آخر الأخبار

وقفة أخوية أمام مسيرة الإخوان المسلمين

شارك الخبر

الجزائرالٱن _ منذ مدة وأنا أطالب بوقفات نقد ذاتي، نقيم فيها مسيرتنا ونراجع سيرتنا ونصحح مسارنا، خصوصا عند رؤية المسيرة العربية المتعثرة منذ الأربعينيات، والتي جعلتنا نقول اليوم “ربّ يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيتُ عليه”.

وفي ذكرى ثورة يوليو 23 أحس بضرورة وقفة أخوية أمام العلاقات بين الرئيس جمال عبد الناصر قائد الثورة وحركة الإخوان المسلمين، لأنني أراها واحدا من أهم الأسباب التي وصلت بنا إلى ما نحن عليه من هوان، وهي وقفة آمل أن تشجع قادتها على مراجعة الكثير من المواقف التي دفع الوطن العربي ثمنها أضعافا مضاعفة.

وأنا لا أدعي بأنني مؤرخ، وأرى أنني مثقف بسيط يقدم شهادة يعرف أنها ستثير عليه الكثير من هجومات “بو زنزن” ( الزنابير) لكنني لا أملك إلا أن أكون صادقا مع نفسي وفيا لما أنادي به.

ولقد أثبتت الأيام، اعترفنا بذلك أم تجاهلناه، أن حركة الإخوان المسلمين هي أقوى حركة سياسية عرفها الوطن العربي منذ عشرينيات القرن الماضي.

وبرغم كل ما أصابها من قمع وتشريد، وبرغم كل ما ارتكبته هي من أخطاء قاتلة، وبرغم أن من كانوا يوما حضنا راعيا لها أصبحوا يمارسون اليوم أسوأ أنواع التحريض ضدها، حتى أن بائع بقالة كتب في واجهة محله “لا نبيع للإخوان المسلمين”.

 لكن ذلك كله لم يُلقها في سلة مهملات التاريخ، كعشرات الأحزاب والهيئات التي عرفناها منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، والتي نسي الناس حتى أسماءها وقادتها.

وقد يقول البعض أن التيار الإسلامي يعاني اليوم ما ليس سرّا على أحد، ومن العفة والتبصر ألا نفتح اليوم ملفات كهذه، هو ما أرفضه لأن العذاب يتزايد يوما بعد يوم، وعائلات بأكملها تعيش ما يشبه وضعية اليهود في العهد النازي، وبحيث أصبحت أخشي أن يفرض على أعضاء التيار الإسلامي في جهات معينة وضع شارة هلال باللون الأصفر على الصدور، كتلك النجمة الصفراء التي أصبحت تمثل اليوم حليف البعض وذراعه وأذنه وسيده وتاج رأسه، وهو أمل قيادات الشمال النصراني العبري..

من هنا أتصور أن الوقت قد حان لوقفة نقد ذاتي، بعيدا عن النرجسية والتعنت الحزبي الذي يتحكم فيه حجم مَرَضيّ من الولاء الأعمى، كان أحيانا من أهم أسباب النكسات.

وبداية أوضح أنني سأركز على القوة القيادية للجماعة المتمثلة في أرض الكنانة، والتي أزعم أنني أعرف عنها أكثر من معرفتي بالتيارات التي ارتبطت بها بشكل أو بآخر في دولٍ أخرى، مثل إخوان الأردن، والذي ثبت أنهم كانوا أكثر حكمة، وإخوان تونس الذي تصرفوا غالبا بكل هدوء، وقبله هؤلاء وأولئك رجال “حماس” العظماء، الذين كانوا، وما زالوا، الصورة الصادقة للمسلم المؤمن الصابر المصابر المثابر، وجعلونا جميعا نعيش عقدة النقص وذلّ التقصير.

وما أريد أن أركز عليه هو دراسة الأوضاع التي جعلت مما حدث في مصر واحدا من أسباب وصول الوطن العربي إلى مرحلة أسوا من مرحلة ملوك الطوائف.

كان وجودي في القاهرة في بداية الخمسينيات كعضو في بعثة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التعليمية هو الذي جعلني عضوا في خلية الإخوان المسلمين بمنطقة “طرة”، حسب الاتفاق بين قيادة الجمعية ومكتب الإرشاد.

وبرغم صغر السن فلم يكن خافيا علينا، رفاقي وأنا، وجود نوع من المرارة لدى شركائنا في الخلية، وكان سبب ذلك هو الجحود الذي واجهت به الحكومة الملكية الجهاد الرائع الذي كانت تقوم به كتائب الإخوان المسلمين في قتال عناصر الكيان الصهيوني، وبحيث لم يستطع العدو الاستيلاء على قرية فلسطينية واحدة في المنطقة التي كان ينشط فيها شباب الإخوان المسلمين، إلى جانب البطل المصري الشهير البكباشي أحمد عبد العزيز، وضباط الجيش المصري الذي استفادوا من عطلة بدون مرتب للمساهمة مع إخوانهم مجاهدي فلسطين في قتال العصابات الصهيونية.

وفجأة، تعطى الأوامر من القاهرة بإرجاع قوات الإخوان ونزع أسلحتهم، بحجة أن الجيوش العربية ستتولى الأمر، وهو ما كان موقفا تردد آنذاك أنه كان بتشجيع من قيادات عربية إسلامية معينة، قال رجال الإخوان إنها كانت تخشى تحول الإخوان إلى قوة سياسية فاعلة تنافس سلطات بعض دول المنطقة التي تعتبر الإسلام مبرر وجودها ومصدر نفوذها.

ويعود شباب الإخوان إلى مصر وفي النفوس أكثر من غصة، وتعيش القاهرة مجموعة أحداث دموية استشهد فيها القاضي الخازندار ورئيس الوزراء النقراشي والمرشد العام حسن البنا، كل في ظروف مختلفة، لكنها قادت في مجموعها إلى عرقلة النشاط العام لحركة الإخوان المسلمين، إلى أن عادت لها الحياة الفاعلة بانتخاب المرشد العام الجديد، الدكتور حسن الهضيبي، الذي افتتح عهده بزيارة للملك فاروق، قال عنها عند خروجه من القصر الملكي إنها كانت: “زيارة كريمة لملك كريم”.

ولست ممن يحملون نظرية “المؤامرة” كل ما عرفناه من أخطاء، لكنني عندما أسترجع أحداث تلك الأيام، يصدمني تساؤل لم أعرف له إجابة مقنعة.

كان يفترض أن يُرشح لمهمة المرشد العام الجديد واحدا من الأعضاء المؤسسين للحركة من رفقاء المرشد الشهيد، ممن يعرفون سراديب الساحة السياسية المصرية ويدركون أهم التحديات التي تواجهها الحركة، والذي كان من بينهم الشيخ أحمد حسن الباقوري وعبد القادر عودة وصالح العشماوي وآخرين منهم الغزالي والقرضاوي، وقد أضيف لهم، بشوفينية معتدلة، جزائري مثل الفضيل الورتلاني، من منطلق أن الرئيس جمال عبد الناصر عيّن الجزائري المولود في تونس الشيخ محمد الخضر بن الحسين شيخا للأزهر، ربما لإعطاء الشعور بأن الأزهر ملك لكل السنة من المسلمين، أتباع المذاهب الأربعة.

وكان من تم اختياره للإرشاد رجل قانون عُرِف بالفضل والكفاءة، لكنه كان بعيدا عن دهاليز السياسة وكواليس الحركة.

 وأحسسنا يومها، برغم صغر أعمارنا، أن هناك “قوة ما” أرادت اختيار من يمكن “توجيهه” إلى حيث تريد، وترددت كلمتا “الجهاز الخاص” بصفتها اليد التي أجرت الاختيار، وكان أخطر ما في الأمر بروز شكوك حول اختراقات معينة للقوة التي تتحكم في تسيير الأمور.

وتقوم حركة القوات المسلحة في 23 يوليو 1952 بقيادة اللواء محمد نجيب، وتلتف الجماهير حولها بعفوية ملحوظة، ويكون لشباب الإخوان دور كبير في تأطير التظاهرات الشعبية، وتعترف قيادة حركة الجيش للإخوان بدورهم الشعبي فيتم تكريم الشهيد حسن البنا، ويُعلق على قبره “عرجون تمر”، بحسب المثال الجزائري الشائع.

ومع انتهاء أيام العرس يبدأ كل طرف في مراجعة حساباته، وفيما عرفنا أن قيادة الإخوان تقدمت إلى قادة الحركة، التي أطلق عليها طه حسين اسم “الثورة”، بمجموعة من الطلبات قيل إنه كان من بينها عدم تنفيذ قيادة الثورة أي إجراء قبل عرضه على مكتب الإرشاد لمناقشته وإعطاء ملاحظاته بشأنه.

وأن يقال هذا لقيادة عسكرية وضعت رأسها على كفها ليلة 23 يوليو، وتملك مقاليد القوة الحقيقة التي تتكامل فيها القوات المسلحة مع الجماهير العريضة، فإنه يعتبر محاولة ساذجة لفرض وصاية على القيادة العسكرية، بل ويمكن أن يراه البعض استثارة حمقاء للعنجهية العسكرية.

ويحاول عبد الناصر التقرب من الجماعة بأسلوب عملي ذكي لا يُفقده حرية المبادرة، فيقرر تعيين أحد الشخصيات الإخوانية البارزة وزيرا للأوقاف، كما يُعينُ آخرَ نسيت اسمه عضوا في الحكومة، وكان الرد من مكتب الإرشاد موقفا اعتبره مجلس الثورة صفعة “بليدة” للمجلس، إذا قرر مكتب الإرشاد عزل الباقوري وزميله من مهامهما في الحركة، وكان هذا بداية الشنآن.

وبدأ التقرب الإخواني من الرئيس محمد نجيب، وهو ضابط عظيم ومن جرحى حرب 1948، اختاره الضباط الأحرار كواجهة عسكرية عليا بعد تهرب عزيز المصري وأحمد صادق من تحمل مسؤولية قيادة الحركة، وكان المفروض أن يظل دوره شرفيا يحظى باحترام الجميع ( ولا مجال للمقارنة مع مسار الرئيس الجزائري أحمد بن بله، الذي كان فعليّا من أوائل قادة الثورة الجزائرية)

   ويكسب عبد الناصر أرضية شعبية كبيرة بعد توقيع اتفاقية الجلاء، مما أثار قيادات الإخوان وهم يرون ميل الشارع للرجل الذي أخرج الإنغليز، بعد عشرات السنين من الاحتلال البريطاني البغيض.

وبدأت حملة عناصر الإخوان ضد عبد الناصر، وقد عشت هذا بنفسي، وكان أهم الاتهامات الفقرة المتعلقة بعودة القوات البريطانية إلى مصر إذا حدث اعتداء على تركيا، وهي فقرة وضعها “أنتوني ناتنغ” في اتفاق الجلاء ليمرر الاتفاقية على عتاة المتعصبين للتاج البريطاني في البرلمان البريطاني.

وتعقدت الأمور أكثر بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر في المنشية.

وما عرفته خلال السنين الماضية هو أن قيادة الإخوان بريئة من التخطيط للعملية، بل قامت بها عناصر من الجهاز الخاص، الذي سيطر على مسار الحركة منذ انتخاب الهضيبي.

لكن ما حدث هو أن جل المنتسبين للحركة راحوا يرددوا بتكرار مملّ بأنها كانت تمثيلية افتعلتها السلطات لخنق الحركة، وكانت لي في هذا الشأن مناقشات مطولة مع ممثل الإخوان في باكستان الأخ كمال الهلباوي، الذي كنت أحاول إقناعه بأن السياسة تتطلب تحالفات تاكتيكية، وبأن من يدعمونهم اليوم (آنذاك) هم أكبر كارهي عبد الناصر، الذي ما زالت الجماهير تحنّ لأيامه، وبأن مواصلة الهجومات على عبد الناصر وعهده يفقدهم تعاطفا سيحتاجون له يوما.

وقلت له يوما: ستكسبون الكثير إذا كان مضمون حديثكم عنه يقول: ظلَمَنا عبد الناصر كثيرا، ولكنه يظل جزءا من الوطنية العربية المعادية للكيان الصهيوني، ونحن، كمسلمين، نسير على هدى: “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا. 

وما زال للحديث بقية

الجزائر الآن المصدر: الجزائر الآن
شارك الخبر

إقرأ أيضا