نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا تناول حالة هدى أبو النجا، الطفلة الفلسطينية البالغة من العمر 12 عاما، التي وصلت إلى أحد مستشفيات قطاع غزة في أوائل تشرين الأول/أكتوبر وهي تعاني من سوء تغذية حاد أنهك جسدها.
وأفاد أطباء الطفلة بأنها فقدت نحو ثلث وزنها خلال 6 أشهر، وبدت أطرافها نحيلة، وأضلاعها وعظام كتفيها بارزة، فيما أصبح شعرها البني خفيفا وتحول إلى لون باهت، وكانت تكافح من أجل الكلام أثناء استلقائها على نقالة.
واجتاحت موجة جوع واسعة قطاع غزة على مدى أشهر، وفي آب/أغسطس أعلنت لجنة دولية من الخبراء عن مجاعة "مفتعلة بالكامل" في أجزاء من القطاع، مع التحذير من مجاعة وشيكة في مناطق أخرى.
وحذرت منظمات إغاثة من أن قيود الاحتلال الإسرائيلي الصارمة على إدخال الغذاء فاقمت الحرمان على نطاق واسع.
وأثارت صور أطفال يعانون من سوء تغذية حاد قلقا عالميا بشأن طريقة تعامل الاحتلال الإسرائيلي مع حركة حماس.
وبحلول الذكرى السنوية الثانية للصراع في تشرين الأول/أكتوبر، عزت السلطات الصحية في غزة 461 حالة وفاة إلى سوء التغذية، من بينها 157 طفلا، مع ارتفاع حاد في هذه الوفيات خلال العام الجاري.
وشخص الأطباء هدى في آذار/ مارس بمرض السيلياك، وهو اضطراب مناعي يهاجم فيه الجسم بروتين الغلوتين الموجود في القمح والحبوب الأخرى، وأظهر فحص أُجري في نيسان/ أبريل تلفا في أمعائها، ما أعاق قدرتها على امتصاص العناصر الغذائية وأدى فعليا إلى تجويعها.
ويعالج مرض السيلياك عادة بنظام غذائي خال من الغلوتين يسمح للأمعاء بالتعافي، غير أن الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة من آذار/ مارس حتى منتصف أيار/ مايو، وما تبعه من قيود حدودية، حرم هدى من الأطعمة الأساسية التي تحتاجها، مثل الدقيق الخالي من الغلوتين، والفواكه، والخضراوات، واللحوم، والبيض، والأسماك.
وأوضحت الصحيفة أنها أعادت بناء قصة هدى استنادا إلى عشرات التقارير الطبية، وصور لأعراضها، ومقابلات مع والديها وأطبائها، إلى جانب تقييم ثلاثة أطباء متخصصين في مرض السيلياك، الذين اتفقوا على أن فرص تعافيها كانت كبيرة لو توفر الغذاء والرعاية الطبية المناسبة.
ونقل التقرير عن كارلو كاتاسي، أستاذ طب الأطفال في جامعة ماركي التقنية بإيطاليا وخبير مرض السيلياك، قوله في رسالة بريد إلكتروني إن "التدهور التدريجي لحالة هذه الفتاة المسكينة كان سببه بنسبة 100 بالمئة نقص الغذاء الغني بالبروتين والخالي من الغلوتين، بالإضافة إلى أوجه قصور متعددة في العلاج المقدم لها في المستشفى".
وأشار التقرير إلى أنه بحلول حزيران/ يونيو كانت هدى في حالة صحية حرجة دفعت أطباءها إلى التوصية بعلاجها خارج غزة، إلا أنها بقيت في تشرين الأول/ أكتوبر بانتظار مغادرة القطاع، وقالت لمصور فلسطيني إنها أصبحت "هيكلا عظميا".
وصف والدا هدى وأطباؤها الطفلة بأنها ذكية ومعبرة، وقالت والدتها سمية إن ابنتها، واسمها الأصلي هدى الله، وهي الثانية بين أربعة أشقاء، كانت تخبز الخبز في فرن طيني، وتعد العشاء، وتساعد في تجهيز إخوتها للنوم، كما ذكر والدها حسين، الذي يعمل في قوى الأمن الداخلي التابعة لحكومة حماس في غزة، أنها لم تكن تعاني من مشكلات صحية خطيرة قبل المرض.
وفي سياق متصل، أعلن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الثاني من آذار/ مارس فرض حصار على غزة لمعاقبة حماس لرفضها، بحسب ادعائه، قبول مقترح وقف إطلاق النار، وأعلن مكتبه "اعتبارا من صباح اليوم، سيتوقف دخول جميع البضائع والإمدادات إلى قطاع غزة".
وفرضت دولة الاحتلال الإسرائيلي طوال فترة الحرب قيودا على ما يدخل غزة، مبررة ذلك بمنع وصول إمدادات قد تعزز قوة حماس، وكان حصار آذار/ مارس الأشد وطأة مع إغلاق شبه كامل للقطاع.
وبلغت هدى عامها الثاني عشر بعد يومين من بدء الحصار، وكانت عائلتها قد تنقلت مرارا هربا من الحرب قبل أن تستقر في مخيم خيام مكتظ قرب ساحل غزة، وفي آذار/ مارس ظهرت عليها أعراض اصفرار البشرة والإرهاق والإسهال، وأكد طبيبها الأول أحمد الفرا في مقابلة صحفية أن فحوصاتها أظهرت إصابتها بالسيلياك.
كما أظهر فحص أخصائي علم الأمراض في نيسان/ أبريل وجود التهاب في المعدة وتلف في الأمعاء الدقيقة، وشرح الدكتور كاتاسي أن العلاج المناسب كان يستبعد الغلوتين ويشمل التغذية الوريدية والستيرويدات والمضادات الحيوية وإعادة إدخال الطعام تدريجيا، مؤكدا أن هذا العلاج "كان سينجح بنسبة 100بالمئة في إنقاذ حياة الفتاة".
أفادت عائلة هدى بتلقيها دقيقا خاليا من الغلوتين وألواح فول سوداني مدعمة من منظمات إغاثة، إلا أن الندرة الشديدة أدت إلى تورم يديها وقدميها ووجهها. وفي مستشفى ناصر بمدينة خان يونس، شُخصت حالتها بسوء تغذية حاد وشديد، بحسب رئيس قسم طب الأطفال أحمد الفرا.
من جانبها، قالت والدتها إن الأطباء، بسبب نقص الإمدادات، قدموا لها الحليب والمكملات الغذائية والأرز والعنب، وأسهمت عمليات نقل الدم في تحسن مؤقت قبل خروجها من المستشفى، إلا أن حالتها تدهورت مجددا مع تساقط الشعر وآلام المفاصل والصدر.
ودخلت هدى في حزيران/ يونيو مركزا لعلاج سوء التغذية تدعمه منظمة أطباء بلا حدود، حيث تلقت مضادات حيوية وأدوية مضادة للديدان ونظاما غذائيا علاجيا، وأفاد تقرير طبي بأنها تعاني من وذمة من الدرجة الثالثة، وتحسنت قليلا بعد 12 يوما قبل عودتها إلى خيمة عائلتها، ثم عاودت حالتها التدهور.
ومع تصاعد الأزمة، ارتفع عدد الأطفال الذين أدخلوا إلى مراكز علاج سوء التغذية المدعومة من اليونيسف، وتضاعف العدد من حزيران/يونيو إلى تموز/يوليو ليصل إلى أكثر من 16 ألف طفل، وبلغ ذروته في آب/أغسطس عند 17300 طفل.
وأفاد برنامج الأغذية العالمي في تموز/يوليو بأن واحدا من كل خمسة من سكان غزة يواجه خطر المجاعة، وأن نحو 100 ألف امرأة وطفل يعانون من سوء التغذية الحاد، وقال مدير منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس "لا أعرف كيف يمكن وصف هذا الوضع سوى بأنه مجاعة جماعية، وهي من صنع الإنسان. هذا بسبب الحصار".
بعد أيام، وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صور أطفال غزة الهزيلين بأنها "المجاعة الحقيقية"، فيما نفى مسؤولون إسرائيليون خطورة الأزمة.
ومن جهته ادعى المتحدث باسم حكومة الاحتلال ديفيد ميرسر "لا توجد مجاعة في غزة، بل هناك مجاعة للحقيقة".
وأوضح التقرير أن حالة هدى كانت تتحسن أثناء فترات بقائها في المستشفى، حيث كانت تقضي وقتها في التلوين، لكنها تتدهور بعد خروجها بسبب نفاد الغذاء المناسب، وأشار تقرير طبي في أواخر حزيران/ يونيو إلى إصابتها بمتلازمة سوء الامتصاص، مع تلف شديد في الأمعاء الدقيقة أدى إلى فشل في النمو، وذكر أن النظام الغذائي الخالي من الغلوتين "غير متوفر في غزة".
قرر والداها وأطباؤها سفرها للعلاج في الخارج، غير أن ذلك تطلب إحالة طبية وتصريحا أمنيا وموافقة دولة مستقبلة، على أن تنسق منظمة الصحة العالمية العملية. ومع ضغط أعداد المرضى والجرحى خلال الحرب، لم يكن هناك ضمان لمغادرتها.
في آب/ أغسطس عادت هدى إلى خيمة عائلتها بانتظار الموافقة، وسط استمرار النقص وارتفاع أسعار الغذاء. وقال والدها إنه اشترى لها تفاحة بعشرة دولارات، وقطعة حلوى بخمسة عشر دولارا، مضيفا "كنت بحاجة لأن أصبح مليونيرا لأبقيها على قيد الحياة".
بحلول الخريف، عانت من ضيق في التنفس وآلام وإسهال مستمر وإرهاق شديد، وفي الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر دخلت غرفة الطوارئ. وفي التاسع من الشهر ذاته، كتب طبيب في تقرير طبي أنه عند الساعة العاشرة والنصف صباحا "انتقلت الطفلة إلى رحمة الله تعالى"، وعزا وفاتها إلى صدمة إنسانية وسوء تغذية حاد.
ودُفنت هدى بعد ظهر ذلك اليوم، وفي وقت لاحق من الشهر تلقت عائلتها اتصالا من منظمة الصحة العالمية يفيد بأن طلب إجلائها كان لا يزال قيد المتابعة، مع موافقة إيطاليا على استقبالها، قبل أن توافق دولة الاحتلال الإسرائيلي على مغادرتها في أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر، بعد وفاتها.
المصدر:
القدس