في الوقت الذي يبدي العالم كله رفضا متزايدا لإسرائيل بسبب جرائمها في قطاع غزة والضفة الغربية، قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس إعادة النظر في رواتب الأسرى والشهداء والجرحى الفلسطينيين على نحو يقول محللون إنه يمثل دعما لرواية تل أبيب فيما يقول آخرون إنه يستهدف العدالة في توزيع المستحقات دون المساس بالثوابت الوطنية.
وأثارت إحالة رواتب هذه الفئات إلى مؤسسة "تمكين" غضبا عارما، خصوصا بعدما دعت المؤسسة، أمس الثلاثاء، المستفيدين من برنامج الحماية الاجتماعية والمساعدات النقدية إلى التوجه، اليوم الأربعاء، للبنوك لتسلم مستحقاتهم، لكن عائلات الأسرى والشهداء لم تجد أي مستحقات.
وعلى الفور، شهدت محافظات رام الله ونابلس وقفات احتجاج واعتصامات لأهالي الأسرى والشهداء والجرحى احتجاجا على قطع رواتب أبنائهم من جانب المؤسسة التي يثور خلاف بشأن وضعها القانوني.
وردا على هذه الاحتجاجات، أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس بيانا أوضح فيه حيثيات وقف مخصصات الأسرى، ودور "تمكين" التي أحيلت إليها ملفاتهم، وربط ذلك ببرنامج الإصلاح الذي تتبناه القيادة الفلسطينية.
لكن نائب رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني حسن خريشة، قال إنه لا يوجد بين الفلسطينيين من يدعم هذا القرار لأنه يطعن أجساد وأرواح وتاريخ من جعلوا من أصحاب هذه القرارات قادة للبلاد.
وخلال مشاركته في برنامج "ما وراء الخبر"، بتاريخ (2025/12/24) وصف خريشة الخطوة بأنها "انقلاب على قيم وتاريخ ونضال الشعب الفلسطيني، لأنه من غير المقبول أن يعامل من ضحوا من أجل الوطن كحالات اجتماعية".
وحاول عباس القول إنه هو من أصدر قرار إعادة النظر في هذه المستحقات وليست "تمكين"، لكن هذا لن يوقف حركة الاحتجاج على تحويل ذوي الشهداء والأسرى إلى متسولين، كما يقول خريشة.
والأهم من ذلك أن تمكين ليست مؤسسة حكومية تتبع موازنة السلطة وإنما هي مؤسسة اجتماعية لرعاية الفقراء قد توقف كافة الرواتب حال نفاد تمويلها، وفق خريشة الذي اعتبر تقزيم أوضاع الشهداء والأسرى تعني دفع الفلسطينيين لعدم مقاومة الاحتلال الذي يلتهم الضفة الغربية وغزة.
بيد أن الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني محمد هواش، دافع عن القرار بقوله إنه يهدف لإعادة تنظيم هذه الرواتب إداريا وليس لقطعها كما يعتقد البعض، مؤكدا أن حقوق الأسرى والشهداء قضية وطنية بامتياز ولا خلاف عليها.
ولم ينكر هواش أن القرار يحمل في طياته محاولة لتخليص السلطة الفلسطينية من الضغوط الدولية والإقليمية المتزايدة التي تستهدف إنهاءها، لكنه يرى ضرورة عدم حصر القضية في الجانب السياسي دون الجانب الإداري.
فالقرار استبعد فئة معينة من أي مساس، وهو فقط يستهدف إعادة توزيع الأموال على بقية المستحقين بما يتماشى مع أوضاعهم المالية والوظيفية زيادة أو نقصانا، وفق هواش.
كما أن تمكين مؤسسة حكومية وليست اجتماعية، وهي تعمل ضمن الهيكل الإداري للحكومة منذ عام 2019، وتهدف لتحقيق العدالة في توزيع المستحقات وليس وقفها، حسب هواش، الذي قال إن السلطة تواجه ضغوطا كبيرة من أجل الإصلاح وتطبيق قوانين مكافحة الإرهاب.
لكن خريشة رد على هذا الكلام بقوله إن هذه القرارات لا يمكن قبولها في ظل غياب مجلس تشريعي منتخب، وإن الإصلاح الحقيقي يبدأ من تحقيق مطالب الفلسطينيين في إجراء الانتخابات، وإن تبرير القرار بالسعي لحل مشكلة أموال المقاصة التي تجمّدها إسرائيل لم تعد مقبولة.
وحتى لو اعتبرت السلطة هذا القرار نوعا من التحسين في العلاقات وتخفيف نقاط التوتر، فإن إسرائيل لن تكتفي به وستطلب مزيدا من القرارات المشابهة، وفق خريشة، الذي يقول إن القرار "فتح بابا جديدا للرضوخ، وكأننا أصبحنا نمتلك مدرسة في التعاطي مع ما تريده إسرائيل وتجاهل ما يريده الشعب الفلسطيني".
وبعيدا عن هذا السجال، فإن الخبير في سياسات الشرق الأوسط الدكتور محجوب الزويري، يرى أن توقيت القرار لافت ومثير للريبة، لأنه يتزامن مع محاولات بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية– تحويل الفلسطينيين إلى بشر مسالمين يقبلون بمنطق الاحتلال.
كما أن القرار -والحديث للزويري- يأتي في وقت يتهم فيه العالم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، وبالتالي يمكن لتل أبيب مخاطبة العالم بالقول "إن الفلسطينيين الذين تدافعون عنهم يقبلون بنا وبما نريد".
صحيح أن السلطة تواجه ضغوطا كبيرة ومعروفة، لكنها مطالبة بالبحث عن مخارج وليس الإتيان على كل ما بذله الفلسطينيون من أجل مقاومة الاحتلال، كما يقول الزويري، مؤكدا أن التوقيت "يخدم إسرائيل، ويدفع الفلسطينيين لعدم مقاومتها".
فأبعاد القرار واضحة تماما، برأي الزويري، لأن وضع تصنيفات للأسرى والشهداء "يتم لأجل عيون إسرائيل التي لا يجب التضحية بثوابت الشعب الفلسطيني إرضاء لها، بينما هي تحاول غسل أدمغة الفلسطينيين وتحويلهم إلى بشر مسالمين في وجه الاحتلال".
ولا يتوقع هواش تراجعا من الرئيس عباس عن هذا القرار، ويقول إن الرفض لا بد وأن يهدف لتطبيق العدالة وتحسين أداء "تمكين"، بينما يعتقد خريشة أن حالة الغضب والخلاف القائم داخل حركة فتح ربما تدفع للتراجع عن هذا القرار، وإلا فإن رقعة الاحتجاج ستتسع يوما بعد يوم.
المصدر:
القدس