آخر الأخبار

حين تتحول الكلمات إلى جراح مدمرة.. التحرش الجنسي بين التجريم القانوني والتأثير النفسي - العمق المغربي

شارك

تعد ظاهرة التحرش الجنسي واحدة من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تهدد استقرار المجتمعات وتمس كرامة الإنسان، لما تتركه من أثر نفسي عميق على الضحايا وتزرع الخوف والقلق وانعدام الثقة في محيطهم الاجتماعي.

لم يعد التحرش مقتصرا على الاحتكاك الجسدي في الأماكن العامة، بل توسع ليشمل الإيحاءات الجنسية اللفظية، التهديد، الملاحقة، والمضايقات عبر وسائل التواصل الرقمي، حيث أصبح العالم الافتراضي بيئة خصبة للانتهاكات في ظل ضعف الرقابة القانونية وسهولة التخفي خلف الشاشات.

هذه الظاهرة لا تفرق بين الفئات العمرية أو الاجتماعية أو المستوى التعليمي، وتشمل الفتيات والمسنات على حد سواء، وهي جريمة تهدد كرامة الإنسان وحريته الشخصية. مع تطور التكنولوجيا وانتشار وسائل الاتصال الرقمية، أصبح التحرش أكثر تعقيدا وانتشارا، خاصة خلال فصل الصيف.

أرقام مقلقة

في هذا الصدد، يؤكد خالد الوالي العلمي، أستاذ القانون الجنائي وعلم الإجرام بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس، أن النساء المغربيات يتعرضن للتحرش في معظم مجالات حياتهن، سواء في المنزل أو المدرسة أو المؤسسات الحكومية أو الشارع.

ويشير العلمي إلى أن التحرش الجنسي يترك آثارا صحية واجتماعية كبيرة على الضحايا، إذ يحد من حرية المرأة في العمل والتعليم والتنقل، ويحرمن من حقوقهن الأساسية، ما جعل تجريم التحرش الجنسي مطلبا ملحا للحركة النسائية المغربية.

وأبرز أن التشريع المغربي أخذ منحى تدريجي في تلبية هذا المطلب من خلال إدراج عقوبات صارمة ضمن القانون الجنائي، مع الأخذ بعين الاعتبار ظروف التشديد في حالات معينة.

وتكشف الإحصائيات الوطنية عن حجم الظاهرة، فقد أظهر تقرير المندوبية السامية للتخطيط (7 دجنبر 2020)، أن 13٪ من النساء تعرضن للعنف خلال 12 شهرًا الماضية في الأماكن العامة، بنسب تتراوح بين 16٪ في المدن و7٪ في القرى.

وتتصاعد النسبة بين النساء الشابات من 15 إلى 24 سنة لتصل إلى 22٪، وبين العازبات إلى 27٪، وذوات المستوى التعليمي العالي إلى 23٪، والعاملات إلى 23٪. وتشكل حالات التحرش الجنسي نحو 49٪ من العنف، فيما يشكل العنف النفسي 32٪ والعنف الجسدي 19٪.

أما العنف الإلكتروني، فيصل إلى 14٪ من النساء، مع ارتفاع احتمال التعرض له بين الفتيات والنساء الشابات.

إلا أن العلمي يوضح أن هذه الأرقام تبقى مؤشرات تقريبية، إذ أن العديد من حالات التحرش لا يتم التبليغ عنها، سواء من الخوف أو من الخجل، مما يجعل الظاهرة أوسع من ما تظهره البيانات الرسمية.

جراح صامتة

تشير الدكتورة أسماء أغنضور، أستاذة علم النفس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، إلى أن التحرش الجنسي يعد أحد أخطر أشكال الاعتداءات النفسية والجسدية، إذ لا يقتصر أثره على لحظة وقوعه، بل يترك ندوبا نفسية يصعب تجاوزها، خاصة لدى النساء والأطفال.

وأوضحت أالضحايا يمرون بلحظات من الرعب والصدمة تهز كيانهم النفسي، مما يؤدي إلى ظهور أعراض مثل الشرود، فقدان القدرة على الكلام، مشاعر الخجل والإهانة والعار، القلق المستمر، اضطرابات النوم وكوابيس متكررة، وتقلبات مزاجية حادة بين الغضب والبكاء والصمت.

وفي بعض الحالات، قد تصل آثار التحرش إلى محاولات إيذاء النفس أو التفكير في الانتحار، إضافة إلى اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب والوسواس القهري والإدمان على الكحول أو المخدرات واضطرابات الأكل، وفق الخبيرة النفسية.

ووفق المصدر ذاته، تكون آثار التحرش على الأطفال أشد خطورة، إذ قد تترافق معهم مدى الحياة، مما يستدعي تدخلا نفسيا عاجلا يشمل الدعم العاطفي من الأسرة، والرعاية الطبية والنفسية، والعلاج النفسي الفردي والجماعي باستخدام تقنيات حديثة مثل العلاج المعرفي السلوكي وEMDR.

وتؤكد الدكتورة أغنضور أن الحماية القانونية الصارمة والعقاب الرادع للمعتدين أمران ضروريان، ليس فقط لإنصاف الضحايا، بل أيضا لضمان أمن المجتمع ومنع تكرار الانتهاكات.

مسار التجريم

وللوقوف على الأبعاد القانونية للتحرش الجنسي، عرج الخبير المغربي خالد العلمي إلى تطور تجريم هذه الجريمة، بدءا من القانون الجنائي لسنة 1962، حيث لم يكن هناك نص خاص، وإنما تم اللجوء إلى الفصلين 483 و502 لتكييف بعض صور التحرش الجزئية.

كما تم تعديل هذا المسار والذي جاء بموجب القانون رقم 24.03 سنة 2004 الذي جرم التحرش داخل فضاء العمل، وصولا إلى القانون 103.13 لسنة 2018، الذي وسع دائرة التجريم لتشمل الفضاءات العامة والافتراضية، مع تحديد العقوبات وظروف التشديد لمن لهم سلطة على الضحية أو إذا كانت الضحية قاصرا.

ويبين الركن المادي للجريمة وفق القانون 103.13، أن التحرش يتجسد في مضايقة الغير بأفعال أو أقوال أو إشارات ذات طبيعة جنسية أو لأغراض جنسية، سواء في الفضاءات العمومية أو الخاصة، أو عبر الرسائل المكتوبة أو الهاتفية أو الإلكترونية أو الصور أو التسجيلات ذات الطابع الجنسي.

أما الركن المعنوي، فيستلزم وجود إرادة الجاني لاستمالة الضحية لأغراض جنسية في الفضاءات العمومية، بينما لا يشترط ذلك في التحرش عبر الوسائل الإلكترونية، وفق المتحدث.

وفيما يخص السياسة العقابية، نص القانون على عقوبة الحبس من شهر إلى ستة أشهر أو الغرامة من 2000 إلى 10.000 درهم، مع إمكانية الجمع بين العقوبتين، وزيادة العقوبة إذا كان المتحرش زميلاً في العمل، أو له سلطة على الضحية، أو إذا كانت الضحية قاصرا، لتصل العقوبة إلى الحبس من 3 إلى 5 سنوات وغرامة من 5000 إلى 50.000 درهم.

وبحسب الخبير القانوني، فإن الأحكام القضائية تؤكد أن التحرش الجنسي يشكل خطأ جسيما يبرر الطرد التعسفي ويعد من ألوان الإهانة والظلم للإنسانية.

وتيلص كل من خالد الوالي العلمي وأسماء أغنضور إلى أن مكافحة هذه الظاهرة تتطلب تضافر جهود الأجهزة الأمنية، الأسرة، المدرسة، المجتمع المدني، والفاعلين القانونيين، مع تعزيز التوعية المجتمعية لتغيير القيم النمطية التي تساهل مع هذه الظاهرة، وجعلها إحدى أولويات حماية حقوق الإنسان والمجتمع.

كما يشيران إلى أن تجريم التحرش والعقاب الرادع له، إلى جانب الدعم النفسي الشامل للضحايا، يبقى هو السبيل الأمثل للحد من هذه الآفة وحماية كرامة الإنسان واستقرار المجتمع.

العمق المصدر: العمق
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا