آخر الأخبار

علماء للجزيرة نت: العناكب لا تنام فقط بل ربما تحلم أيضا

شارك





على الرغم من أن العناكب تُثير الخوف والاشمئزاز لدى كثير من الناس، إلى درجة أن مجرد رؤيتها معلّقة بلا حراك قد يدفع بعضهم إلى تجنّبها تمامًا، إلا أن هذه الكائنات الغامضة قد تخفي جانبًا أكثر إثارة للفضول.

فبدلا من النظر إليها كمصدر للرهاب فقط، يمكن التساؤل: هل من الممكن أن تكون العناكب، في لحظات سكونها على شبكتها، غارقة في النوم وربما حتى في الأحلام، تماما كالبشر؟

مصدر الصورة لا يزال للعلماء كثير لاكتشافه عن نوم العناكب (وكالة الأناضول)

العناكب تحتاج الراحة أيضًا

رغم عدم وجود أدلة تجريبية قاطعة تثبت أن العناكب تنام فعلا، إلا أنه من المعروف أنها تحتاج، مثلنا تماما، إلى فترات من الراحة تمنح أدمغتها فرصة للحفاظ على وظائفها الحيوية، وتساعد أجسامها على البقاء بصحة جيدة.

تقول عالمة البيئة السلوكية والتطورية في جامعة بون ومعهد ماكس بلانك لسلوك الحيوان في كونستانس بألمانيا، دانييلا روسلر "نعلم اليوم أن النوم عنصر أساسي لعمليات التعلم وتشكيل الذاكرة، وهو يرتبط أيضًا بالعديد من الفوائد الصحية. وعندما نفتقد النوم، لا نستطيع ببساطة أن نعمل طبيعيا. وأعتقد أن هذه الحقيقة لا تقتصر على البشر وحدهم، بل تبدو واضحة من مختلف الكائنات الحية، حتى في حيوانات بسيطة مثل قنديل البحر، الذي يفتقر في الأساس إلى دماغ".

وتضيف في حديثها للجزيرة نت، إنه لا يزال أمام العلماء كثير لاكتشافه عن النوم، فنحن لا نعرف تماما كيف ظهر كأداة تكيفية، موضحة: "لذلك أحاول أن أدرس النوم عند العناكب بالطريقة نفسها التي ندرسه بها عند كائنات أخرى".

من الناحية البيولوجية، يعرف النوم بأنه حالة عكسية من انخفاض الاستجابة للمحفزات الخارجية وانخفاض النشاط البدني، مصحوبة بحدوث تغيرات عصبية وفسيولوجية معينة.

لكن من المهم التمييز بين النوم الحقيقي وحالات السكون الأخرى، فبعض أنواع العناكب قد يبدو ساكنا فترات طويلة في انتظار فريسة تقع في شبكته، غير أن هذا السكون لا يعني أنه نائم؛ بل على العكس تماما، يبدو في حالة ترقب ويقظة عالية للانقضاض في اللحظة المناسبة.

مصدر الصورة العنكبوت القافزة تعلق نفسها رأسًا على عقب على خيط حريري لتستريح طوال الليل (دانييلا روسلر)

وضع السكون

ينشط كثير من العناكب ليلا ليتجنب مخاطر النهار، إذ تكون الطيور وغيرها من المفترسات أكثر نشاطًا في الصباح. بهذه الإستراتيجية الذكية، تقلل العناكب من فرص تحولها إلى وجبة سهلة.

إعلان

ومن المدهش أن بعض الأنواع، مثل العنكبوت الأحمر الأسترالي المعروف بـ"العنكبوت ذي الظهر الأحمر"، يستطيع البقاء حتى ستة أشهر من دون طعام، ومع ذلك يظل قادرا على الانقضاض على الفريسة فور ظهورها.

يشبه العلماء هذا السلوك بوضع "السكون" في أجهزة الكمبيوتر، فعندما لا يكون هناك نشاط، يعلِّق الجهاز معظم وظائفه لتوفير الطاقة، لكنه يعود للعمل بسرعة عند أول إشارة.

الأمر مشابه تماما عند العنكبوت، إذ تبقى ساكنة في انتظار أي حركة في شبكتها، وبمجرد أن تشعر بالاهتزاز المناسب، تعود إلى نشاطها في لحظة.

ومع ذلك، يستطيع العلماء معرفة أن العنكبوت دخلت في حالة شبيهة بالنوم من ملاحظتهم وضعية خاصة تسمى "الذهول". في هذه الحالة تصبح العنكبوت أقل وعيا بما حولها، ويصعب إيقاظها إلا بمحفزات قوية.

يمكن تمييز ذلك حين تطوي ساقيها قريبًا من جسمها وتبقى ساكنة، غالبا في مكان مخصص للراحة مثل شبكتها أو بين أوراق الشجر. وأحيانًا تستلقي على سطح ثابت. هذه العلامات يصفها العلماء بأنها حالة راحة عميقة تشبه النوم -بل وربما الأحلام- عند البشر.

مصدر الصورة يستطيع العلماء معرفة أن العنكبوت في حالة شبيهة بالنوم (غيتي)

حالات نوم أغرب

قد يكون لدى بعض الأنواع حالات نوم أغرب، ففي مايو/أيار 2021، قادت روسلر دراسة على العناكب القافزة الأوروبية المعروفة باسم "إيفارشا أركواتا"، وهي نوع شائع يتميز بجسم بني مغطى بزغب ناعم و4 أزواج من العيون التي تمنحها قدرة مدهشة على تكوين صورة ثلاثية الأبعاد لبيئتها.

وكما يشير اسمها، فهي لا تعتمد على الشِباك لاصطياد الفرائس، بل تنقض عليها قفزا، مما يتطلب منها تقديرًا دقيقًا للمسافة وتوقعًا ذكيًا لحركات الفريسة لضمان نجاحها.

جاءت فكرة دراسة نوم هذه العناكب عندما لاحظت روسلر -وكانت حينها تعمل في جامعة هارفارد- أن بعض العناكب في مختبرها يمضي الليل متدليا رأسًا على عقب من خيوطها الحريرية، في مشهد أثار فضولها ودفعها للتساؤل: هل يمكن أن تكون هذه الكائنات الصغيرة نائمة فعلًا؟

تقول روسلر في تصريحاتها للجزيرة نت "أثارني المظهر البصري للعناكب القافزة. فهي تملك ثماني عيون: اثنتان منها كبيرتان جدًا وموجهتان إلى الأمام، تجعلها تبدو وكأنها تحدق فيك مباشرةً، وهو شيء لا يفعله أي نوع آخر من العناكب".

وتضيف العالمة التي تسعى لفهم أسرار نوم العناكب و"أحلامها" المحتملة "هذه العناكب لا تبني شباكا لاصطياد طعامها، بل تتحرك مثل القطط؛ تترقب الفريسة، تلاحقها، ثم تنقض عليها في اللحظة المناسبة.

وتشير إلى أن "العناكب القافزة كانت موضع دراسة قرونا، لكن المدهش هو أن أكثر اللحظات إثارة قد تكون تلك التي نغفل فيها عن النظر إلى حيواناتنا، مثل ما يحدث عندما تدخل في نومها".

اكتشفت روسلر أن العناكب القافزة تنشط نهارا بحثا عن فرائسها، لكنها مع حلول الليل تستقر في مكانها لتستريح، ووصفت في الدراسة التي قادتها كيف يبقى هذا العنكبوت الصغير معلقًا بلا حراك طوال الليل، وهو ما يشير بقوة إلى أنه في حالة "نوم".

ورغم أن بعض الباحثين يفضلون تسمية هذا النوع من النشاط بـ"حالة شبيهة بالنوم" أو "سلوك الراحة الليلية" عند ملاحظته لدى حيوانات أخرى، خاصة اللافقاريات التي تختلف أدمغتها تماما عن أدمغتنا، إلا أن المثير للاهتمام أن مراقبة سلوك راحة العناكب القافزة كشفت عن أوجه تشابه غير متوقعة مع النوم لدى البشر وحيوانات أخرى.

ماذا يحدث أثناء نوم العناكب؟

عند كثير من الحيوانات، ومنها البشر، يتناوب النوم بين فترات هادئة وأخرى نشطة. وخلال المراحل النشطة يظهر ما يُعرف بنوم حركة العين السريعة، حيث يصبح التنفس غير منتظم، وترتعش العضلات، والأشهر من ذلك، تتحرك العينان بسرعة خلف الجفون. في هذه المرحلة تحدث معظم الأحلام الواضحة لدى البشر على الأقل، ويكون نشاط الدماغ قريبًا من حالة اليقظة.

إعلان

أما في المراحل الأعمق من النوم، المعروفة بنوم حركة العين غير السريعة، فيدخل الجسم في حالة من الإصلاح والتعافي، إذ تجدد الخلايا طاقتها وتُعاد التوازنات الحيوية، بينما يُظهر الدماغ موجات بطيئة وثابتة.

وقد أثبتت الدراسات أن كثيرا من الحيوانات، بما فيها بعض الطيور والثدييات، تمر بهذه المراحل من النوم. لكن بالنسبة لمخلوقات صغيرة مثل العناكب القافزة، ظل الأمر غامضًا فترة طويلة، إذ لم يكن معروفًا ما إذا كانت تحصل على نفس النوع من النوم.

تقول روسلر في تصريحاتها للجزيرة نت "حين نشعر بالتعب، تثقل أجفاننا شيئا فشيئا حتى نغفو، لكن الأمر يختلف تمامًا عند العناكب القافزة؛ فهي لا تملك جفونًا لتغلقها، ولا عيونًا متحركة مثلنا. ومع ذلك، فإنها تخفض من نشاطها ومعدل أيضها للحفاظ على الطاقة، وهو ما يجعل مقارنة دورات نومها بدورات نوم الكائنات الأخرى أمرا معقدا".

في أغسطس/آب 2022، قادت روسلر دراسة في جامعة كونستانس بألمانيا ركزت على هذا اللغز، فراقبت العناكب القافزة الصغيرة خلال فترات راحتها الليلية بدقة.

وأظهرت النتائج أن هذه العناكب، عندما تتدلى من خيوطها الحريرية، تمر فعلا بمراحل تتناوب فيها فترات النشاط مع فترات الهدوء، في مشهد يذكر بدورات النوم المعروفة لدى الحيوانات الأخرى.

مصدر الصورة العناكب تنام وربما تحلم مثلنا (بيكسلز)

نوم حقيقي

افترض الباحثون أن العناكب القافزة قد تكون في حالة نوم حقيقية، خاصة أن وضعيتها الليلية المميزة تقترن بحالة من الخمول الواضح. فقد أظهرت العناكب البالغة خلال الراحة مراحل ملحوظة من النشاط المرتفع تضمنت أنماطا تشبه إلى حد كبير دورات النوم. كانت أجزاء من عيونها تومض عشوائيا، في حين ترتعش أرجلها بلا سيطرة.

وتوضح روسلر ذلك: "عندما تنكمش أرجل العنكبوت تماما، فهذا دليل على أن عضلاتها في حالة استرخاء كامل. إذا أرادت الحركة من جديد، تحتاج إلى ضخ السوائل داخل أرجلها لتمديدها، وهذا لا يحدث إلا عندما تكون في حالة وعي تام".

تصف روسلر مشاهدتها الأولى هذه الظاهرة: "كان هذا أغرب شيء رأيته في حياتي"، فقد بدت السلوكيات التي رصدتها شبيهة بشكل لافت بما يحدث في نوم حركة العين السريعة لدى حيوانات أخرى مثل القطط والكلاب، التي كثيرًا ما ترتعش أجسادها وهي نائمة.

ووفقا للدراسة، فإن هذه الحركات عند العناكب القافزة لا تحدث عشوائيا، بل في دورات منتظمة تشبه أنماط النوم لدى البشر، حيث تسجل عادة أقوى الأحلام، ويكون الدماغ في ذروة نشاطه.

وكانت العناكب القافزة نموذجا مثاليا لهذه الملاحظات، إذ تمتلك -على عكس معظم الحشرات والعناكب الأخرى- عيونا ثانوية مزودة بأنابيب شبكية متحركة تساعدها على توجيه النظر بدقة نحو فرائسها.

ولأن صغار هذه العناكب تتميز بهيكل خارجي شفاف، تمكن الباحثون من مشاهدة ما يجري داخل أجسامها بوضوح، مما وفَّر فرصة نادرة لدراسة نومها من قرب.

وفعلا، تمكنت روسلر وفريقها من ملاحظة حركة الأنابيب الشبكية الدقيقة خلال فترات الراحة النشطة، وأطلقوا على هذه الفترات اسم "حالات شبيهة بنوم حركة العين السريعة"، نظرًا لعدم وجود قياسات دماغية مباشرة تؤكد حدوث حالة حركة العين السريعة بشكل قاطع عند هذه العناكب الصغيرة.

المفاجئ أن عدد هذه الحالات وشدتها كان مماثلاً لما لوحظ عند الفئران والجرذان، ما يثير تساؤلات مثيرة عن مدى شيوع هذا النوع من النوم في مملكة الحيوان.

تقول روسلر: "لفترة طويلة جدًا، كان يعتقد أن هذه الحالة مقصورة على أدمغة الثدييات المعقدة، لكن منذ نشر دراستنا، بدأنا نراقب نحو 15 عائلة أخرى من العناكب، وحتى الآن نرى جميعها تُظهر سلوكيات شبيهة بنوم حركة العين السريعة".

مع ذلك، يظل الجدل قائما، فالعناكب تختلف كثيرًا عن البشر، وهو ما يجعل بعض الخبراء متحفظين بشأن ما إذا كانت تختبر فعلاً نوم حركة العين السريعة كما نعرفه.

إعلان

ويشير آخرون إلى أن مجرد إظهار نشاط أثناء الراحة لا يكفي لاعتباره نوم حركة العين السريعة، خاصةً وأن مدى انتشار هذه الظاهرة بين الكائنات الحية والغرض الذي تخدمه لا يزالان غير مفهومين بوضوح.

ولمعرفة ما إذا كانت العناكب "تنام" حقًا، يواصل الباحثون تجاربهم لاختبار استجاباتها خلال فترات الراحة، فإذا تبين أنها تصبح أقل حساسية للمحفزات، أو لا تستجيب على الإطلاق كما لو كانت في سبات عميق، فقد يكون ذلك أقوى دليل حتى الآن على وجود نوم حقيقي -وربما حتى أحلام- في هذه الكائنات الصغيرة.

قد تحلم العناكب أيضًا

يثير رصد حالات شبيهة بنوم حركة العين السريعة عند العناكب القافزة أسئلة مذهلة: هل يمكن لهذه الكائنات الصغيرة أن تحلم كما نفعل نحن؟ وبما أن العناكب القافزة تعتمد اعتمادا كبيرا على حاسة البصر في صيدها وحركتها، فهل يمكن أن تكون أحلامها أيضا "بصرية" الطابع؟ وإذا صح ذلك، فما الذي قد تراه في نومها؟ وهل للأحلام عندها وظيفة بيولوجية كما يُعتقد عند البشر والحيوانات الأخرى؟

تقول روسلر "تعد هذه النتائج أول دليل مباشر على وجود حالة شبيهة بنوم حركة العين السريعة لدى مفصليات الأرجل، خصوصًا في كائن بري، مما يفتح الباب لفرضية أن هذه العناكب قد تحلم فعلاً".

وتضيف بثقة "شخصيًا، بعد مشاهدة مئات العناكب، لم يعد لدي شك في أنها تحلم، تماما كما نسلم بذلك عند رؤية قطة أو كلب يرتعش أثناء نومه. يبقى التحدي الآن أن نثبت ذلك علميا".

لكن من منظور بحثي بحت، يبقى السؤال مطروحًا: هل يمكننا يوما ما إثبات أن العناكب تحلم حقا؟ تقول روسلر: "سيظل هذا على الأرجح لغزا إلى الأبد، ما لم نتمكن من التحدث إليها، وكما هو الحال مع البشر، الدليل الوحيد على وجود الأحلام هو أن يرويها صاحبها، وهذا ما لا يقدر أي كائن آخر على فعله".

وتضيف "إذا كان العنكبوت يحلم فعلا، فأنا أتصوره يحلم بالذباب، أو بالقفز على فريسة، أو بالهرب من مفترس. وفي النهاية، أيًّا كانت نسخة الحلم لديه، فلا بد أن لها وظيفة تكيفية وبيئية، لذا، من الواضح أن هناك شيئًا يحتاج إلى استكشاف".

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار