مع اقتراب عيدي الميلاد ورأس السنة، يدخل
لبنان موسم الأعياد محمّلًا بما يفوق طاقته من الهواجس والمخاوف. فبدلًا من أن تتجه الأنظار نحو المساحات القادرة على بثّ بعض الطمأنينة في النفوس، تتّجه كل المخاوف نحو ما تتداوله تل أبيب عن "ضربة موجعة" قد تُقدِم عليها في حال لم يُحسَم ملف حصرية السلاح قبل انتهاء العام، وهو العنوان الذي يشكّل جوهر الخطة التي أقرّتها الحكومة في الخامس من آب وأوكلت تنفيذها إلى الجيش.
وبينما يتابع اللبنانيون تفاصيل حياتهم اليومية على وقع الاضطراب الاقتصادي والمعيشي، تتقدّم الهموم الأمنية مجددًا إلى الواجهة، ولا سيما في الجنوب والضاحية الجنوبية والبقاع، حيث يزداد القلق بأن المنطقة تُقاد نحو مواجهة مفتوحة. فالحديث
الإسرائيلي ، المرفق بتسريبات منظّمة إلى الإعلام الدولي، يشي برغبة في قلب قواعد الاشتباك وجرّ لبنان إلى حرب مختلفة عن حرب العام الماضي، بما تعنيه من توسيع رقعة الاستهداف وتغيير طبيعة الضربات، وربما استهداف مناطق بقيت حتى الآن خارج نطاق العمليات.
في هذا المناخ، جاء تقرير قائد الجيش العماد رودولف هيكل أمام الحكومة ليضع النقاش في إطاره الحقيقي. فالاعتداءات
الإسرائيلية المتكررة جنوب الليطاني لا تطرح مجرد خرق للقرار 1701، بل تمنع الجيش عمليًا من تنفيذ خطته وفق الجدول
الزمني المحدّد. وبذلك، تصبح المرحلة الأولى من خطة اليرزة، المفترض إنجازها قبل نهاية العام، غير قابلة للتحقيق. أما الانتقال إلى المرحلة الثانية شمال الليطاني، فبات مرتبطًا تلقائيًا بإنجاز المرحلة الأولى، ما يعني أن أي تأخير في جنوب النهر سينعكس شللًا حتميًا في شماله.
هذا التوصيف الميداني يتناقض، ولو نظريًا، مع ما قاله
رئيس مجلس النواب نبيه بري من أنّ الجيش أنجز 90% من مهمته جنوب الليطاني. فالأرقام، مهما بدت مطمئنة، لا تلغي حقيقة أن الـ 10% المتبقية ليست تفصيلًا ثانويًا، بل هي لبّ الصراع القائم حاليًا، والتي تُدخل لبنان في أتون من نار، وهي تشمل النقاط التي تواصل
إسرائيل منع تثبيتها، والتلال الخمس التي ما زالت تحتلها خلافًا للاتفاقات، والاعتداءات الجوية والبرية اليومية التي تعيق أي تثبيت نهائي لانتشار الجيش. فإسرائيل تدرك أهمية هذه المناطق في ميزان الردع، ولذلك تُبقيها خارج منطق التسويات، لتتحوّل أوراق قوة بيدها في أي تفاوض لاحق.
وفي ظل هذا الانسداد في أفق الحلول الممكنة والمتاحة حتى الآن تبرز الزيارة التي قام بها البابا لاوون الرابع عشر للبنان كعامل قد يكون قادرًا على فتح نافذة في جدار التعقيد. فالفاتيكان، بما يمتلكه من شبكة علاقات ديبلوماسية واسعة، ومن قدرة على التأثير الهادئ في العواصم الكبرى، لا سيما
واشنطن ، يمكن أن يتحوّل إلى عنصر ضغط أخلاقي وسياسي على إسرائيل، لتحريك الملف من زاوية احترام القرارات الدولية، سواء تلك الصادرة في 27 تشرين الثاني 2023 أو القرار 1701. فالبابا ليس مجرّد زائر رمزي؛ هو سلطة معنوية تستطيع في لحظات الفراغ الدولي أن تُعيد هذه القضية إلى طاولة البحث من باب حماية المدنيين والحفاظ على الاستقرار الإقليمي.
إن اللحظة السياسية التي يمرّ بها لبنان دقيقة وخطيرة جدًا، إذ أن إسرائيل تلوّح بالتصعيد، فيما يعمل الجيش في ظروف ميدانية شديدة التعقيد على وقع ما ترسله القوى الدولية من إشارات متناقضة، في الوقت الذي يقف فيه لبنان في منطقة رمادية بين احتمال تثبيت التهدئة واحتمال الانزلاق نحو مواجهة واسعة. وفي هذه المنطقة الضيقة، يكمن رهان لبنان الحقيقي. فهل يستطيع أن يحوّل الضغط الدولي إلى فرصة، وهل في امكانه الاستثمار سياسيًا وروحيًا بدعم مباشر من الفاتيكان لتكريس حقه في تطبيق القرارات الدولية كاملة، لا مجتزأة أو مشروطة بإيقاع التهديد الإسرائيلي؟
ما هو مؤكّد أن لبنان اليوم أمام تقاطع مصيري بين خطّة عسكرية تنفَّذ بصعوبة، وواقع ميداني تحاول إسرائيل إعادة رسمه بالنار والبارود، وزيارة بابوية حملت وزنًا معنويًا فريدًا، وقلق شعبي يستعيد ذاكرة الحروب. وفي هذا التقاطع، يبدو أن نجاح الدولة في إدارة اللحظة لا يقل أهمية عن قدرتها على منع الحرب. فالأعياد، مهما حملت من رمزية، لا تكفي وحدها لحماية الوطن، لكن قد تكون مناسبة لاستعادة شيء من الأمل بأن البلاد التي أنهكتها الأزمات والحروب قد تجد، مرة أخرى، من يقف إلى جانبها في اللحظة الحرجة.