصحة والحماية الاجتماعية، فإن البرنامج الوطني يهدف إلى رفع عدد مهنيي الصحة من 17,4 لكل 10.000 نسمة سنة 2022 إلى 45 بحلول عام 2030، بما يتماشى مع معايير منظمة الصحة العالمية.
واعتبر الوزير في تصريحات سابقة أن هذا المسار يسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ويعزز الإنصاف في الولوج إلى الخدمات الصحية.
وأشار الوزير إلى أن عدد المقاعد البيداغوجية بسلك الإجازة ارتفع بنسبة 206 في المائة، حيث بلغ 8.360 مقعدا سنة 2024، مع استهداف 11.900 مقعد في أفق 2029. أما سلك الماستر فسجل تطورا بنسبة 353 في المائة، ليصل إلى 680 مقعدا. كما تم تعميم إنشاء المعاهد العليا للمهن التمريضية على كافة جهات المملكة، مع إحداث معاهد جديدة في طنجة وكلميم والداخلة وملحقة بزَاكُورة، بالإضافة إلى ثلاث كليات للطب والصيدلة بكل من الراشيدية وبني ملال وكلميم، وثلاثة مراكز استشفائية جامعية بهذه الجهات.
وأكد التهراوي أن عدد المناصب المالية المخصصة للأطر الصحية ارتفع من 4000 سنة 2019 إلى 6500 منصب في 2025، 60 في المائة منها مخصصة للممرضين وتقنيي الصحة. وتم اعتماد مقاربة جهوية في التوزيع، مع إعطاء الأولوية للمؤسسات الصحية المغلقة أو حديثة الإنشاء، لا سيما في المناطق القروية. كما مُنحت المصالح الجهوية صلاحية تنظيم مباريات التوظيف منذ 2020؛ ما ساعد على تدبير أكثر مرونة واستجابة لحاجيات الجهات.
ورغم الجهود الحكومية الكبيرة في قطاع الصحة، فقد سبق أن اشتكت التنسيقية الوطنية لطلبة وخريجي المعهد العالي للمهن التمريضية وتقنيات الصحة إلى وزارة الصحة والحماية الاجتماعية من “شح المناصب المالية”.
هذه الأزمة، التي وصفها عبد الله ميروش، عضو المكتب الوطني للنقابة المستقلة للممرضين وعضو التنسيقية الوطنية للطلبة والخريجين والمزاولين، بأنها “قضية مزمنة ومتجددة”، تكشف عن اختلالات بنيوية عميقة لا تهدد المستقبل المهني لآلاف الشباب فحسب، بل تقوض جهود الدولة الرامية إلى تحقيق تغطية صحية شاملة وذات جودة.
يوضح ميروش ضمن تصريح لهسبريس أن هذا الوضع ليس وليد اللحظة، بل هو تكرار لأزمات سابقة عاشها القطاع، خاصة بعد عام 2013؛ ففي تلك الفترة عانى خريجو تخصصات حيوية مثل المروضين الحركيين، والمساعدين الاجتماعيين، والقابلات، من بطالة امتدت لسنوات طويلة وصلت في بعض الحالات إلى ست سنوات، ويؤكد أن “القاسم المشترك هو غياب رؤية إستراتيجية شمولية لتدبير الموارد البشرية”، ما يجعل كل جيل جديد من الخريجين يواجه المصير المجهول نفسه.
السبب الجوهري، بحسب المتحدث، يكمن في “التخطيط العشوائي وسوء توزيع المناصب المالية؛ فبينما يتم فتح باب التوظيف لتخصصات معينة تُهمل أخرى تمامًا دون معايير واضحة، رغم أن جميعها تُعد أساسية وحيوية للمنظومة الصحية التي تسجل عجزاً كبيراً مقارنة بالمعايير الدولية”.
يطرح ميروش إشكالية جوهرية تتعلق بعدم التوازن بين سياسات التكوين وحاجيات سوق الشغل، قائلاً: “لا يمكن أن نستمر في تكوين عشرة آلاف شخص من أجل ثلاثة آلاف منصب مالي فقط. إذا لم تكن هناك حاجة فلا جدوى من تكوين الأطر وإلقائهم في المجهول”.
وتابع النقابي ذاته بأن “هذا الوضع الكارثي هو الذي يدفع عدداً كبيراً من الخريجين وحتى الممرضين المزاولين إلى البحث عن فرص عمل خارج البلاد، ما يخلق نزيفاً حاداً في الكفاءات أو ما تعرف بهجرة الأدمغة”، وأشار إلى أن “المفارقة أن هذه الهجرة تأتي في وقت تعاني وزارة الصحة من عجز واضح في الموارد البشرية اللازمة لتفعيل ورش التغطية الصحية الشاملة وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين”.
يشير الفاعل النقابي إلى أن أحد أكبر الاختلالات يكمن في غياب التنسيق التام بين وزارة الصحة والمراكز الاستشفائية الجامعية (CHU)، موردا: “بدلاً من عقد جلسات مشتركة لتحديد الاحتياجات بدقة وتوزيع المناصب بشكل متكامل يتم تنظيم مباريات التوظيف بشكل منفصل ومتزامن، ما يخلق فوضى حقيقية”.
ومن بين مظاهر الفوضى التي ذكرها ميروش أن “بعض التخصصات مشبعة في كلا القطاعين، بينما تظل تخصصات أخرى تعاني من خصاص كبير دون أي تغطية؛ ثم سوء التوزيع الجغرافي”، ويشرح: “يؤدي تزامن المباريات إلى تكدس المترشحين في مدينة معينة، بينما قد يبقى مركز استشفائي في مدينة أخرى دون مترشحين، ما يؤدي إلى ضياع المناصب المالية وهدر الموارد”.
ولحل هذه المعضلة يشدد المتحدث ذاته على “ضرورة اعتماد آلية واضحة تقوم على جرد الحاجيات الحقيقية والإعلان المسبق والشفاف عن عدد المناصب المفتوحة في كل جهة”، مردفا: “مثلاً إذا كانت المستشفيات الجامعية ستستقطب ألفين أو ثلاثة آلاف ممرض والوزارة ستستقطب خمسة آلاف يجب الإعلان عن ذلك بوضوح، لمنح الخريجين رؤية مستقرة لمستقبلهم”.
من جانبها تؤكد فاطمة الزهراء بلين، عضو المجلس الوطني للنقابة المستقلة للممرضين وعضو المجلس الوطني لحركة الممرضين وتقنيي الصحة بالمغرب، أن “الإشكالية أكبر من مجرد خصاص في المناصب، فهي متعددة المحددات، والبطالة في صفوف الممرضين وتقنيي الصحة ليست سوى أحد تجلياتها”.
وتوضح بلين، ضمن تصريح لهسبريس، أن المناصب المالية التي تُفتح للتشغيل “تُحدد بناءً على احتياجات مسبقة تعبر عنها المراكز الاستشفائية الجامعية والإدارات والمستشفيات غير الممركزة التابعة لوزارة الصحة”، وتضيف أن “هذه الاحتياجات هي التي توجه بدورها عدد مقاعد التكوين التي توفرها الوزارة، وكذا مديريات التكوين المستمر في المعاهد العليا للمهن التمريضية وتقنيات الصحة”، مشددة على أن “العلاقة بين هذه الأرقام ومستوى الفاعلية في تحديد الحاجيات علاقة وطيدة، وكل خلل فيها يؤدي مباشرة إلى مفاقمة البطالة”.
وأبرزت بلين أن “هناك ترابطا وثيقا بين المستشفيات والمراكز الصحية ووزارة الصحة والمراكز الاستشفائية الجامعية، خاصة في ما يتعلق بالتنسيق. فكل خلل في هذا التنسيق يجعل مقاعد التكوين إما مفرطة وإما منقوصة، وهو ما يؤدي إما إلى البطالة أو إلى استمرار الخصاص”.
وأضافت أن “الخصاص واقع لا محالة، لكنه متفاوت بين الجهات، وهو ما يستدعي برمجة دقيقة للمباريات تأخذ بعين الاعتبار الحركة الانتقالية وتمنح الأولوية للتوزيع المحلي والجهوي قبل الوطني”. وأشارت إلى أن سوء التدبير الحالي يؤدي إلى تفاقم البطالة في صفوف الخريجين رغم أن بعض الأقاليم تعاني خصاصا مهولا يهدد بإغلاق أقسام حيوية، بينما خصاص أقاليم أخرى يمكن تلافيه بوسائل بسيطة.
وشددت على أن الحاجة ماسّة بشكل دائم إلى تخصصات بعينها مثل القابلات، وتقنيي التخدير والإنعاش، معتبرة أن “هذه الاختصاصات تشكل العمود الفقري لأي مؤسسة استشفائية، وغيابها يهدد بشلل خدمات أساسية”.
ومع ذلك، تقول بلين، فإن التخصصات الأخرى لا تقل أهمية، داعية وزارة الصحة إلى فتح المناصب المالية بشكل مستعجل وكافٍ لامتصاص بطالة الخريجين.
ويزداد الوضع تعقيداً مع توسع مؤسسات التعليم العالي الخاص التي تخرج أعداداً متزايدة من الممرضين، ما يزيد الضغط على سوق شغل محدود القدرة على الاستيعاب. وهذا يطرح ضرورة إعادة النظر في سياسة التكوين برمتها وربطها بشكل فعلي بحاجيات المنظومة الصحية.
ورغم إقراره ببعض المحاولات الظرفية من طرف وزارة الصحة، كالمباريات الاستثنائية، يرى ميروش أنها تبقى “حلولاً ترقيعية”، والحل الجذري، حسبه، “يتطلب إرادة سياسية قوية تترجم إلى زيادة ملموسة في المناصب المالية المخصصة لقطاع الصحة، واعتماد رؤية إستراتيجية بعيدة المدى تضمن التوازن بين أعداد الخريجين والمناصب المتاحة، وتفعيل التنسيق الإلزامي بين الوزارة والمراكز الاستشفائية الجامعية”.
إن معالجة ملف بطالة الممرضين وتقنيي الصحة لم تعد قضية فئوية، بل هي رهان إستراتيجي لمستقبل المنظومة الصحية المغربية، وحق المواطنين في الحصول على خدمات طبية لائقة وكافية.