في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
أعلنت الولايات المتحدة يوم 5 ديسمبر/كانون الأول الجاري عن وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الأميركي 2025، وهي ليست مجرد وثيقة أمنية، بل إعلان اقتصادي شامل عن نهاية مرحلة كاملة من النظام العالمي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة .
الوثيقة من أول صفحة حتى آخر سطر تعكس قناعة الإدارة الأميركية بأن العولمة بصيغتها القديمة لم تعد تخدم الاقتصاد الأميركي، وأن استمرار الالتزامات الأمنية الواسعة لم يعد ممكنا في عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة.
من هنا، تأتي أهمية هذه الإستراتيجية الجديدة التي يمكن وصفها بأنها أول وثيقة أميركية منذ 40 عاما تعيد تعريف موقع الولايات المتحدة اقتصاديا في العالم، وتحدد معادلة مصالحها بصورة مباشرة وصريحة.
تعتمد الإستراتيجية على مبدأ أساسي مفاده أن "القوة الأميركية تبدأ من الداخل"، وهذه ليست عبارة سياسية، بل رؤية اقتصادية ترتكز على واقع جديد:
التزامات واشنطن التقليدية مثل حماية أمن إس ر ائيل أو ضمان أمن الممرات المائية لم تعد التزامات دائمة، بل "خطوط حمراء" تُدار بمرونة، وبأقل كلفة ممكنة
وهذه الأرقام ليست تفصيلا تقنيا، بل هي الأساس الذي بنيت عليه سياسة الأمن القومي الجديدة التي تتضمن اقتصادا محميا، وإنتاجا داخليا، وتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية.
من هذا المنطلق، تتبنى وثيقة 2025 ما يمكن تسميته "النسخة الحديثة من مبدأ مونرو "، لكن بصيغة اقتصادية صناعية واضحة تمنع أي قوة خارجية من اكتساب نفوذ في نصف الكرة الغربي أو السيطرة على أصول إستراتيجية قريبة من المجال الأميركي.
على مدى 50 عاما كان الشرق الأوسط مركز السياسة الأميركية، بسبب النفط وصراع القوى الكبرى، لكن الوثيقة الجديدة تقول بوضوح إن هذه الديناميكيات لم تعد موجودة؛ فالولايات المتحدة تنتج اليوم 12.9 مليون برميل يوميا، وتقترب من الاكتفاء الذاتي، بينما يتجه الطلب العالمي على النفط إلى آسيا التي تستورد 70% من نفط الخليج.
بالتالي، لم يعد للولايات المتحدة دافع اقتصادي يمنح المنطقة مركزية كما في السابق، وتصف الوثيقة الشرق الأوسط بأنه: "منطقة شراكة لا منطقة التزام عسكري طويل الأمد"، وهذه الجملة تختصر طبيعة المرحلة المقبلة، فواشنطن لن تهتم بشكل الأنظمة، ولا بطبيعة الحكم، ولا بالمؤسسات الديمقراطية، والمعيار الوحيد هو: هل تقدم هذه الدولة قيمة اقتصادية أو إستراتيجية ملموسة للولايات المتحدة؟
لذلك، فإن التزامات واشنطن التقليدية مثل حماية أمن إسرائيل أو ضمان أمن الممرات المائية لم تعد التزامات دائمة، بل "خطوط حمراء" تُدار بمرونة، وبأقل كلفة ممكنة.
أوروبا التي استفادت طوال عقود من المظلة الأميركية تجد نفسها اليوم خارج الحسابات الجديدة.
فالوثيقة تعترف بأن مرحلة "الدعم الأميركي المفتوح" انتهت، وأن على أوروبا:
بهذه المقاربة، تنتقل أوروبا من "شريك يحمى" إلى "شريك يجب أن يتحمل التكلفة"، وهو تحول اقتصادي كبير سيغير بنية التحالف الأطلسي خلال السنوات القادمة.
أوروبا التي استفادت طوال عقود من المظلة الأميركية تجد نفسها اليوم خارج الحسابات الجديدة
تعتبر الوثيقة أن مستقبل الاقتصاد العالمي موجود في آسيا التي تسهم اليوم بأكثر من 55% من النمو العالمي، وتستحوذ على 70% من الاستثمارات التكنولوجية المتقدمة.
لذلك تضع واشنطن اليابان وكوريا الجنوبية في مقدمة الحلفاء الرابحين، لأنهما الأكثر قدرة على:
في المقابل، تعتبر الهند من الخاسرين، لأنها تعتمد على منظومة العولمة القديمة التي تتجه واشنطن للتخلي عنها تدريجيا.
أحد أهم ما جاء في الوثيقة هو الاعتراف بأن الصراع مع الصين هو صراع تكنولوجي وصناعي أكثر من كونه صراعا جغرافيا.
يعكس هذا الواقع الاقتصادي:
أما روسيا فهي المستفيد الأكبر من تخلّي واشنطن عن الالتزام العميق بأوروبا، إذ تحصل على مساحة أكبر للمناورة الاقتصادية والجيوسياسية.
روسيا هي المستفيد الأكبر من تخلّي واشنطن عن الالتزام العميق بأوروبا، إذ تحصل على مساحة أكبر للمناورة الاقتصادية والجيوسياسية
إستراتيجية الأمن القومي الأميركي 2025 هي وثيقة اقتصادية بامتياز، لأنها تعلن بوضوح:
أما الشرق الأوسط فهو أمام واقع جديد، فالولايات المتحدة لن تعود إلى نمط التدخل السابق، ومن ينجح في بناء قيمة اقتصادية حقيقية هو الذي سيحجز مكانه في النظام العالمي الناشئ.
وتعكس الوثيقة تحوّلا تاريخيا سيعيد رسم خرائط النفوذ الاقتصادي العالمي خلال العقد القادم، ويجبر كل دول المنطقة على إعادة بناء سياساتها الاقتصادية وفق منطق المصلحة الوطنية والقدرة على خلق شراكات إستراتيجية حقيقية.
المصدر:
الجزيرة