في خطوة قد تغيّر مستقبل التصوير الطبي وفحص المواد، تمكن فريق بحث من تطوير تقنية جديدة تتيح الكشف الدقيق عن الأجسام والأنسجة داخل بيئات شديدة التعقيد والإعتام، مثل الأنسجة الحيوية الكثيفة أو المواد الصلبة غير الشفافة، حيث تفشل الطرق التقليدية في الرؤية فيها.
تُظهر الدراسة ، التي نشرت أخيرا في دورية "نيتشر فيزكس" تمكّن التقنية الجديدة من النفاذ عبر ما يمكن تسميته "الضباب الصوتي".
يقول ألكسندر أوبري، مدير الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، والباحث المراسل في الدراسة من معهد لانجفان الفرنسي، في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "العقبة التي نتغلب عليها هنا هي الضباب الكثيف الناتج عن ظواهر الانتشار متعدد الموجات".
عندما تمر موجة فوق صوتية أو ضوئية داخل وسط غير متجانس، كنسيج عضلي أو مادة حُبيبية، فإنها لا تسلك مسارا واحدا؛ بل تتشتت مئات المرات في اتجاهات عشوائية، ما يؤدي إلى طمس الصورة بالكامل، وتُعرف هذه الظاهرة بـ"الانتشار المتعدد".
يشرح أوبري جوهر التقنية الجديدة: "بدلا من محاولة إزالة أثر الاضطراب أو تصحيحه، كما تفعل الطرق التقليدية، نبحث نحن عن الأنماط الثابتة التي تظل قائمة رغم كل هذا التشتت. فكل جسم له بصمة مميزة في طريقة تفاعله مع الموجات، وهذه البصمة تبقى قابلة للاكتشاف حتى وسط الفوضى".
قامت الفكرة على تكوين ما يسمى بـ"بصمة الهدف"، وهي توقيع فريد من الموجات يمثل كيفية انعكاس الموجات عن الجسم في ظروف مثالية، أي في الفراغ أو في وسط بسيط. بعد ذلك، تبحث الخوارزمية عن هذا النمط داخل البيانات المبعثرة والمعقدة التي تُسجّل أثناء التصوير في الوسط الحقيقي.
المميز في تلك الطريقة الجديدة أنها لا تحاول تصحيح الفوضى، بل تستخدمها. يستفيد الباحثون من كل الانعكاسات والارتدادات الداخلية التي كانت تعتبر سابقًا مجرد ضوضاء. هذه الارتدادات تحمل بصمة الهدف، وكلما كان الوسط أكثر تعقيدًا، كانت البصمة أكثر تفردًا.
لا تتوقف أهمية هذه التقنية عند الجانب الفيزيائي، بل تمتد إلى التطبيقات الطبية المباشرة. ففي إحدى تجارب الفريق، استخدم الباحثون الطريقة الجديدة لاكتشاف علامة طبية تُزرع في أنسجة الثدي لمتابعة موقع الورم بعد الخزعة، وهي غالبًا ما تكون غير مرئية في التصوير بالموجات فوق الصوتية التقليدي بسبب التشتت العالي في الأنسجة.
يقول أوبري: "إلى جانب تسهيل اكتشاف علامات الأورام المستخدمة في متابعة سرطان الثدي، يمكن تطبيق طريقتنا مباشرة في مجال الطب التدخلي لمراقبة موقع الإبر أو القساطر داخل الجسم. هذه الأدوات يصعب رصدها بالموجات فوق الصوتية لأن صداها المباشر لا يُلتقط دائمًا بالمجس، لكننا نستطيع تحديد موقعها بدقة كبيرة من توقيعها الموجي المعقد".
هذا التقدم يعني أن الأطباء سيتمكنون قريبًا من مراقبة أدواتهم داخل الجسم أثناء الجراحة أو العلاج دون الحاجة إلى تقنيات إشعاعية ضارة أو أجهزة تصوير مكلفة مثل الرنين المغناطيسي. كما أن واحدة من أكثر النتائج المذهلة في الدراسة كانت قدرة الطريقة الجديدة على رسم البنية الداخلية لعضلة بشرية حية، إذ تمكن الفريق من رسم بنية عضلة الساق، وكشف اتجاه الألياف بدقة عالية.
يقول أوبري: "قد يعمل رسم خريطة ألياف العضلات كأداة قوية لمتابعة التغيرات البنيوية الناتجة عن التليف أو التنكس الدهني في أمراض العضلات والأعصاب. كما أن مراقبة ألياف القلب تساعد في رصد الاضطرابات المبكرة في بنية العضلة القلبية، مثل اعتلالات عضلة القلب أو التليف".
ويضيف: "يمكن أن تساعد هذه التقنية في متابعة تعافي العضلات بعد الإصابات، أو حتى تقييم فعالية برامج إعادة التأهيل".
أظهر الفريق البحثي أن طريقة "البصمة" قادرة على استخراج معلومات كمية دقيقة عن الخصائص الفيزيائية للوسط، مثل الضغط أو الصلابة، وذلك من تحليل طريقة استجابة الهدف للموجات.
فبحسب أوبري، استخدم الفريق الفقاعات الميكروية الصغيرة التي تحقن أحيانا في الجسم أثناء الفحص بالموجات فوق الصوتية لتوضيح الصورة. هذه الفقاعات تتفاعل مع الموجات بطريقة تختلف حسب ضغط الدم حولها.
وباستخدام "طريقة البصمة"، استطاع الباحثون تحليل هذا التفاعل بدقة كبيرة، بحيث تمكنوا من تقدير ضغط الدم مباشرة من الصورة الصوتية، مما يعني أنه يمكن يومًا ما استخدام التقنية للتنبؤ بمخاطر الجلطات أو السكتات الدماغية بطريقة آمنة وسريعة وبدون أي تدخل جراحي.
قد يبدو للوهلة الأولى أن إنشاء بصمة لكل هدف يتطلب معرفة كاملة ومسبقة بشكل الجسم وحجمه ومادته، لكن أوبري يؤكد أن الطريقة مرنة للغاية، ويضيف: "لسنا بحاجة بالضرورة إلى معرفة الشكل أو المادة مسبقًا. ما نحتاجه هو أداة حسابية فعالة، تحليلية أو رقمية، قادرة على تحويل مصفوفة البصمة لأي نوع من الأجسام. ثم نبحث عن مجموعة المعلمات التي تُعطي أعلى توافق بين البصمة والبيانات المُقاسة. ومع التطور السريع في أدوات الذكاء الاصطناعي، يمكننا الآن إجراء مثل هذه العمليات بسرعة وكفاءة مذهلتين".
هذه النقطة جوهرية لأنها تعني أن التقنية لا تقتصر على الأهداف المعروفة مسبقًا، بل يمكنها اكتشاف أجسام غير متوقعة أو معقدة الشكل داخل الأنسجة أو المواد الصناعية.
في حين أن التجارب ركّزت على التصوير بالموجات فوق الصوتية، يؤكد أوبري أن المفهوم "عامل البصمة" أكثر مرونة، ويشرح: "يمكن أن يكون للطريقة استخدامات مهمة جدًا في المجالات العسكرية، حيث تحتاج إلى رصد أهداف معقدة مثل الألغام أو الطائرات المسيّرة في بيئات مليئة بالضوضاء. كما أنها مفيدة جدًا في اختبار المواد في الصناعات النووية أو الجوية، حيث تُمثل اكتشاف العيوب في البنى المعقدة تحديًا مستمرًا منذ عقود".
هذا الاتساع في نطاق الاستخدام يفتح الباب أمام تطبيقات إضافية في الاتصالات اللاسلكية والاستشعار عن بُعد وحتى الفيزياء البيئية، حيث يمكن تتبع الأجسام تحت الماء أو داخل التربة أو الصخور الكثيفة.
إن عامل البصمة ليس مجرد خوارزمية تصوير، بل هو مفهوم فيزيائي شامل يمكن تطبيقه في أي مجال تُستخدم فيه الموجات لاستكشاف المجهول. من الطب إلى الصناعة إلى الاتصالات، سنتمكن من الرؤية بوضوح داخل العوالم التي كانت حتى اليوم غارقة في الضباب.